الرئيسية/الاختيارات الفقهية/صلاة الجماعة واجبة على الأعيان البالغين
share

صلاة الجماعة واجبة على الأعيان البالغين

 

صلاةُ الجماعةِ واجبةٌ على الأعيانِ البالغين

اختلفَ النَّاسُ في حكم صلاة الجماعة على مذاهب:  [1]
* فقيل: إنَّها واجبة على الأعيان؛ أي: على جميع الرّجال البالغين . [2]
* وقيل: إنَّها فرض كفاية . [3]
* وقيل: إنَّها سنّة مؤكَّدة . [4]
والصَّواب: أنَّها واجبة على الأعيان، يدلّ على ذلك؛ مِن القرآن: أمرُ الله بصلاة الجماعة في حال الخوف، قال الله تعالى: إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102] فالله أمرَ الطَّائفتين بالصَّلاة جماعةً .
وفي هذه الآية ردٌّ على مَن يقول إنَّ صلاة الجماعة فرض كفاية؛ لأنَّها لو كانت فرض كفاية لكفت بالطَّائفة الأولى، وهذا من أدلِّ دليلٍ على وجوب صلاة الجماعة، فإذا كانت الصَّلاة واجبة في حال الخوف فلأن تجب في الأمن مِن باب أولى؛ ولهذا قال في آخر الآية: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] . يعني في حال الخوف والسَّفر يُقصر العدد وتُقصر الأفعال، ويُباح فيها ما لا يباح في حال الطمأنينة والأمن.
واستدلَّ بعضهم بقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]
ومِن السُّنَّة: حديثُ أبي هريرة في الصَّحيحين، قال النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ، فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ، فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ)  [5] . وهذا أيضًا فيه دلالة ظاهرة على أنَّها تجبُ على الجميع، وأنَّها ليست فرض كفاية؛ لأنَّها لو كانت فرض كفاية لاكتفى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمَن معه في المسجد.
فالقولُ بأنَّها فرض كفاية: قولٌ ضعيف، تردُّه الآية، وكذلك الحديث الصّحيح.
واستُدلّ أيضًا: بحديث الأعمى الذي أتى النَّبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: يا رسول الله، إنَّه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن يُرخّص له، فيصلّي في بيته، فرخَّص له، فلما ولى، دعاه، فقال:
(هلْ تَسمعُ النِّداءَ بالصَّلاة؟) قال: نعم، قال: (فأَجِبْ)  [6]
واستدلَّ أيضًا: بحديث ابن عباس، وفيه: "مَن سَمعَ النّداءَ فلمْ يأتهِ، فلا صلاةَ لهُ، إلّا مِن عذرٍ" [7] . وليس لِمن يقول بأن صلاة الجماعة فرض كفاية دليلٌ بيّنٌ.
لكن القول الثَّالث بأنَّها سنّة لديهم شبهات، منها: حديث أبي هريرة:
(صَلاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الفَذِّ بخمسٍ وعِشرينَ درجَةً)  [8] ، وحديث ابن عمر: (بِسبعٍ وعِشْرينَ درَجَةً) [9] . فقالوا: إنَّ هذا يدلّ على أنَّ صلاة الجماعة "فضيلة" أي أفضل، وقوله: "أفضل" يدلُّ على أنَّها ليست بواجبة، والفرق بين صلاة الجماعة والفذّ هي بالأفضلية. ولعل هذا هو ما استدلّوا به، لكَّنه استدلالٌ ضعيف؛ لأنَّ ثبوت الأفضلية لا ينافي الوجوب، فكثير مِن الواجبات تُوصف بالأفضلية، فصلاةُ الفجر والعصر أفضل مِن صلاة الظّهر والمغرب مثلاً؛ لأنَّ لهما خصوصيَّة، فلا يقتضي ذلك أنَّ صلاة الظّهر والمغرب ليست بواجبة مثلاً.
بل قال الله تعالى في صلاة الجمعة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9] "خير" بمعنى: أفضل.
وقد يكون أيضًا مما استدلوا به: حديث الرَّجلين اللذيْن جاءا والنَّبيُّ يصلّي، وجلسا في المسجد ولم يصلّيا معه، فلمَّا فرغ دعا بهما وقال:
(مَا مَنَعَكُمَا أنْ تُصَلّيا مَعَنَا؟) قالا: "قد صلّيْنَا في رِحَالِنَا"، يعني في منازلنا، قال: (فَلَا تَفْعَلا، إذا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثمَّ أتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعةٍ: فَصَلِّيَا مَعَهُم، فإنَّهُمَا لَكُمَا نَافِلة)  [10]  ولم يُنكر عليهما.
فقالوا: هذا يدلّ على عدم وجوب صلاة الجماعة، وهذا يُردُّ أيضًا لاحتمال أنّهما قد صلّيا جماعة، لاسيما أنَّهما في "مِنى"، والنَّاس في مِنى يصلّون جماعات مع رفاقهم، فلا يجب عليهم جميعًا أن يصلّوا مع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
فالصَّواب إذًا: أنَّها واجبة على الأعيان، وبناء عليه: مَن صلّى منفردًا فصلاتُه صحيحة، لكنَّه يأثم لتخلّفه عن الجماعة.
نعم، ما استُدلّ به على السُّنّيّة يدلُّ على الصّحة، أي أنَّ صلاة المنفرد المتخلّف عن الجماعة صحيحة، لكن مع الإثم . 
[11]

