هذا في المستويات الأولى، أما المستويات المتقدمة فلا تُنشر، وإنما يُدرب عليها مباشرة في دورات خاصة. فهذا ما قالوا، وما ترون في ؟ حفظكم الله وسددكم.
الجواب: الحمدُ لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله؛ أمّا بعد:
فمصطلح "الإسقاط النّجمي" ظهر لي -بعد التأمّل والشّرح الوارد في السؤال- أنّه علمٌ فلسفيٌّ؛ أي: مِن علوم الفلاسفة؛ لأنّ مداره على النفس وقدراتها واتصالها بالبدن وانفصالها عنه، وهذه النّفس هي: الروح التي خلقها الله، وجعلها قوامًا لحياة البدن، ويسمّيها الفلاسفةُ "النفسَ الناطقة"، وهي عندهم من المجرّدات التي لا تقوم بها أيُّ صفة.
ولعلَّ هذا المصطلح -الإسقاط النجمي- يمزج بين علم التنجيم الذي يقوم على تأثير النجوم والأحوال الفلكيّة في الحوادث الأرضيّة، وعلم الرُّوحانيّة، الذي يُعنى به الفلاسفة. ولا ريب أنّ ما ذُكر في السؤال عما يُسمَّى بالإسقاط النجمي فيه حقٌّ وباطل، ويحصل الفرقان في ذلك بمعرفة ما قامت عليه الأدلّة مِن الكتاب والسنّة والعقل والفطرة، فكل ما وافقها: فهو حقٌ، وكل ما ناقضها: فهو باطل، وما ليس مِن هذا ولا هذا: فهو محلّ نظرٍ وتردد.
وقد دلّ الكتاب والسنّة على أنّ الإنسان مركّبٌ مِن جسمٍ وروح، فالجسم: هو بدنه المحسوس المشاهد، وهو الذي خلقه الله أطوارًا: نطفة، فعلقة، فمضغة، حتى يكتمل خلقه وتصويره، قال تعالى: }وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ*ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ{[المؤمنون:12-14]، وقال تعالى: }هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ{[آل عمران:6] كل هذا يتعلّق بالجسم المحسوس المشاهد.
وأمّا الرّوح: فهي المخلوقة التي تُنفخ في هذا الجسم بفعل ملَك الأرحام؛ كما دلّ على ذلك حديث ابن مسعود في الصحيحين، قال صلّى الله عليه وسلّم بعد ذكر أطوار تكون الجسم: (ثمّ يُرسلُ إليه الملكُ فينفخُ فيه الرّوحَ)، وبنفخ الرّوح في الجسم: يصير حيًا ويحصل له الإحساس والحركة، وكان قبل ذلك ميتًا لاحسّ ولا حركة، وهذه الروح مع قربها واتّصالها ببدن الإنسان هي مِن عالم الغيب، لا يعرف النّاس مِن حالها إلّا ما دلّت عليه النّصوص، وما يظهر مِن آثارها على البدن.
وقد علم بدلالة الكتاب والسنّة أنّ الروح تتصل بالبدن وتنفصل عنه، فأوّل اتّصال هو ما يكون بنفخ الملك، وأعظم انفصال هو ما يكون بالموت، ودونه ما يكون بالنوم، وهو ما تشير إليه الآية الواردة في السؤال: ﴿ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ﴾[الزمر: 42] الآية.
ومما تقدّم يُعلم أنّ القول بأنّ الإنسان مركبٌ مِن جسمٍ مادي -وهو بدنُه- ومِن نفسٍ -وهي الروح-: أنّ هذا القول حقٌ، وهي مرتبطة بهذا البدن، أمّا تسميتها "بالجسم النّجمي" فهي تسميةٌ ترجع إلى اعتقاد باطل، وهو أنّ هذه النّفس تنشأ مِن إسقاط النّجم، وهذا يتفق مع ما يزعمه المنجِّمون مِن أنّ لكلّ إنسان نجمًا، وهي: الطوالع، فهذا طالعه سَعد، وهذا طالعه نَحس! وهو زعمٌ باطل، فالرّوح تحلّ في بدن الجنين بنفخ الملك كما تقدّم، ولا أثر للنجوم في وجود بدن الإنسان ولا نفسه.
ومِن الباطل مما ذُكر في شرح مصطلح "الإسقاط النجمي، والجسم النجمي" الأمور الآتية:
١- أن الجسم النجمي -كما يسمونه- مرتبط بالجسم المادي بخيط فضي! فهذا محضُ زعمٍ وخيال.
٢- دعوى أن الإنسان يتحكم في مفارقة روحهِ -الجسم النجمي- لبدنه، وأنّها إذا فارقت البدن تتنقَّلُ في أرجاء العالم وفي الفضاء وبين المجرات! وكلّ هذا بزعمهم حقيقة لا في نوم ولا خيال، بل هذا الزعم هو الباطل والخيال، والحقُّ: أن الرّوح لا تفارق البدن إلا بالموت أو النوم، ففي الموت يكون الفراق كليًا، وفي النوم تفارقه نوعًا وقدْرًا مِن المفارقة، وبهذا يُعلم أنّ ما يُسمَّى: بعلم "الإسقاط النجمي" مزيجٌ من الكذب والخيال، ومن بعض مذاهب الفلاسفة والمنجمين، ومِن الباطل العملي المتعلق بمفارقة الروح ما ذُكر عن بعض المدربين من الوسائل التي تساعد بزعمهم على مفارقة الروح للبدن، وهي أشبه ما تكون بطرائق السّحرة والمشعوذين.
٣- دعوى بعضهم أن قصة عمر المشهورة مع القائد سارية هي مِن قبيل تصرف الروح "الجسم النجمي" عند مفارقتها الجسم المادي! وهذا يناقض ما عليه علماء الإسلام، فعندهم أنّ قصة عمر هذه مِن قبيل كرامات الأولياء، مِن نوع الخارق الكشفي البصري والسّمعي؛ فعمر رأى، وسارية سمع، مع بُعد ما بينهما، وقد أصبح ذلك واقعًا بالتجربة كما في وسائل الاتصال والتواصل البصري والسّمعي في هذا العصر.
٤- دعوى بعضهم أن الإسراء والمعراج هو كذلك مِن مفارقة الروح للبدن، وعليه فالرسول -صلّى الله عليه وسلّم- إّنما أُسري وعُرِج بروحه، والصّواب عند المحققين أنّ الإسراء والمعراج كانا يقظةً لا منامًا، وكان بشخصه -صلّى الله عليه وسلّم- بروحه وجسده؛ كما قال تعالى: }سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ{[الإسراء:1]، و"العبد": اسم لمجموع الرّوح والبدن، وهذا أدل على القدرة الإلهّية والفضيلة النّبوية.
إذا عُلِمَ ما تقدّم؛ فإني أقول: لا يجوز تعلُّم هذا العلم الذي يسمى "الإسقاط النّجمي"، ولا تعليمُه، ولا ممارسته، ومَن يفعل ذلك فهو مِن المفسدين، ويجب الإنكار على محترفيه والداعين إليه، والله أعلم .
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك
في السابع عشر من محرم الحرام 1438هـ