الرئيسية/شروحات الكتب/شرح نونية ابن القيم (الكافية الشافية)/(3) تابع للمقدمة – فصل وكان من قدر الله وقضائه
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(3) تابع للمقدمة – فصل وكان من قدر الله وقضائه

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح نونيّة ابن القيم – المسمّاة: (الكافية الشّافية)
الدّرس الثّالث

***    ***    ***    ***

– القارئ: الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في تتمة كلامه على مقدمة "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية":
فصلٌ:
وكانَ مِن قدرِ الله وقضائه أن جمعَ مجلس المذاكرة بين مُثبتٍ للصّفات والعلو، وبين معطّل لذلك، فاستطعم المعطّل المثبتَ الحديث استطعامَ غير جائع إليه، ولكن غرضهُ عرضُ بضاعته عليه، فقال له: ما تقول في القرآن ومسألة الاستواء.

– الشيخ: يذكرُ في هذا الفصل قصّة مناظرةٍ بين مُثبِتٍ للصّفات ومُعطِّلٍ لها، والظّاهر إن هذا واقع، يعني ليس مِن قبيل ضرب المثل: أن نفرض أنّ مُثبتًا ومُعطّلاً اجتمعا، وقال المثبتُ كذا، وقال النّافي كذا، لا؛ الظّاهر أنّه خبرٌ عن واقع، وأنّ هذا المجلس حصل بالفعل، بدليل قوله في مطلع الفصل: (وكانَ مِن قدرِ الله وقضائه).
إذًا هذا أمرٌ وقعَ، أن جمعَ مجلسٌ مثبتًا للصّفات مِن أهل السنّة والجماعة، ومعطّلاً مِن المبتدعة مِن نُفاة الصّفات، فهو يريد أن يذكر ويعبر عن قصّة ما جرى في هذا المجلس, فيقول: إنّ المثبتَ هو الذي بدأ بالحديث, وهو معنى "استطعمه"، يعني هو الذي سأل، ابتدأ السؤال، المعطّلُ هو الذي بدأ بسؤال المثبت.
لكن ليس هو استطعام طالبٍ محتاجٍ للفائدة ومعرفة العلم، السّائلُ تارةً يأتي متلهّفًا محتاجًا إلى جواب السؤال، ويشعر بالحاجة والضّرورة، وتارة يسأل يريد أن يرى ماذا عند هذا المسئول!، ما عند هذا المفتي!، وهذا كثير في الناس، كثيرٌ مِن النّاس يسألون لا ليستفيدوا العلم, لا ليعرفوا الحكم، بل: يريدون أن يعرفوا ماذا عند هذا المفتي، ولهذا إن أفتاهم بما يهوونه: قبلوه، ولعلّهم أشادوا بالمفتي وعظّموه، وإن أفتاهم بخلاف ما يهوونه: أعرضوا عنه، وربما ذمّوه وتنقّصوه، فهذا واقعٌ كثيرا، وواضح من السؤّال، كثيرٌ منهم يريد جوابًا معيّنًا يوافق التوجّه الذي عنده، ويوافق هواه.
فهي لفتةٌ مِن ابن القيم في هذه العبارة "استطعمهُ لا استطعامَ جائع"، بل يريدُ أن يعرضَ المثبتُ بضاعته، يرى ماذا عنده.
أصل "الاستطعام": هو طلب الطعام، وهذا مِن قبيل الاستعارة والتّشبيه، شبّه السّائل عن العلم بسائل الطعام, طالبٌ للطعام والغذاء، فهذا تعبير مُصوّر للحال.
ويظهر مِن القصّة -بعدما نسمعها- أنّ المثبتَ في الأظهر الذي يقتضيه السّياق أنه: هو، أعني "ابن القيّم"، يحتمل أن يكون "شيخ الإسلام"، ولكن المتدبّر لسياق الكلام، يعني ما اعتبر نفسه شاهدًا وحاضرًا ، فالمتوجّه والمترجّح أنّ المثبتَ: هو، فهو يعبّر عن نفسه.
 
– القارئ: فصلٌ:
وكانَ مِن قدرِ الله وقضائه أن جمعَ مجلسُ المذاكرة بين مُثبِتٍ للصّفاتِ والعلو، وبينَ مُعطّلٍ لذلك..
– الشيخ:
عطف "العلو" على "الصّفات": مِن عطف الخاصّ على العام, ولأنّه -كما سيأتي- "العلو" قضية كبيرة مِن قضايا ومسائل الأسماء والصّفات، وفيها آراءٌ متعددة ومتباينة بين أهل السنّة والمبتدعة، فيخصّها العلماء بكلامٍ ويخصونها بتأليفاتٍ, يؤلّفون فيها كما ألَّف الإمام الذهبي كتاب "العلو"، يعني مخصوص بذكر أدلّة "العلو"، وكتب كذلك ابن القيم كتابه الآخر "اجتماع الجيوش الإسلاميّة على غزو المعطّلة الجهميّة"، وذكر فيه الأدلّة منِ الكتاب والسنّة، والآثار الدّالّة على علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه.
 
– القارئ: فاستطعمَ المعطّلُ المثبتَ الحديث استطعامَ غيرِ جائعٍ إليه، ولكن غرضهُ عرضُ بضاعته عليه، فقالَ له: ما تقولُ في القرآن ومسألة الاستواء.
– الشيخ:
هاتان مسألتان -القرآن والاستواء-، أيضًا مسألة القرآن هي مِن القضايا المخصوصة بالذّكر والعناية والتأليف، القرآن: كلام الله مُنزّلٌ غير مخلوق، أم إنه مخلوق -كما تقول الجهميّة والمعتزلة-؟، فخصّ القرآن والعلو.
فهما مسألتان مندرجتان في المسألة الكبيرة، وهي مسألة "الأسماء والصّفات"، فمِن الإيمان بصفات الله: الإيمان بكلامه، بأنّه يتكلّم، والإيمان بأنّ القرآن كلامه، ومِن الإيمان بذلك: الإيمان بعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه.
 
