الرئيسية/فتاوى/إعراب الباء في بسم الله الرحمن الرحيم
share

إعراب الباء في بسم الله الرحمن الرحيم

السؤال :

ذكر كثير من أهل العربية والتفسير أن الباء في (بسم الله الرحمن الرحيم) للاستعانة، وقرأت في "مغني اللبيب" [1] أن باء الاستعانة هي الداخلة على الآلة كـ "ذبحتُ بالسكين"، فكيف يصح قولهم للاستعانة [2] ؟ وهل هو لائق في باب أسماء الله وصفاته؟

 

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 ت الخطيب (2/126)، وينظر: الجنى الداني (ص38).
2 ينظر: الدر المصون (1/14).

الحمد لله؛ إنَّ من القواعد المقررة في علم النحو: أن الجار والمجرور الذي حرف الجر فيه أصليٌّ -لا زائد- لابد له من عامل، وهو ما يُعبَّر عنه بالمتعلَّق، ومن ذلك في القرآن الجار والمجرور في البسملة، ولمَّا لم يُذكر المتعلَّق إلا في قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العلق: 1] اختلف المفسرون وأهل العربية في تقدير المتعلَّق في البسملة؛ فمنهم من قدَّره متقدمًا، ومنهم من قدَّره متأخرًا، ورُجِّح هذا بأن تأخير العامل يفيد الحصر، واختلفوا في تقدير العامل؛ فمنهم من قدَّره بفعل يناسب المقام، مثل : باسم الله أقرأ، أو أكتب، أو آكل، أو أشرب، أو أذبح، أو أدخل، أو أخرج، والباء على هذا للاستعانة، ويكون المعنى: أَقرأُ مستعينًا بالله أو أكتب أو آكل، إلخ.

ومنهم من قدَّره "أستعين" في جميع المواضع، والباء على هذا للتعدية، فإنَّ فِعل الاستعانة يتعدى بنفسه وبالباء، [1]  كما قال تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وقال صلى الله عليه وسلم: إذا استعنت فاستعن بالله [2] .

وعلى كلا التقديرين فإن المقصود من قول القائل: "باسم الله" الاستعانة به سبحانه على الأمر المقصود مع ذكر اسمه نطقًا، وهذا ما يفيده دخول كلمة "اسم" بين حرف الجر والاسم الشريف.

وقولُ النحويين: إن باء الاستعانة هي الداخلة على الآلة تقصير منهم؛ فإنها على هذا تختص بما يستعين به المخلوقُ من الآلات كالقلم والسكين؛ فلا تتناول باءَ البسملة وما أشبهها، كقول القائل: أجاهد بالله وأسمع وأبصر بالله، أي بمعونته تعالى، وكقوله تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127]. فينبغي أن يقال في باء الاستعانة: هي الداخلة على ما يكون به الفعل مطلقًا، فيشمل ما يستقل بالعون وهو الله، وما لا يستقل وهو سائر ما يستعان به من الأسباب التي قدرها الله وأوجدها.

هذا؛ وإن تفسيرهم لباء الاستعانة بالداخلة على الآلة يستلزم محذورًا، وهو نسبة الاستعانة إلى الله في أفعاله، كما قالوا في مثل قوله تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ[الحاقة:5-6]، ولهذا آثر جمال الدين ابن مالك -رحمه الله- أن تسمَّى هذه الباء: باء السببية، وقد صرَّح بالحامل له على ذلك، وهو تنزيه الله تعالى عن إضافة الاستعانة إليه في أفعاله عز وجل، قال -رحمه الله- في شرح التسهيل: [3]  "النحويون يعبِّرون عن هذه الباء بباء الاستعانة، وآثرتُ على ذلك التعبير بالسببية؛ من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى؛ فإن استعمال السببية فيها يجوز، واستعمال الاستعانة فيها لا يجوز". أهـ الجواب المشار إليه.

ثم أقول الآن: إن ذكر الاسم مضافًا إلى الله له تعلُّقٌ بمسألة كلاميَّة مشهورة، وهي: هل الاسم هو المسمَّى أو غيرُ المسمَّى؟ الصواب أن يقال: إنه لا يقال: هو المسمَّى ولا غير المسمَّى؛ لأنه قد يراد بالاسم اللفظُ الدال؛ فهو غير المسمَّى، وقد يراد به مدلول الاسم وهو المسمَّى، ويُميِّز بين الأمرين سياقُ الكلام؛ فإذا قيل: الله رب العالمين، فالمراد المسمَّى بهذا الاسم، وإذا قيل: الله اسمٌ مشتقٌّ، أو اسمٌ عربيٌّ، فهو غير المسمَّى، ولفظ الاسم في "بسم الله" اسمٌ للفظ الدال على المسمَّى، [4]  وقد ذكر السهيلي في نتائج الفكر [5]   وشيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله عنه ابن القيم في بدائع الفوائد [6] أن في ذِكر لفظ الاسم مضافًا إلى الله فائدةً في البسملة وما شابهها، وهي استعانته تعالى مع التصريح باسمه، وفي التسبيح، كما في قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74]، أفاد ذِكر لفظ الاسم تسبيحَه تعالى مع التصريح باسمه عز وجل.

فكل جملة من هذا النوع تفيد أمرين: المعنى المقصود، وذكر الاسم الشريف.

فعُلم ممَّا تقدم أن الاستعانة في البسملة استعانةٌ بالله، لا باللفظ الذي هو اسم الله، فالاستعانة بالمسمَّى لا بالاسم؛ فتبيَّن أنه لا يستعان بألفاظ الأسماء الحسنى، بل بالله المسمَّى بها، وإذا كان لفظ الاسم مقحمًا للفائدة المتقدمة؛ فمعنى "باسم الله" أي: بالله أستعين، ومعنى (باسمك اللهم وضعتُ جنبي، وباسمك أرفعُه) [7] أي: بك اللهم وضعتُ جنبي، وبك أرفعه. والله أعلم.  

 

أملاه:

عبدالرَّحمن بن ناصر البراك

حرر في 21 رجب 1443 هـ

 


الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 ينظر: المجيد في إعراب القرآن المجيد (1/24)، والدر المصون (1/22).
2 أخرجه أحمد (2669)، والترمذي (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه وقال ابن منده في التوحيد (248): "هذا إسناد مشهور، رواه ثقاة، وقيس بن الحجاج مصري روى عنه جماعة، ولهذا الحديث طرق عن ابن عباس، وهذا أصحها".
3 (3/150)
4 ينظر: مجموع الفتاوى (6/185)، وشفاء العليل -ط المجمع- (2/366).
5 (ص35).
6 (1/34).
7 أخرجه بهذا اللفظ: الإمام أحمد (7811) وبنحوه البخاري (6320)، ومسلم (2714) عن أبي هريرة رضي الله عنه.