 


الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 ينظر: "المغني" 3/5.
2 وهذا هو المذهب، نص عليه، وهو من المفردات. ينظر: "الإنصاف" 2/210، و"المنتهى" 1/282، و"الإقناع" 1/245
3 قال في "الإنصاف" 2/210: "ذكره الشيخ تقي الدين وغيره".
4 وهي رواية عن الإمام أحمد. ينظر: "الإنصاف" 2/210
5 أخرجه البخاري 644، ومسلم 651 من حديث أبي هريرة.
6 أخرجه مسلم 653 من حديث أبي هريرة.
7 أخرجه ابن ماجه 793، وابن حبان 2064، والدارقطني 1555، والحاكم 893، والبيهقي 4940 من طريق هشيم، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فذكره.
وتابع هشيمًا في روايته عن شعبة مرفوعًا:
 قراد أبو نوح، واسمه عبد الرحمن بن غزوان: أخرجه الدارقطني 1556، والحاكم 893، والبيهقي 4940
وسعيد بن عامر، وداود بن الحكم: أخرجه الحاكم 894، و895
وخالفهم أكثر أصحاب شعبة فرووه موقوفًا، منهم: وكيع وابن مهدي وغندر وعلي بن الجعد وغيرهم، وهم أثبت من الذين رفعوه.
قال الحاكم: "هذا حديث قد أوقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ثم صحح المرفوع على طريقته في تصحيح الزيادة مطلقًا!
وصحح وقفه: الإمام أحمد كما نقل عنه ابن رجب في "فتح الباري" 5/449، وعبد الحق الإشبيلي والدارقطني والبيهقي، ومال إليه الحافظ ابن حجر. ينظر: "الوهم والإيهام" 2/277، "وتنقيح التحقيق" 2/456، و"الجوهر النقي" 3/56، و"نصب الراية" 2/23، و"البدر المنير" 4/414، و"التلخيص الحبير" 2/72، و"إرواء الغليل" 2/336 و"صحيح أبي داود" 560.
8 أخرجه البخاري 477، ومسلم 649
9 أخرجه البخاري 645، و مسلم 650
10 أخرجه أحمد 17474، وأبو داود 575، والترمذي 219، والنسائي 858 من طريق يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه، قال: فذكره.
قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة 1638، وابن حبان 1564 و1565، والحاكم 892. وقال الحافظ في "التلخيص" 2/73: "وصححه ابن السكن، وقال الشافعي في القديم: إسناده مجهول، قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه، ولا لابنه جابر راو غير يعلى. قلت – أي ابن حجر-: يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقه النسائي وغيره، وقد وجدنا لجابر بن يزيد راويًا غير يعلى، أخرجه ابن منده في "المعرفة" من طريق بقية، عن إبراهيم بن ذي حماية، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر" اهـ.
 وللحديث شاهد عن أبي ذر عند مسلم 648 قال لي رسول الله: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ – أو – يميتون الصلاة عن وقتها؟» قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: «صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم، فصل، فإنها لك نافلة».
11 شرح "زاد المستقنع، كتاب الصلاة" درس رقم /31/