الرئيسية/شروحات الكتب/نونية ابن القيم/(158) فصل في زهد أهل العلم والإيمان وإيثارهم الذهب الباقي على الخزف الفاني
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(158) فصل في زهد أهل العلم والإيمان وإيثارهم الذهب الباقي على الخزف الفاني

بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (نونيّة ابن القيم – الكافية الشَّافية)
الدرس: الثَّامن والخمسون بعد المئة

***    ***    ***

 – القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمَّا بعدُ: فقال ابنُ القيم -رحمه الله تعالى-: فصلٌ في زهدِ أهلِ العلمِ والإيمانِ، وإيثارِهم الذهبَ الباقي على الخزفِ الفاني.
– الشيخ: لا إله إلا الله، كان عندي فكرة أنَّك تقرأ الفصلَ السابق من كلام الشيخ "محمد خليل الهراس" لعلَّك تقرأه اليوم.
– القارئ: قالَ الشيخ محمد خليل الهراس -رحمه الله تعالى- في شرحِ "فصلٌ: في إقامةِ المأتمِ على المُتخلِّفِين عن رفعةِ السابقِين" قاَل -رحمه الله-: بعدَ أنْ أفاضَ المُؤلِّفُ في وصفِ الجِنان وعرائسِها من الحورِ العِين، وأتى في ذلك بمَا يهزُّ الشوقَ ويُثيرُ الأشجانَ ويطيرُ بالأرواحِ إلى بلادِ الأفراحِ التي صاغَها ربُّنا -جل وعلا- لأوليائِه فأحسنَ صَوغها
– الشيخ: التي خلقَها يعني: صاغَها، التي خلقها.
– القارئ: ونقَّاها من كلِّ دنسٍ وصفَّاها من كلِّ كدرٍ، ووفَّرَ لهم فيها كلَّ رفاهيةٍ ومُتعةً لأبدانِهم
– الشيخ: لا إلهَ إلا الله، الله المُستعان، سبحان الله العظيم! سبحان الله!
– القارئ: في المطاعمِ والمشاربِ والمناكحِ والملابسِ والمناظرِ البهيجةِ والمُلكِ الكبيرِ، وكلُّ سرورٍ ولذةٍ لأرواحِهم وقلوبِهم برضوانِه، والنظرِ إلى وجهِه.
وما أروعَ قولَه -صلّى اللّه عليه وسلّم- في وصفِ الجنةِ فيما رواه عنهُ أسامةُ -رضي اللّه عنه-:
(ألَا هلْ مِنْ مُشمِّرٍ للجنةِ؟ فإنَّ الجنةَ لا خطَرَ لها، وهي وربِّ الكعبةِ نورٌ يتلألأُ، وريحانةُ تهتزُّ، وقصرٌ مشيدٌ، ونهرٌ مُطَّردٌ وثمرةٌ نضيجةٌ، وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ، وحُلَلٌ كثيرةٌ، ومُقامٌ في أبدٍ، في دارٍ سليمةٍ، وفاكهةٍ وخُضْرٍ..، وحبْرةٍ ونعمةٍ في محلَّةٍ عاليةٍ بهيَّةٍ).
– الشيخ: اللهُ أكبر
– القارئ: أقولُ: بعدَ أنْ صاغَ المؤلفُ هذه الأبياتَ من أشواقِ قلبِه ونظَمَها من فيضِ عواطفِه وآهاتِ وجْدِه، قالَ: أيُّ عُذْرٍ لمن صدَّقَ بهذا النعيمِ والبهجةِ والعاقبةِ الحميدةِ الحسنةِ، ثم ظلَّ قلبُه فيما هو فيه من رقدةٍ وغفلةٍ
– الشيخ: ما عذرُ؟
– القارئ: أيُّ عُذْرٍ لمن صدَّقَ بهذا النعيمِ والبهجةِ
– الشيخ: يا من يُقِرُّ بذا ولا يسعى له، في فصلٍ آخر:
يا من يُقرُّ بذا ولا يسعى له   …   باللهِ قلْ لي كيف يجتمعانِ.