– القارئ: فقالَ له: ما تقول في القرآن ومسألة الاستواء؟ فقال المثبتُ: نقولُ فيها ما قالهُ ربُّنا -تباركَ وتعالى- وما قاله نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-
– الشيخ:
هذا جواب لكلّ سؤال مِن هذه الأسئلة، كلّ سؤال: ما تقول في كذا؟ نقول ما قاله الله ورسوله، هذا أصلٌ لا يختص بهذا المقام، كلّ أمر، مثلاً ما تقول في هذا الأمر؟ نقول ما قاله الله ورسوله، لا نقدّم بين يدي الله ورسوله، لا نتقدم بشيء، فهذا أصلٌ يجب التنبّه له، وأنّ هذا هو الواجب على المسلم؛ هذا مقتضى شهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، مقتضاها: تحكيم الكتاب والسنّة، تحكيم كتاب الله وسنّة رسوله.
فيقول: نقول فيها ما قاله ربُّنا -سبحانه وتعالى- في كتابه، وما قاله نبيُّنا، وما قاله النّبيّ هو مما جاء به عن الله.
 
– القارئ: فقالَ المُثبتُ: نقولُ فيها ما قاله ربُّنا -تباركَ وتعالى- وما قاله نبينا -صلى الله عليه وسلم-، نصفُ اللهَ تعالى بِما وصفَ به نفسه، وبِما وصفهُ به رسوله -صلى الله عليه وسلم-،  مِن غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومِن غيرِ تشبيهٍ ولا تمثيل..
– الشيخ:
هذا هو مذهب أهلُ السّنّة والجماعة، هذه الجملة فيها تعبيرٌ وبيانٌ لمذهب أهل السنّة على سبيل الإجمال: نصفُ الله بما وصفَ به نفسه هذا ما قاله ربنا، وبما وصفهُ به رسوله-صلى الله عليه وسلم-، فيما صحّ عنه مِن سنّته؛ وصفًا بريئًا مِن: التّعطيل، والتّحريف، والتّكييف، والتّشبيه، والتّمثيل، هذا هو القولُ المشتمل على الحقّ البريء مِن كلّ باطل، فالحقّ أن نصفَ الله بما وصفَ به نفسه، وبما وصفه به رسولُه: إثباتًا بلا تشبيه، وتنزيهًا بلا تعطيل، فمذهبُ أهل السنّة بريء:

  • مِن التّعطيل، وهو نفي الصّفات.
  • ومِن التّحريف، الذي هو صرفُ النّصوص عن ظاهرها.
  • ومِن التّكييف، الذي هو قولٌ على الله بغير علم، "الله ينزل كذا، وهو مستوٍ على عرشه على هيئة كذا": هذا تكييف.
  • ومِن غير تمثيلٍ لصفاته بصفات خلقه، فنزولهُ ليس كنزول المخلوقين، وغضبهُ ليس كغضبهم، وحبّه ليس كحبّهم، ورضاه ليس كرضاهم، بل هو -تعالى- كلّ صفاته مناسبةٌ له، مختصّةٌ به، وصفات المخلوقين مناسبة لهم، ومختصّةٌ بهم، وإن كان بين هذه الأسماء والصّفات وأسماء العباد وصفاتهم قدرٌ مشترك، وهو مدلولُ الاسم العام.

فهذا تحريرُ مذهب أهل السنّة والجماعة في الأسماء والصّفات، تحريره يعني تحديدًا ما هو: هذه الجملة السّهلة الواضحة، أننا نصفُ الله بما وصفَ به نفسه، أو وصفه به رسولُه، هذا ترجمة لقولنا فيها: "قولنا فيها ما قاله ربّنا وما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم".
 
– القارئ: بل نثبتُ له -سبحانه- ما أثبتهُ لنفسهِ مِن الأسماء والصّفات، وننفي عنه النّقائصَ والعيوبَ ومشابهةَ المخلوقات، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، فمَن شبّه الله بخلقه: فقد كفر، ومَن جحدَ ما وصفَ الله به نفسَهُ فقد: كفر، وليسَ ما وصفَ الله به نفسهُ ووصفه به رسوله تشبيهًا، فالمشبّه يعبدُ صنمًا، والمعطّل يعبدُ عدمًا..
– الشيخ:
هذه العبارة تُروى عن "نعيم بن حماد"، أعني قوله: (فمَن شبّه الله بخلقه: فقد كفر، ومَن جحد ما وصفَ الله به نفسه: كفر، وليس ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيهًا).
فالمعطّل النّافي الجاحد لصفات الله: يعبدُ عدماً، والمشبّه لصفات الله بصفات خلقه- الذي يقول: له سمعٌ كسمعي، وله بصر كبصري، ويد كيدي-: يعبدُ صنمًا، فأيّهما أضل؟
قد حكمنا على المشبّه والمعطّل أنّه كافرٌ، مَن جحدَ ما وصفَ اللهُ به نفسَه: كفر، ومَن شبّه الله بخلقه: كفر، فالمعطّل يعبدُ عدمًا، والمشبّه يعبد صنمًا، أيّهما أكفر وأضل؟
المعطّل؛ لأنّ العدم أنقص مِن الصّنم، "الصنم" له وجود، مُشاهَد، أمّا العدم! فالمعطّلُ أضلّ وأكفرُ مِن المشبّه، ولهذا قال أهلُ العلم هذه الكلمة، "فإنّ المعطّل يعبدُ عدمًا، والمشبّه يعبدُ صنمًا".
 
– القارئ: والموحّدُ يعبدُ إلهًا واحدًا صمدًا..
– الشيخ:
يعبدُ إلهًا واحدًا، صمدًا، حيًّا، قيّومًا، موصوفًا بصفاته الكمال، الموحّد المؤمن بالله ورسوله، المحكِّم لكتاب الله ورسوله: يعبدُ إلهًا واحدًا صمدًا، إلهًا واحدًا موصوفًا بصفات الكمال، له الأسماء الحسنى والصّفات العلى.
 
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11]
هذه الآية محور للمذهب الحقّ، ولهذا إذا ذُكرِ مذهب السنّة يُقال على معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، فإنّ هذه الآية تضمّنت الردّ على أهل التّشبيه "الممثّلة"، وعلى أهل التّعطيل "الجهميّة":

  • ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾: ردّ التّشبيه والتّمثيل.
  • ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾: ردّ لإلحاد المعطّلين.

فالمذهب الحقّ يقوم على الإثبات: إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه مِن الأسماء والصّفات، وتنزيهه في هذه الصّفات عن مماثلة المخلوقات، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، فمذهبُ أهل السنّة بريء مِن التّعطيل المنافي للإثبات، وبريءٌ مِن التّشبيه المنافي للتّنزيه الواجب.
 
– القارئ: والكلامُ في الصّفات كالكلام في الذّات، فكما أنا نثبتُ ذاتًا لا تشبهُ الذّوات، فكذلك نقولُ في صفاته: إنّها لا تشبه الصّفات..
– الشيخ:
هذا أصلٌ مِن الأصول التي يُجادل بها ويردّ بها على النّفاة، هذا أصل، الكلامُ في الصّفات كالكلام في الذّات، لأنّ الذّات لا أحد ينفيها إلا مَن يقول أقوالاً تستلزم نفي الذات، لكن الأصل أنّهم يثبتون أن للعالَم خالقٌ وأنّه موجود.
فمِن الاحتجاج على نُفاة الصّفات أن نقول لهم: القول في الصّفات كالقول في الذّات، فكما تثبتون لله ذاتًا لا تشبه ذوات المخلوقين، فكذلك له صفات قائمة به لا تشبه الصفات؛ وهذا معقول جدًّا، معقول أنّ حكم الصّفات كحكم الذّات.
فهذا الأصل نجادل به الجهميّة والمعتزلة، بل والأشاعرة، نجادلهم على هذا الأصل: قولوا في صفات الله ما تقولونه في الذّات، فكما تثبتون لله ذاتاً لا يعلمُ أحد كنهها وكيفيتها، ولا تشبه الذّوات: فقولوا في الصّفات قولكم في الذات.
 
– القارئ: فليسَ كمثله شيءٌ، لا في ذاتهِ ولا في صفاتهِ ولا في أفعاله..
– الشيخ:
هذا إثبات، هذه الآية شاملة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} بإطلاق: لا في ذاته ولا في صفاته، في علمه، وسمعه، وبصره، وكلامه، وقدرته، ليسَ كمثله شيءٌ في قدرته، وليسَ كمثله شيءٌ في علمه، ولا في أفعاله، ليسَ كمثله شيء في نزوله، أو استوائه على عرشه، أو مجيئه، أو غضبه، أو رضاه، أو حبّه، ليس كمثله شيء: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
 
– القارئ: فلا نُشبّه صفات الله بصفات المخلوقين، ولا نزيلُ عنه -سبحانه- صفةً مِن صفاته لأجل تشنيعِ المُشنعين وتلقيبِ المفترين..
– الشيخ:
نصفُ الله بما وصفَ به نفسهُ ووصفه به رسولُه، ونثبتُ له ذلك، ولا ننفي عنه شيئًا مِن الصّفات مِن أجل تشنيع المشنعين: هذا تشبيه، هذا تجسيم، هذا كذا، لا، لا نُزيلُ ولا ننفي عنه شيئًا مِن صفاته مِن أجل ما يُشنّع به المعطّلةُ على أهل السنّة، فننفي الحقّ فرارًا مِن التّعيير أنّهم يعيّروننا: مجسّمة أو مشبّهة.
 
– القارئ: فلا نُشبّه صفات الله بصفات المخلوقين، ولا نزيلُ عنه -سبحانه- صفةً مِن صفاته لأجل تشنيعِ المُشنعين وتلقيبِ المفترين.
كما أنّا لا نبغضُ أصحابَ رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- لتسمية الرّوافض لنا "نواصب"، ولا نكذبُ بقدر الله ولا نجحدُ كمالَ مشيئته وقدرته لتسمية القدرية لنا "مُجْبِرة"

– الشيخ: هذا استطراد، لمــَّا ذكر أننا لا نزيلُ ولا ننفي شيئًا مِن الصّفات لتشنيع المشنعين وقولهم "إنّ هذا تجسيم، وأنّ أهل السنّة مجسّمة أو مشبّهة أو ما أشبه ذلك"، كما أننا لا نبغضُ أصحابَ رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- لتسمية الرّافضة لنا "نواصب"، نحبّهم وليقولوا فينا ما قالوا.
الرّافضة يسمّون المحبّين للصّحابة "نواصب"، أي إنهم ينصبون العداء لأهل البيت، لأنّ عندهم أنّ مَن أحبّ "أبا بكر" فقد أبغض "عليًّا"، ومَن أبغض "عليًّا" فهو ناصبي، هكذا يقررون الحكم الفاسد؛ مَن أحبّ "أبا بكر" فقد أبغض "عليًّا" يعني لا يجتمعان، ومَن أبغض "عليًّا" فهو ناصبيّ، المقدّمة الثّانية صحيحة، والأولى باطلة.
وكذلك لا ننفي القدر: لتشنيع القدريّة لنا بأننا "مُجبرة"، القدريّة -كالمعتزلة-: ينفون القدر، ويسمّون المثبتين للقدر أنهم "جبريّة"، فالتعرض لهاتين القضيّتين جاءت على وجه الاستطراد والتّنظير والتشبيه.
(ولا نجحدُ كمال مشيئته وقدرته): لا إله إلا الله، لا يخرجُ عن قدره ولا عن مشيئته شيءٌ، فقدر الله شاملٌ لكلّ الوجود، ومشيئته شاملة.
 
– القارئ: ولا نجحدُ صفات ربّنا -تبارك وتعالى- لتسمية الجهميّة والمعتزلة لنا "مجسّمة، مشبّهة حشوية"، ورحمة الله على القائل:
فإنْ كانَ تجسيمًا ثبوتُ صفاتهِ    لديكم فإني اليوم عبدٌ مجسّمُ
ورضي الله عن الشّافعي حيث قال:
إنْ كانَ رفضًا حـبّ آل محمّدٍ       فليشهدِ الثّقلان أنّي رافضي
وقدّس اللهُ روحُ القائل، وهو شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- إذ يقول:
إنْ كان نَصْبًا حبُّ صحبِ محمّدٍ     فليشهدِ الثّقلان أنّي ناصبي

– الشيخ: هذا كلّه استشهادٌ على أنّ تسمية الحقّ بالمعاني الباطلة: لا يُوجبُ تركهُ والرّجوع عنه، وهذا منهجٌ لأهل الباطل، وهو تلقيب المهتدين وأهل الاستقامة بِما يُخالف أهواءهم ومذاهبهم: يعيّرونهم ويلقّبونهم، فالجهميّة يعيّرون أهلَ السنّة بأنّهم "مشبّهة، ومجسّمة وكذا، وكذا، وحشْوية"، والقدريّة يلقّبون أهلَ السنّة بأنهم "جبريّة، مجبرة"، والرّوافضُ يعيّرون أهلَ السنّة بأنّهم "نواصب" لأنّهم يحبّون أصحاب النّبي -عليه الصّلاة والسّلام.
فنقول: نعم، إن كانَ حبّ الصّحابة نصبًا فنحنُ ناصبة بهذا المعنى، إذا كان حبّ أصحاب النّبي –صلى الله عليه وسلم- نصبٌ فأنا أحبّهم، ولتسمّوني ما تسمّوني.
إنّ كانَ الإيمانُ بالله ورسوله ولزوم طاعته والمحافظة على شرائع الإسلام وآداب الإسلام، إن كان رجعيًّا: فأنا رجعي، يعني قِس على هذا النّسج، ما يقوله الضّالون لأهل الإسلام وأهل الاستقامة والصّالحين مِن عباد الله.
فتسميةُ الحقّ بالأسماء التي ينفرُ عنها النّاس لا يُوجب تركه، الحقّ يجب الثّبات عليه والاستقامة عليه، وإن شنّع المشنعون، ولقّب الجاهلون والمبطلون أهلَه بالألقاب الشّنيعة.
 
– القارئ: فصلٌ:
وأمّا القرآن: فإنّي أقولُ إنّه كلامُ اللهِ مُنزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ..

– الشيخ: يعني ما تقدّم كلام عام في باب الأسماء والصّفات، والآن هذا شروع في تقرير المعتقد السنّي أو أهل السنّة في القرآن.
 
– القارئ: وأمّا القرآن: فإنّي أقولُ إنّه كلامُ اللهِ مُنزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ، منه بدأ وإليه يعود، تكلّم اللهُ به صدقًا وسمعهُ منه جبريلُ حقًّا، وبلّغه محمدًا –صلى الله عليه وسلم- وحيًا، وأن {كهيعص}[مريم:1]، و{حم*عسق}[الشورى:1-2]، و{الر}، و{ق}[ق:1]، و{ن}[القلم:1]: عينُ كلام الله حقيقة.
وأنّ الله تعالى تكلّم بالقرآن العربي الذي سمعهُ الصّحابةُ مِن النبي –صلى الله عليه وسلم-، وإنّ جميعه كلامُ الله وليس قول البشر، ومَن قال: إنّه قولُ البشر فقد كفر، واللهُ يصليه سقر، ومَن قالَ: ليسَ لله بيننا في الأرض كلام فقد جحدَ رسالة محمد –صلى الله عليه وسلم-، فإنّ الله بعثه ليبلّغ عنه كلامه، والرّسول إنّما يبلّغ كلامَ مُرسله، فإذا انتفى كلامُ المرسلِ انتفتْ رسالةُ الرّسول..
– الشيخ: أيضًا هذا تقرير مِن المثبت في هذا المجلس تقرير اعتقاده، الذي هو اعتقاد أهل السنّة، اعتقادهم في القرآن، أننا نقول بأن القرآن "كلام الله"، يعني اللهُ تكلّم به، كلام الله منزّل مِن عنده: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:193]، والآيات الدّالة على تنزيل القرآن كثيرة:
{حم* تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[غافر:1-2]
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الزمر:1]
{تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[فصلت:2]
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}[الشعراء:192-193]
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ}[النحل:102]
(غير مخلوق): ليس بمخلوق، المخلوقُ يكون مُباينًا للخالق، مثل الإنسان والسّماء والأرض، هذه مخلوقات مفعولات وليست أفعالاً، وأمّا الكلام: فهو مِن أفعاله -سبحانه وتعالى- المتعلّقة بمشيئته.
(منه بدأ): بدأ القرآن مِن الله، الكلام يبدأ مِن المتكلّم، (وإليه يعود): هكذا يقول أهل السنة في القرآن (منزّلٌ غيرُ مخلوق): فيه ردّ على الجهميّة والمعتزلة.
قالوا إنّ القرآنَ -على ما جاء في الآثار- يُرفعُ في آخر الزّمان مِن المصاحف ومِن الصّدور، فلا يبقى في الأرض منه حرف.
ويشير في هذه الجملة إلى أنّ نفي أن يكون القرآن كلام الله، ومَن يقول هذا مضمونُ كلامه أنّه ليس في الأرض كلامٌ لله، لا في المصاحف ولا في الصّدور، هذا مضمون مَن ينفي أن يكون القرآن كلام الله.
يقول: فإنّه يلزم على هذا نفي الرّسالة، لأنّ خاصية الرّسول أنّه يبلّغ الرّسالة، فإذا انتفت الرّسالةُ انتفى هذا الوصف عن الرّسول، فإذا ليس في الأرض كلام لله: فمعنى هذا أنّ الرّسول لم يأتِ بشيء عن مرسلهِ، فتنتفي الرسالة، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ}[الحاقة:40] والكلام إنّما يُضاف إلى مَن قاله مبتدئاً، فإضافته إلى الرّسول -الملك جبريل- كما في سورة "التّكوير" وإضافته إلى الرّسول مِن البشر "كما في سورة الحاقة": إضافة تبليغ، وإضافته إلى الله: إضافة ابتداء، والكلامُ إنّما يُضاف حقيقة إلى مَن قاله مبتدئًا، لا إلى مَن قاله مُبلّغًا مؤدّيًا.
وهذه المعاني ستأتينا في نفس القصيدة النّونيّة، فإنّ هذه المقدّمة في الحقيقة نوعٌ مِن التّرجمة الأوّليّة لمضمون القصيدة النّونيّة.
 
– القارئ: ونقولُ: إنّ اللهَ فوقَ سماواته..
– الشيخ: انتقل إلى المسألة الثّانية، لأنّ كلامَ المثبتِ تضمّن التّعبير العام عن معتقده في باب أسماء الله وصفاته، وخصّ مِن ذلك القرآن المتعلّق بمسألة كلام الله، ومسألة العلو، والاستواء على عرشه.
 
– القارئ: ونقولُ: إنّ اللهَ فوقَ سماواته، مستوٍ على عرشهِ، بائنٌ مِن خلقه، ليسَ في مخلوقاته شيءٌ مِن ذاته، ولا في ذاته شيءٌ مِن مخلوقاته، وإنّه تعالى إليه يصعدُ الكلمُ الطّيب، وتعرجُ الملائكةُ والرّوحُ إليه، وإنّه يدبِّر الأمرَ مِن السّماء إلى الأرض، ثمّ يعرج إليه، وإنّ المسيحَ رُفع بذاته إلى الله..
– الشيخ: (بذاته): بروحه وبدنه، المسيح رُفع إلى الله بروحه وبدنه، فهو لم يمت -عليه السّلام-، بل رفعه الله إليه، و"التّوفي" المذكور في القرآن: فسّر بالنوم، {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}[آل عمران:55]، والنّوم يسمّى "وفاةً" بنصّ القرآن: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ}[الأنعام:60]
 
– القارئ: وأنّ رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- عُرِجَ به إلى الله حقيقة..
– الشيخ: يعني بروحه وبدنه كذلك، ليس كما يُقال: إنّ الإسراء والمعراج إنّما هو رؤيا منام، رؤيا المنام: ما فيها تميّز وليس فيها خرق للعادة، الأمر سهل إذا كان مناماً.
التّحقيق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُسري به -بروحه وبدنه- مِن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأنّه عُرِجَ به إلى السّماء، وبلغَ ما شاء الله مِن العلى بروحه وبدنه، لا إله إلا الله، سبحان الله.
هذا هو الأمرُ الباهرُ الخارقُ الهائل، فقريش المشركون استعظموا الإسراء، والرّسول لم يذكر لهم المعراج، إنّما ذكرَ لهم الإسراء، وأنّه أُسْرِيَ به إلى المسجد الأقصى، وأنّه شاهده وأنه وأنه، حتى قالوا له: صفه لنا، فكُرِب -عليه الصّلاة والسّلام- كربًا شديدًا، فجاء في الحديث في القصة: أنّه رُفِعَ له المسجد فصار ينعته لهم نعتَ المعاين الذي يصفُ ما يشاهده عيانًا.
 
– القارئ: وإنّ أرواحَ المؤمنين تصعدُ إلى الله عند الوفاة، فتُعرضُ عليه وتقفُ بين يديه، وإنّه تعالى هو القاهرُ فوقَ عبادهِ، وهو العليّ الأعلى، وإنّ المؤمنين والملائكة المقرّبين يخافون ربّهم مِن فوقهم، وإنّ أيدي السّائلين تُرفع إليه وحوائجهم تُعرض عليه، فإنّه -سبحانه- هو العليّ الأعلى بكلّ اعتبار..
– الشيخ: "بكل اعتبار" يعني علو الذات وعلو القدر، هو العليّ الأعلى: بذاته، وهو العلي الأعلى: قدراً وقهراً، بكلّ أنواع العلو.
 
– القارئ: فلمّا سمعَ المُعطّلُ منهُ ذلكَ..
– الشيخ: ذكر جملة ما يعتقده مِن: علو الله، واستوائه على عرشه.
ونقول عن الله: إنّه فوقَ سماواته: هو الظّاهر ليس فوقه شيء، مِن أسمائه: الظاهر، يقول -عليه الصّلاة والسّلام-: (وأنتَ الظّاهرُ فليسَ فوقكَ شيءٌ).
(مستوٍ على عرشه): كما أخبر في كتابه، في سبع آيات مِن القرآن، (بائن مِن خلقه) "بائن": يعني مباين، ويفسّرها -رحمه الله- معنى "بائن مِن خلقه" بقوله: ليس في ذاته شيءٌ حالّ في ذاته مِن مخلوقاته، وليس في مخلوقاته شيءٌ مِن ذاته، يعني نفيٌ للحلول مِن الجانبين، فمَن زعمَ أنّ الله حالٌّ في شيءٍ مِن مخلوقاته: فهو حلولي ضالّ، نافٍ لعلوّ الله، ومَن زعم أنّ في ذاته -تعالى- شيءٌ مِن مخلوقاته: فكذلك هو ضالّ ملّحد، وإن كان هذا لا أعلم أن أحدًا يقول به، يقول بأنّ شيئاً مِن المخلوقات حالّ في ذاته.
لكن مَن يقول بالحلول -يستلزم مَن يقول بأنّ الله حالّ في المخلوقات- يستلزم إن صحّ لنا التّداخل بين ذاته تعالى ومخلوقاته -سبحانه وتعالى عمّا يقولُ الظّالمون والجاهلون علوًّا كبيرً-.
فهذا معتقد أهل السنّة والجماعة في علو الله: أنّه فوق سماواته على عرشه -يعني مستوٍ على عرشه- بائن مِن خلقه، وفُسِّر ذلك معنى "بائن مِن خلقه".
ثم يذكر الشّيخُ -على سبيل الإشارة- أنواع الأدلّة على علوّه، أدلّة "العلو" كثيرة، وسيذكرها المؤلّف في النّظم، قالوا: إنّ أدلّة العلوّ أكثر مِن عشرين نوعًا مأخوذة مِن علو الله:

  1. كإخباره -تعالى- بأنّه في السّماء
  2.  وإخباره بأنّه مستو على العرش، استوى على العرش
  3. وإخباره بأنّه العلي الأعلى
  4. وإخباره بأنّه يصعدُ إليه الكلم الطيب
  5.  وأنّه تعرجُ إليه الملائكةُ والرّوح
  6.  وأنّه رفع المسيح إليه
  7. وأنّ أرواحَ المؤمنين تصعدُ عند الموت إلى السّماء

ففي هذه الجملة ذكرُ اعتقادَ أهل السنّة في علوّ الله، وذكرُ أنواع الأدلّة على ذلك على سبيل الإشارة، وكلّ نوع مِن هذه الأنواع لها دلائل مِن القرآن مفصّلة، فكم في القرآن مِن الدّلائل على استوائه على عرشه؟ سبع آيات، وكم في القرآن مِن الدّلائل على أنّه تعالى في السّماء؟ هذا نجده في جملة مِن الآيات، كقوله:
{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء}[الملك:16]
{أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء}[الملك:17]
وفي السنة: (أين الله ؟ قالت : في السماء)
وكذلك مِن أنواع أدلّة العلو: وصفه -تعالى- بأنّه العلي، وكم في القرآن مِن ذكر هذا الاسم "العلي العظيم"، فهي أنواع، أدلّة العلو هي أنواع، ومنها كذلك ما دلت عليه السنّة مِن رفع الأيدي إليه في الدعاء، فهذا مما يستدلّ به أهلُ السنّة على علوّ الله.
المقصود: إنّ المؤلف -الذي عبّر عنه بالمثبت- لما ذكرَ المثبت اعتقادَ أهل السنّة في علو الله: ذكرَ أو أشار إلى الأدلّة التي يعتمدون عليها ويحتجّون بها، ويردون بها على المعطّلة نفاة العلو.
 
– القارئ: فلمّا سمعَ المعطّلُ منهُ ذلك: أمسكَ، ثم أسرَّها في نفسهِ، وخلا بشياطينه وبني جنسه، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرفَ القول غرورًا وأصناف المكر والاحتيال، وراموا أمرًا يَسْتَحْمِدُون..
– الشيخ: يَسْتَحْمِدُون: يعني يطلبون الحمد، يطلبون أن يُحمدوا وأن يُمدحوا.
 
– القارئ: وراموا أمرًا يَسْتَحْمِدُون بهِ إلى نظرائهم مِن أهلِ البدع والضّلال، وعقدوا مجلسًا بيّتوا في مساء يومه، ما لا يرضاه الله مِن القولِ، واللهُ بما يعملون محيط، وأتوا في مجلسهم ذلك بما قدروا عليه مِن الهذيان واللغط والتّخليط، وراموا استدعاء المُثبت إلى مجلسهم الذي عقدوه؛ ليجعلوا نُزُله عند قدومه عليهم..
– الشيخ: "نُزُله": هذا مِن عبارات البيان، النّزل: هو ما يُقدّم للضّيف، يعني استدعوا المثبت إلى مجلسهم، وجعلوا نزلَهُ ما لفّقوه من الشبه، يعني هذه كرامته وهذه ضيافته.
 
– القارئ: وراموا استدعاءَ المثبِت إلى مجلسهم الذي عقدوه؛ ليجعلوا نُزُله عند قدومه عليهم: ما لفّقوه من الكذب ونمّقوه، فحبسَ اللهُ -سبحانه- عنه أيديهم وألسنتهم، فلم يتجاسروا عليه، وردَ اللهُ كيدهم في نحورهم فلم يصلوا بالسّوء إليه، وخذلهم المطاعُ فمزّقوا ما كتبوه مِن المحاضر، وقلبَ اللهُ قلوبَ أوليائه وجندهِ عليهم مِن كلّ بادٍ وحاضر، وأخرجَ النّاسُ لهم مِن المخبّآت كمائنها ومِن الجوائف والمنقِّلات دفائنها، وقوى الله جأش المُثبِت، وثبّت قلبه ولسانه، وشيّد بالسنّة المحمديّة بُنيانه..
– الشيخ: في هذه الجملة يذكرُ المؤلِّف -رحمه الله- في تعبيره عن ما جرى في هذا المجلس الأوّل بين المثبت والمعطل، يقول : إن المعطّل خرس ما جادل، يعني ما تكلّم لما سمعَ ما قرّره المثبت مِن اعتقاده، والقول في أسماء الله وصفاته، وفي كلامه في القرآن وفي السنّة، وفي علوّ الله على خلقه: سكتَ ولم يحر جوابًا، وأسرّ مخالفته في نفسه: يعني ما جهرَ بالمعاندة في ذلك المجلس.
أسرّها في نفسه: سكت؛ لأنّه سمع من المثبت ما يكره، سمع مِن المثبت ما يخالفُ ما عنده، ثم انثنى هذا المعطّل إلى أصحابه، كما ينثني المنافقون إلى أصحابهم، {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقر:14]
وهذا المعطل لم يقل للمثبت: نعم، يعني الأمر كما تقول، فينافق، لا، سكت، لم ينافق، لكنه لم يعاند، ورجع إلى أوليائه وأصحاب مذهبه، فأيضًا عقدوا مجلسًا لينظروا فيما يردّون به على حجج المثبتين، فيما يردّون به على هذا المثبت فيما قال، فجمّعوا ولفَّقوا وكتبوا أشياء -يعني مِن الشّبه ومِن النقض لما أدلى به المثبت-، وأرادوا الكيد، وأرادوا أن يستدعوا المثبت إلى مجلس، ويقدّموا له ما لفّقوه وما جمعوه مِن الشّبهات والمناقشات، ولكنّ الله خيّبهم وأضعفهم، ونقضَ ما عزموا عليه، فلم ينالوا المثبت بسوء.
فكأنّ المطاع منهم أو كبيرهم لما رأى أن ما قدّموه وما لفّقوه لا يجدي شيئًا، وأنّهم فاشلون فيما قرّروه ورتبوه وكتبوه: فأمرَ بنقض ما كتبوه، وتمزيق تلك المحاضر التي كتبوها ليقابلوا بها المثبت، ويحتجون بها عليه.
فهذا أيضًا مِن تصوير ما جرى بين المثبت والمعطّل، فهو في المجلس الأوّل لم يحر شيئًا، لكنّه رجع إلى أصحابه، وأهل ملّته، وأهل مذهبه: ليجمع كيدهم، ليجمع مِن الشّبهات ما يمكن أن يغالب به ما أدلى به المثبت مِن الحجج والبيّنات.
على كلّ حال، الظاهر نتوقف عند الفقرة الأخيرة مِن هذه اللقاءات أو المجالس، لأنّه سيأتي دور المثبت، أو كما يقال يعني يأتي موقف، أو ما يقوله، وما يعامل به المثبت هؤلاء الخصوم.
 
– القارئ: فسعى في عقدِ مجلس بينه وبين خصومهِ عند السّلطان، وحَكَّم على نفسهِ كُتبَ شيوخ القوم السّالفين وأئمتهم المُتقدّمين، وأنّه لا يستنصرُ مِن أهلِ مذهبهِ بكتابٍ ولا إنسان، وأنّه جعلَ بينه وبينكم أقوالَ مَن قلدتموه، ونصوص مَن على غيره مِن الأئمة قدمتوه.
وصرّحَ المثبتُ بذلك بين ظهرانيهم حتى بَلَّغه دانيهم لقاصيهم، فلم يُذعنوا لذلك، واستعفوا مِن عقده، فطالبهم المثبتُ بواحدة مِن خلال ثلاث:
مناظرة في مجلس عام، على شريطة العلم والإنصاف، تُحضَّر فيه النّصوص النّبويّة، والآثار السّلفيّة، وكتبُ أئمتكم المتقدّمين مِن أهل العلم والدّين، فقيل لهم: لا مراكبَ لكم تُسابقون بها في هذا المَيْدَان، ومالكم بمقاومة فرسانهِ يدان.
فدعاهم إلى مكاتبته فيما يدعون إليه، فإن كانَ حقًّا: قبلهُ وشكركم عليه، وإن كان غير ذلك: سمعتم جواب المثبت وتبين لكم حقيقة ما لديه، فأبوا ذلك أشدّ الإباء، واستعفوا غاية الاستعفاء.
فدعاهم إلى القيام بين الركن والمقام، قيامًا في موقف الابتهال حاسري الرؤوس، نسألُ الله أن ينزلَ بأسهُ بأهلِ البدع والضّلال..

– الشيخ: يعني منا أو منكم، {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[سبأ:24]
 
– القارئ: وظنّ المثبتُ -والله- أنّ القوم يجيبونه إلى هذا، فوطّن نفسَه عليه غاية التّوطين، وباتَ يحاسبُ نفسه، ويعرضُ ما يثبتهُ وينفيهُ عن كلام ربّ العالمين، وعلى سنّة خاتم الأنبياء والمرسلين، ويتجرّد مِن كلّ هوى يخالف الوحي المُبين، ويهوي بصاحبه إلى أسفل سافلين، فلم يجيبوا إلى ذلك أيضًا، وأتوا مِن الاعتذار بما دلّه على أنّ القوم ليسوا مِن أولي الأيدي والأبصار.
فحينئذٍ شمّر المثبتُ عن ساق عزمه، وعقد لله مجلسًا بينه وبين خصمهِ، يشهده القريبُ والبعيدُ، ويقفُ على مضمونه الذكيّ والبليدُ، وجعله عقد مجلس التحكيم بين المعطّل الجاحد، والمثبت المرمي بالتّجسيم. وقد خاصمَ في هذا المجلس بالله وحاكم إليه، وبرئ إلى الله مِن كلّ هوى وبدعةٍ وضلالة، وتَحيُّز إلى فئة غير رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وما كان أصحابه عليه، والله -سبحانه- هو المسؤول أن لا يكله إلى نفسهِ، ولا إلى شيء مما لديه، وأن يوفّقه في جميع حالاته لما يحبّه ويرضاه، فإن أزِمَّة الأمور بيديه، وهو يرغب إلى مَن يقف على هذه الحكومة أن يقومَ لله قيامَ متجرّدٍ عن هواه، قاصدًا لرضا مولاه، ثم يقرؤها متفكّرا ويُعيدها ويُبديها متدبّرًا، ثم يحكم فيها بما يرضي الله ورسوله وعباده المؤمنين، ولا يقابلها بالسّبّ والشّتم كفعل الجاهلين والمعاندين، فإن رأى حقًّا: قبله وشكر عليه، وإن رأى باطلاً: ردّه على قائله وأهدى الصّواب إليه، فإنّ الحقّ لله ورسوله.
والقصدُ أن تكون كلمةُ السنّة هي العليا جهادًا في الله وفي سبيله، واللهُ عند لسان كلّ قائل وقلبه، وهو المطّلع على نيّته وكسبه، وما كانَ أهلُ التّعطيل أولياءه، إن أولياؤه إلا المتّقون المؤمنون المصدّقون:
 {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة:105]
– الشيخ: في هذه الجملة يذكرُ بقيّة القصّة، لما أنهم أبطلوا ما دبّروه وما كتموه وأنّهم مزّقوا تلك المحاضِر وتراجعوا عن الدخول مع المثبت في المناظرة: دعاهم إلى عقد مجلسٍ عند السّلطان، ويُحضَر فيها كتبُ الأئمة الذين هم هؤلاء يقلّدونهم ويتبعونهم في مسائل الأحكام، في مسائل الفقه وسائر الأحكام، الأفعال من العبادات والمعاملات، وتُحضَرُ كتبُ أولئك، وأقوال أولئك الأئمة، الذين هم يعترفون بإمامتهم ويقلّدونهم، بل ويقدّمون أقوالهم على أقوال غيرهم، وأنهم لم يقبلوا ذلك.
وأنّه دعاهم إلى أمورٍ أخرى: منها عقدُ مناظرةٍ عامة، يشهدها مَن يشهدها مِن الناس، ويبلغها الحاضر والداني للقاصي، فتقوم عليهم الحجّة، وأنهم أبوا أيضًا ذلك، إلى آخره.
وآخر المقام أنّه دعاهم إلى المباهلة، المباهلة بين الرّكن والمقام، يعني في المسجدِ الحرام، بين الرّكن والمقام، ومضمونها الدّعاء على المبتدع المخالف لسنّة رسول الله، وما جاء به -عليه الصّلاة والسّلام-، "المبتدع" يعني أنه لا يقصد الدّعاء على أولئك والمبتدعة الذين نحكم عليهم بالبدعة، لا, المبتدع منّا أو منكم، فندعو بأن ينزلَ اللهُ بأسه على المبتدعين، فكذلك لم يقبلوا.
لم يقبلوا شيئًا مِن هذه المطالب التي تقدم بها المثبت: لا عقد مجلس عند السلطان، ولا مجلس عام يسمع به ويشهده مَن يشهده مِن عامة الناس، ولا المباهلة عند المسجد الحرام.
وبعد هذا: عندما لم يُجْدِ معهم شيءٌ مِن هذه المطالبات، ولم يجيبوا إلى شيء منها، بل استعفوا مِن الجميع، ولم يدخلوا مع المثبت في شيء مِن هذه الأمور التي طلبها منهم ودعاهم إليها: عزم على أن يعقدَ مجلسَ حكمٍ وتحكيم، ويذكر فيه أقوال المثبت وما لديه مِن أدلّة وبيّنات، وكذلك أقوال المبطلين مِن المعطّلة وغيرهم مِن الملحدين، وأن يحكم بين الخصمين بحكم الله ورسوله متجرّدًا عن الهوى والتّعصب، وهذا ما فعله في "الشّافية الكافية"؛ فإنّه صاغها على هذه الصّفة.
فهو يشيرُ في هذه العبارة إلى ما تضمّنته القصيدة النّونيّة، فإنّها تضمّنت عقدَ مجلس تحكيم، وعقد قبله "فصل في عقد مجلس كذا قبل التحكيم والتحاكم"، والتحاكم في هذه المناظرة يعني صارت المناظرة الآن ليست مناظرة مباشرة مع الخصوم، وفي مجلس يتطاولون فيه كما حصل في ابتداء الأمر، بل هي مناظرة تقديريّة.
لمَّا لم يجيبوا إلى شيء مما طلبه منهم: عزم على أن يعقد هذه الحكومة بهذا النّظم الذي يصوّر فيه ويعبّر فيه عن مذهب المثبتين والمعطّلين، ويذكر أدلّة الخصمين، ويحكم بينهم في ضوء كتاب الله وسنّة رسوله -عليه الصّلاة والسّلام- والله أعلم.

 

 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة