الحمدُ لله، وصلَّى الله وسلَّم على محمد، أما بعد:
فإنَّ مِن المستقر في عقيدة المسلمين أنَّ القرآن كلَّه شفاء لأمراض القلوب أولًا، ثم لأمراض الأبدان، كما يدلّ لذلك قوله تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وقوله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، ففي الآيتين وصفَ القرآن كلِّه بأنه شفاء، والله يشفي به مَن يشاء، كما أنَّ القرآن هدى، والله يهدي به مَن يشاء، ومع ذلك فبعضُه أخصُّ بهذا الوصف مِن بعض، كما دلَّت السُّنة على اختصاص الفاتحة بفضل من هذا الوصف، كما في حديث أبي سعيد المتفق عليه في قصة اللديغ، إذْ قالَ -صلَّى الله عليه وسلَّم- للرَّاقي: (وما يدريك أنها رقية)، [1] ولهذا كان من أسماء الفاتحة: الشافية. [2]
وأما قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فأحسن ما قيلَ في (مِن): إنها بيان للموصول في قوله: مَا هُوَ شِفَاءٌ، وتقدم المبيِّن على المبيَّن جائز عند المحققين من أهل العربية، فتقدير الكلام: وننزل ما هو شفاء ورحمة من القرآن، والقول بأن (مِن) للتَّبعيض ضعيف؛ لأنَّه خلاف ما دلَّت عليه الآيتان المتقدمتان، وقالَ بعضُ أهل العربية: إنَّ (مِن) في الآية لابتداء الغاية، وله وجه، لكن أولى منه أنَّها للبيان، كما تقدم، [3] والله أعلم، نسأل الله أن يجعل القرآن لنا هدى وشفاء، وأن يشفي به ما في صدورنا.
أملاه:
عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
في الثامن من جمادى الآخرة 1442هـ