– القارئ: أيُّ عُذْرٍ لمن صدَّقَ بهذا النعيمِ والبهجةِ والعاقبةِ الحميدةِ الحسنةِ، ثم ظلَّ قلبُه فيما هو فيه من رقدةٍ وغفلةٍ، فإذا أفاقَ وصحَا لم يصحَ إلى جدٍّ وتشميرٍ وعملٍ، بل إلى خمودٍ وبلادةٍ وكسلٍ.
أليسَ هذا دليلًا على جمودِ قلبِه ويبسِه، وأنَّه لم يتحرَّكْ فيه الشوقُ إلى بلوغِ هاتِيك المنازلِ الرفيعةِ، والجناتِ الناعمةِ إذ لو شاقَتْه لبذلَ في سبيلِها كلَّ غالٍ ونفيسٍ، وسعى جهدَه في وصالِ عرائسِها المجلوَّة الناعماتِ، وكواعبِها البيضِ الفاتناتِ اللائي يتفجَّرْنَ شبابًا ويتألَّقْنَ جمالًا، ويفِضْنَ رِقَّةً وعذوبةً، واللائِي لو جُلِّيَت صفاتُها ومحاسنُها لجُلمودِ صخرٍ لرقَّتْ جوانبُه وعادَ من فورِه كثيبًا مهيلًا، لكن القلوبَ

– الشيخ: شوف. مُبالغة يعني.
– القارئ: لكنَّ القلوبَ أصبحَت في قساوتِها وجمودِها ويُبسِها أشدَّ من الصخرِ، فلا تهتزُّ بشوقٍ ولا تتحركُ بعاطفةٍ، إذ لو هزَّكَ الشوقُ وكنتَ ذا حسٍّ مُرهَفٍ، لَمَا تعوَّقْت عن هذا النعيمِ الأعلى بالحقيرِ الدونِ من متاعِ هذه العاجلةِ، ولو صادفَت منك هذهِ الصِّفاتِ قلبًا ينبضُ بالحياةِ والحركةِ ويُدركُ مقدارَ هذا المطلوبِ الأعظمِ لجدَّ غايةَ الجَدِّ في طلبِه وسعى إلى تحصيلِه بكلِّ مُمكنٍ، وإلَّا فهلْ يليقُ بتلكَ الخُودِ أنْ تُزفَّ إلى ضريرٍ مُقعَدٍ، فما أشدَّ –حينئذٍ- مِحنتَها به، وما أنكدَ عيشَها معه، وهل يليقُ بشمسٍ تتفجَّرُ حياةً وبضاضةً أنْ تُزفَّ إلى عِنِّينٍ لا حركةَ له ولا شهوة؟ كلَّا واللّهِ، لن تُزفَّ هذه الشموسُ إلَّا لخُطَّابها الحقيقيِّين الذين دفعُوا أثمانَها غاليةً.
– الشيخ: في فصلٍ آخر أظنه تقدم:
يا خاطبَ الحورِ الحِسان وطالبًا   …     لوصالِهن بجنَّةِ الحيوانِ
لو كنت تدري من خطبتَ ومن طلبت  …  بذلْتَ ما تحوي من الأثمانِ

– القارئ: كلا واللّه لن تُزَفَّ هذه الشموسُ إلا لخُطَّابِها الحقيقيِّين الذين دفعُوا أثمانَها غاليةً، وقدمُوا لهنَّ المُهورَ المُجزِيَةَ.
صحَّ عن رسولِ اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- أنَّه قال:
(من خافَ أدلجَ، ومن أدلجَ بلغَ المنزلَ، ألا أنَّ سِلعةَ اللّهِ غاليةٌ ألا أنَّ سلعةَ اللّهِ الجنةُ).
فالمُؤلِّفُ يُخاطِبُ سِلعةَ الرحمنِ التي هي جنَّتُه
– الشيخ: الآن أقولُ على منهجه -رحمه الله- يُعبر عن مضمونِ الأبيات مُراعيًا أسلوبَ الناظم -رحمه الله-. نعم المؤلف.. لأنَّ ابن القيم في الأبيات يقول: يا سلعةَ الرحمن، يا سلعةَ الرحمن، يا سلعة الرحمن أنتِ رخيصةٌ.
– القارئ: لستِ رخيصةً.
– الشيخ: لستِ رخيصةً، بل أنتِ
– القارئ: غاليةٌ على الكسلان
– الشيخ: فيها شيءٌ غالية
لستِ رخيصةً   …       بل أنتِ غاليةٌ على الكسلانِ
يا سلعةَ الرحمنِ ليس ينالُها  …  في الألفِ إلا واحدٌ لا اثنانِ

– القارئ: فالمُؤلِّفُ يُخاطب سلعةَ الرحمن التي هي جنَّتُه بأنَّها ليست رخيصةً مُبتذلة ولا مزهودًا فيها، بل هي غاليةٌ جدًا على أهلِ الكسلِ والبلادةِ الذين لم يُقدِّمُوا من السعيِ ما يُرشِّحُهم للظفرِ بها، وهي لعلوِّها وتمنُّعِها وغلاءِ مهرِها لا يستطيعُ أنْ ينالَها من كلِّ ألفٍ إلا واحدٌ فقط، كما وردَ في الحديثِ الصحيحِ: (إنَّ اللّهَ -عزَّ وجلَّ- يقولُ لآدمَ -عليه السلام-: يا آدمُ اذهبْ فأخرجْ بعْثَ ذُرِّيتَك إلى النارِ، فيُخرجُ من كلِّ ألفٍ تسعمائةٍ وتسعةٌ وتسعونَ).
– الشيخ: أعوذُ باللهِ من النار، نسألُ الله العافية، اللهم سلِّمْ سلِّمْ، ليس ينالُها في الألفِ إلا واحدٌ.

– القارئ: وليسَ من خاطبٍ كفءٍ لسلعةِ اللّهِ الغالية، بل لا ينالُها من عبادِه إلا أولو التقوى والإيمانِ، فهُما ثمنُها الذي لا تُنالُ إلا به من دونِ سائرِ الأثمانِ، ولكنَّها سلعةٌ بائِرةٌ عندَ الأخسَّاءِ من أهلِ الكفرِ والفجورِ والعصيانِ.
فيا سلعةَ الرحمنِ أينَ مُشتريكِ؟ فقد عرضَك مولَاك بأيسرِ الأثمانِ، ولكنَّه ليسَ يسيرًا إلا على كلِّ مُوفَّقٍ ذي ثقةٍ، ولا يستطيعُه أهلُ الخيبة والخذلانِ. وأينَ خُطَّابُكِ الذين يُقدِّمُون لكَ المَهْرَ في حالِ الحياةِ، فإنَّه قبلَ الموتِ ذو إمكانٍ.
وكيف؟ سلُوا هؤلاءِ الخُطَّابَ واصطبارَهم عنكِ، إذا كانوا بكِ ذوِي إيمانِ، فواللّهِ لولا أنَّك حُففْتِ بالمكارهِ والشدائدِ لمَا تخلَّفَ عنك إنسانٌ، ولتعطَّلَت النارُ التي هي دارُ الجزاءِ الثاني، وخلَتْ من السكانِ، ولكنَّ اللّهَ حجبَكِ بكلِّ كريهةٍ حتى لا يُطيقَكِ إلَّا كلُّ مُشمِّرٍ مقدامِ، غير

– الشيخ: اللهُ يلطفُ بنا، الله يلطف بنا، الله يلطف بنا.
– القارئ: إلَّا كلَّ مُشمِّرٍ مقدامٍ غير مُتوانٍ ولا جبانٍ، وحتى يُعرِضَ عنكِ كلُّ مُبطلٍ كسلانِ. وهل ينالُك في عُلاكِ إلا كلَّ عالي الهمَّةِ غيرَ مُخلِدٍ إلى الأرضِ والحُطامِ الفاني، بل ساعيًا إلى ربِّه بمشيئةِ الرحمنِ.
وإذا كانَت الجنةُ لا ينالُها إلا من شمَّرَ لها، وسعى لها سعيَها وجدَّ في طلبِها

– الشيخ: في القرآن، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19].

– القارئ: فكنْ ممَّنْ يُؤثِرُ الآجِلَة على العاجلةِ ويتحملُ كلَّ ما يُصادفه في سيرِه إلى اللّهِ من المتاعبِ والآلامِ إلى يومِ معادِه القريبِ بالموتِ، لِتَعَقُّبِه الراحةَ الكبرى يومَ معادِه الثاني بالبعثِ والنشورِ
– الشيخ: لِتعْقُبَهُ.
– القارئ: لتعقُبَهُ الراحةُ الكبرى يومَ معادِه الثاني بالبعثِ والنشورِ، وإذا استعصَت عليك نفسُك، وأبَتْ إلا الركونَ والإخلادَ إلى عَرَضِ هذا الأدنى، ولم تُردْ إلا الحياةَ الدنيا، فأسىءْ بها الظنَّ واتَّهِمْها وامتحنْ إيمانَك، فلعلَّه أن يكونَ مدخولًا، فإذا رأيتَ نفسَك لا تزالُ تعيشُ في ليلٍ لم ينشقَّ فجرُه، ولم يُسفِرْ صُبحُه، والناسُ من حولِك قد صلُّوا صلاةَ الصبحِ وأخذوا يرقبونَ طلوعَ الشمسِ، فاعلمْ بأنَّ عينَك قد أصابَها العمى وجُعِلتْ عليها غشاوةً تمنعُها من الرؤيةِ، فاضرعْ إلى ربِّك ذي الكرمِ والجودِ وأسألْه أن يهبَكَ إيمانًا صادقًا يُباشِرُ قلبَك حتى تنفتحَ عيناك على الحقِّ، وترى الأشياءَ رؤيةً صحيحةً، واسألْهُ نورًا يهديكَ وأنت سائرٌ إليه، حتى لا تضلَّ ولا تعوجَّ، فليس الخوفُ على العبدِ من ذنوبٍ يُلِمُّ بها، فإنَّها مهما عظُمَت في معرضِ العفوِ والمغفرةِ ولكن الخوفَ كلُّ الخوفِ من أن يزيغَ قلبُه، فيخرجَ عن تحكيمِ الكتابِ والسُّنَّةِ ولا يرضى بحكمِهِما، بل يرضى بآراءِ الرجالِ وظنونِهم الكاذبةِ، فلا قدَّرَ اللّه علينا ذلكَ بفضلِه ورحمتِه: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]
ثم ذكرَ أبياتًا ثمَّ قالَ:
يعرضُ المُؤلِّفُ في هذه الأبياتِ الأولى بخصومِه الذين أعرضُوا عن حكمِ الوحيِ ورضُوا بالتقليدِ والتبعيةِ الذليلةِ، وعزلُوا نصوصَ الوحيِ عمَّا أُريد بها من الإرشادِ والبيانِ عزلًا حقيقيًّا صرَّحُوا به بلا حياءٍ ولا كتمانٍ، وقالوا أنَّها ظواهرُ لفظيةٌ لا يُستفاد منها الإيقانُ، وهي خِطابياتٌ لم تسْمُ إلى درجةِ البرهانِ فأوسَعُوها هجرًا وتعطيلًا، وسامُوها تحريفًا وتأويلًا، وتفويضًا وتجهيلًا بلا بينةٍ ولا برهانٍ، ولم يكتفُوا بذلك َالجرمِ الشنيعِ، ولا بالجنايةِ على النصوصِ، بل سعوا كذلكَ جهدَهم في عقوبةِ أهلِها المُتمسِّكِين بها الذينَ ربئُوا بأنفسِهم عن مهانةِ التقليدِ، ولم يقبَلُوا وقد خلقَهم اللّهُ أحرارًا أن يكونوا من جملةِ العبيدِ.
ثم يلتفتْ بعد ذلكَ إلى أهلِ الغرورِ والغفلةِ الذينَ مدَّ لهم الشيطانُ في حبلِ الأمانيِّ والأمان، فأذهلَهم عمَّا يُراد بهم، وعن قافلةِ الحياة التي تسيرُ بهم فتُطوى أعمارُهم طيًّا وتُدنيهم من نهايتِهم، ترى الواحدَ منهم يمشي بين الناس جذلانَ ضاحكًا ملئَ شِدقَيه مُتبخترًا في حُللِه مزهوًّا بنفسِه كأنَّه قد أمنَ العاقبةَ واتَّخذَ عند اللّه عهدًا أنْ لا يُعذبَه، وتراهُ دائمًا مُفعمًا بالسرورِ والنشوةِ خاليَ القلبِ من جميعِ الهمومِ والأحزانِ، عاكفًا على سرورِه ولهوِه غير مُفكِّرٍ في عاقبةِ أمرِه، كلُّ همِّه وسعيِه إنَّما هو في هناءةِ هذا العيشِ ورغَدِه، ولو أفضَى به إلى جهنَّمَ في غدِه فهو قدْ باعَ حظَّه من نعيمِ الجنةِ وصفو سرورِها بمتاعِ هذهِ الحياةِ القليل

– الشيخ: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ [البقرة:86] اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ [البقرة:175].

– القارئ: الذي لا يلبثُ أن يتلاشَى ويزولَ. والظنُّ بهذا الأحمقِ الغريرِ أنَّه لم يُصدِّقْ بقربِ وقوعِ ما وعدَ به من الثوابِ وأوعدَ به من العقابِ، بل هو ممَّنْ قالَ اللّه خبرًا عنهم: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32] بل هوَ قدْ سمعَ الناسَ يذكرونَ الجنةَ والنارَ، وقد افترقُوا في شأنِهما بين كفرٍ وإيمانٍ، فاختارَ الوقْفَ له مذهبًا، فلا صدَّقَ ولا كذَّبَ، بل وقفَ مُتحيِّرًا مُؤثرًا للأدنَى على الأعلى، تُزيِّنُ له نفسُه السوءَ، وتمدُّ له في حبلِ الغرورِ، وتُركِّبُ له من منطقِها السقيمِ قياسًا فاسدًا غير مُستقيمٍ، وتقولُ له: أتبيعُ ما في يدِكَ من لهوِ الحياةِ ومُتعِها بشيءٍ بينك وبينه أهوالٌ ثِقَالٌ وآمادٌ طِوالٌ، فهو لا يجيءُ إلا بعد الموتِ وخرابِ هذه الدنيا، وحصولِ نشأةٍ أخرى لا يدري ماذَا سيكونُ من حالِكَ فيها.
فلو أنَّ هذا الجزاءَ الآجلَ يحصلُ في الدنيا لهانَ الأمرُ وخفَّ البيعُ على ما فيه من مُخاطرةٍ، ولكن كيفَ الإقدامُ؟ وهذا الجزاءُ إنما يتمُّ في حياةٍ آخرة، فدعْ ما يقولُه الناسُ ويُمنُّون به أنفسَهم، واقطفْ زهرةَ هذه الحياة، واطرحْ ذِكرَ العواقبِ جانبًا فإنَّ هذا بيعٌ ظاهرٌ غبنُه غيرَ مأمونِ العاقبةِ.
وهذا الذي تُعلِّلُه به النفسُ من باطلِ هذا العيشِ وغرورِه ومُطالبتِها إيَّاه أنْ يحرصَ عليه، وأن لا يُضحِّي به في سبيلٍ آجلٍ غيرَ مضمونٍ، ليس أمرًا فرضيًّا تقديريًّا، بل لو أنَّه خلا بنفسِه وبحثَ أغوارَها في غيرِ مُخادعةٍ لوجدَه مُستقرًّا في أعماقِها ولكنَّها تُخفيه خوفًا من الاتِّهامِ بالإلحادِ والزندقةِ

– الشيخ: اللهُ المُستعان، اللهُ المستعان.
– القارئ: ولو أنَّها أمِنَت لتحدَّثَت به في غيرِ مُواربةٍ ولا خفاءٍ، وهذا هو حقيقةُ السرِّ الذي جعلَها تختارُ هذا العاجلَ القريبَ على المُؤمَّلِ البعيد، فهو متاعٌ حاضرٌ قد اشتدَّتْ رغبتُها فيه وتعبَت في تحصيلِه، فكيف تطيبُ أن تبيعَه بنسيئةٍ؟ لا في هذهِ الدنيا ولكن في دارٍ أُخرى لا تجيءُ إلَّا بعدَ فناءِ هذه الأجسامِ وقيامِها من قبورِها في نشأةٍ أُخرى.
هذا ولو أنها جزمَتْ بوجودِ هذا النعيمِ في العُقبى لكنها لا تدري إن كانَتْ ستكونُ من أهلِه أم لا، فنصيبُها منه غيرُ مقطوعٍ به، بل هوَ في حيِّزِ الإمكانِ، فكيف يُقاسُ عندَها بالحاصلِ الموجودِ الذي تُحِسُّه وترَاه.
وهكذا استطاعَت النفسُ من بينِ الشهواتِ والشُّبهاتِ أن تُؤلِّفَ هذه الأقيِسةَ الباطلةَ وأنْ تستنتجَ منها هذهِ النتيجةَ الكاذبةَ، وهي اختيارُ هذا العاجلِ والرِّضا به، على المُؤمَّلِ الموعودِ الذي لن يجيءَ إلا بعدَ زمانٍ بعيدٍ، ثمَّ وجدْتُ من تأويلاتِ الباطنيةِ والفلاسفةِ لنصوصِ الوعدِ واعتقادِ أنَّها أمورٌ مُتخيِّلةٌ لا حقيقةَ لها ما يُناسِبُ مُرادَها في الإنكارِ والجحودِ، فجرَتْ وراءَها وتعلَّلت بها لرِقَّةِ دينِها وضعفِ يقينِها.
وهذا واللّهِ حالُ أغلبِ الناسِ وإن كانُوا لا يتحدَّثون به، ولكنَّ أعمالَهم وتصرفاتَهم تشهدُ عليهم بما يكتمونَه في صدورِهم، فإنَّ الواحدَ منهُم يدأبُ ليلَه ونهارَه في عملِ دنياه وخدمةِ جسدِه، ولكنَّه يملُّ ويستثقلُ أن يُطوِّلَ عليه إمامٌ في خطبةٍ أو صلاةٍّ! فلا حولَ ولا قوةَ إلا باللّه.

– الشيخ: لا إله إلا الله، والله عجبٌ، صحيح، أمرٌ عجبٌ، لا حول ولا قوة إلا بالله!

– القارئ: والنفسُ حين يكونُ فيها شهوةٌ خفيَّةٌ إلى الاقتناعِ بشيءٍ من الأشياءِ فإنَّها تتلمَّسُ كلَّ الوسائلِ التي تُبرِّرُ هذا الاقتناعَ، فتراها تنزعُ وتميلُ إلى شبهاتِ أهلِ الشِّركِ والتعطيلِ مِمَّنْ لا يُؤمنون بحشرِ الأجسادِ، ولا يُقِرُّونَ بنعيمٍ حِسِّيٍّ ولا بآلامٍ جسديةٍ ستجري على العبادِ، هذا مع نقصِها في العلمِ والعرفانِ وعدم قدرتِها على إدراكِ ما في هذه الآراءِ من فسادٍ وبطلانٍ، وتراها كذلك تستنقصُ أهلَ الهدى والإيمانِ وتزدرِيهم حين تُشاهِدُ قلَّتَهم وغربتَهم بين الأهلِ والأوطانِ. ثم هي مع ذلكَ تأتسِي بمن حولَها من الناس الذين لا همَّ لهمْ إلَّا جمعَ هذا الحُطامِ الفاني، والسعيَ في خدمةِ من تُنشد الزُّلفى لديه من أميرٍ أو سلطانٍ، والحرصَ على الظفرِ بما تعلَّقَت به النفسُ من مليحةٍ حسناءَ أو مليحٍ حسنٍ، وعشرة ما أنْسَت به من الأصحابِ والخِلَّان.
فهيَ تستوحشُ أنْ تُفارقَ هذا كلَّه، وأنْ تقطعَ كلَّ هذه العلائقِ وتعيشِ وحدِها في عزلةٍ، لا سيما وهي فارغةٌ ليسَ فيها من المعاني ما يُعوِّضُها عمَّا فارقَت ويصلُحَ أن يقومَ بدلَه.
و شأنُ القلبِ ليسَ كشأنِ الجسمِ، بل هو دائمُ القلقِ والاضطرابِ لا يستقرُّ على حالٍ إلا ويتطلَّعُ إلى أحسنَ منها، فهو يطلبُ ما يسكنُ إليه وينعمُ بقربِه، كمثلِ العاشقِ الولهانِ، ولكنَّه لا يسكنُ إلى شيءٍ أبدًا، بل يحبُّ هذا الآن ثم ينتقلُ منه إلى غيرِه ممَّا هو أطيبُ وألذُّ، وهكذا يظلُّ مُتنقِّلًا على مدى الأزمانِ، بل لو ظفرَ بكلِّ مليحةٍ ورئاسةٍ لم يقرَّ قرارُه وظلَّ في اضطرابٍ وجولانٍ، بلْ لو حِيزت له الدنيا كلُّها بما فيها من مُتَعٍ ورغائبٍ لمَا قرَّتْ منه العينَان، فلا قرارَ للقلبِ ولا سكنَ إلا بالوصولِ إلى محبوبِه الأولِ وهو اللّهُ -جلَّ شأنُه- فمعرفتُه والقربُ منه هو غذاءُ القلوبِ وقوتُها وسكنُها وراحتُها وغايةُ مطلوبِها

– الشيخ: يا الله، يا رب، أستغفرُه وأتوب إليه.
– القارئ: وغايةُ مطلوبِها الذي لا تطمحُ إلى شيءٍ وراءَه. فمهمَا جُلْتَ بفؤادِك بين مغاني الهوى وارتدْتَ له آنقَ المَرعى، وجلبَتْ له كلَّ ما على الأرضِ من حسنٍ، فهوَ شاعرٌ بالفقرِ والحرمانِ، لأنَّه مُضطرٌّ إلى محبوبِه الأعلى -جلَّ شأنُه- فلا يتعوَّضُ عنه بأيِّ حِبٍّ كان. فصلاحُه وفلاحُه ونعيمُه وأُنسُه وراحتُه وسكنُه في توحيدِ حبِّه للرحمنِ، فإذا ما أقفرَ منْ هذا الحبِّ عاودَتْه الحيرةُ والاضطرابُ ورجعَ إلى حالِه من الاضطرابِ والجولانِ.
انتهى. أحسن الله إليك.

– الشيخ: جزاك الله خيرًا، فصلٌ عظيمٌ وطويلٌ لكن، جزاه الله خيرًا.
 
 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :