بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (الجوابُ الكافي لِمَن سألَ عن الدّواءِ الشَّافي) لابن القيّم
الدّرس: الخامس والعشرون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلِّ اللَّهمَّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. أمَّا بعدُ:
قالَ العلَّامةُ ابنُ القيِّمِ في كتابِهِ: "الجوابُ الكافي لـِمَن سألَ عن الدَّواءِ الشَّافي":
فَصْلٌ
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَزْرَعُ أَمْثَالَهَا، وَيُولِّدُ بَعْضَهَا بَعْضًا، حَتَّى يَعِزَّ عَلَى الْعَبْدِ مُفَارَقَتُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا
– الشيخ : أعوذُ بالله، يا الله
– القارئ : كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا، فَالْعَبْدُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً قَالَتْ أُخْرَى إِلَى جَنْبِهَا: اعْمَلْنِي أَيْضًا، فَإِذَا عَمِلَهَا، قَالَتِ الثَّالِثَةُ كَذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرًّا، فَتَضَاعَفُ الرِّبْحُ، وَتَزَايَدَتِ الْحَسَنَاتُ.
وَكَذَلِكَ كَانَتِ السَّيِّئَاتُ أَيْضًا، حَتَّى تَصِيرَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً، وَصِفَاتٍ لَازِمَةً، وَمَلَكَاتٍ ثَابِتَةً، فَلَوْ عَطَّلَ الْمُحْسِنُ الطَّاعَةَ لَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَأَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ كَالْحُوتِ إِذَا فَارَقَ الْمَاءَ، حَتَّى يُعَاوِدَهَا، فَتَسْكُنَ نَفْسُهُ، وَتَقَرَّ عَيْنُهُ.
وَلَوْ عَطَّلَ الْمُجْرِمُ الْمَعْصِيَةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الطَّاعَةِ؛ لَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَضَاقَ صَدْرُهُ
– الشيخ : نسألُ اللهَ العافيةَ، لا إله إلَّا الله، وهذا يظهر في حال بعض النَّاسِ أو كثيرٍ، عند سماعِ القرآنِ وسماع الألحان فمعَ الألحانِ يستغرقُ الزَّمانَ، ومع القرآنِ يستطيلُ الوقتَ القصيرَ يستطيله، ولهذا يقول الكافرون: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ} [فصلت:26].
– القارئ : وَلَوْ عَطَّلَ الْمُجْرِمُ الْمَعْصِيَةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الطَّاعَةِ؛ لَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَضَاقَ صَدْرُهُ، وَأَعْيَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُهُ، حَتَّى يُعَاوِدَهَا، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُسَّاقِ لَيُوَاقِعُ الْمَعْصِيَةَ مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ يَجِدُهَا، وَلَا دَاعِيَةٍ إِلَيْهَا، إِلَّا بِمَا يَجِدُ مِنَ الْأَلَمِ بِمُفَارَقَتِهَا.
كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ شَيْخُ الْقَوْمِ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ حَيْثُ يَقُولُ:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ … وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
– الشيخ : عندَك أيش يقول … شيخ القوم
– القارئ : شَيْخُ الْقَوْمِ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ
– الشيخ : أبو نوّاس؟
– طالب: نعم
– طالب آخر: يقولُ: البيتُ لأبي نوَّاسٍ لكنَّه للأعشى
– الشيخ : إي لا بأسَ هذا تصويبٌ في نسبةِ البيت، لكن الحسن بن هانئ الي يعنيه هو أبو نوَّاس.
– القارئ : ذكر عندي في الحاشية: وكأسٌ وكأسٍ وكأسًا، نسبَه المؤلِّفُ هنا إلى أبي نوَّاس ونحوه في زادِ المعادِ، وقال: شيخُ الفسوق، والبيتُ للأعشى في ديوانِه أمَّا بيت أبي نوَّاس الَّذي في معناه فهو:
دعْ عنكَ لومي فإنَّ اللَّومَ إغراءُ … وداوِني بالَّتي كانَتْ هيَ الدَّاءُ
وَقَالَ الْآخَرُ:
فَكَانَتْ دَوَائِي وَهْيَ دَائِي بِعَيْنِهِ … كَمَا يَتَدَاوَى شَارِبُ الْخَمْرِ بِالْخَمْرِ
وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يُعَانِي الطَّاعَةَ وَيَأْلَفُهَا وَيُحِبُّهَا وَيُؤْثِرُهَا حَتَّى يُرْسِلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ تَؤُزُّهُ إِلَيْهَا أَزًّا، وَتُحَرِّضُهُ عَلَيْهَا، وَتُزْعِجُهُ عَنْ فِرَاشِهِ وَمَجْلِسِهِ إِلَيْهَا.
وَلَا يَزَالُ يَأْلَفُ الْمَعَاصِيَ
– الشيخ : لا، لا بدَّ مِن كلمة فصل، ولا يَزالُ الآخرُ أو لا يزال العاصي، ما يصلحُ وصلُ هذا بهذا، لأنَّ الجملةَ الأولى فيمن؟
– القارئ : وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ
– الشيخ : وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ، قل العبارةَ
– القارئ : وَلَا يَزَالُ يَأْلَفُ الْمَعَاصِيَ
– الشيخ : وَلَا يَزَالُ العبدُ الْعَاصِيَ، وَلَا يَزَالُ العبدُ الَّذي يعاني المعصيةَ… على الأوَّل، وَلَا يَزَالُ العبدُ الَّذي يعاني المعصيةَ، يعني: يمارسُها.
– القارئ : وَلَا يَزَالُ العبدُ الَّذي يعاني المعصيةَ يَأْلَفُ الْمَعَاصِيَ وَيُحِبُّهَا وَيُؤْثِرُهَا
– الشيخ : شوف [انظر] كيف استقامَ.
– القارئ : وَلَا يَزَالُ العبدُ الَّذي يعاني المعصيةَ يَأْلَفُ الْمَعَاصِيَ وَيُحِبُّهَا وَيُؤْثِرُهَا، حَتَّى يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَيْهِ الشَّيَاطِينَ، فَتَؤُزُّهُ إِلَيْهَا أَزًّا.
فَالْأَوَّلُ قَوِيٌّ جَنَّدَ الطَّاعَةَ بِالْمَدَدِ، فَكَانُوا مِنْ أَكْبَرِ أَعْوَانِهِ، وَهَذَا قَوِيٌّ جَنَّدَ الْمَعْصِيَةَ بِالْمَدَدِ فَكَانُوا أَعْوَانًا عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
وَمِنْهَا: -وَهُوَ مِنْ أَخْوَفِهَا عَلَى الْعَبْدِ- أَنَّهَا تُضْعِفُ الْقَلْبَ عَنْ إِرَادَتِهِ، فَتُقَوِّي إِرَادَةَ الْمَعْصِيَةِ، وَتُضْعِفُ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، إِلَى أَنْ تَنْسَلِخَ مِنْ قَلْبِهِ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَوْ مَاتَ نِصْفُهُ لَمَا تَابَ إِلَى اللَّهِ، فَيَأْتِي من الِاسْتِغْفَارِ وَتَوْبَةِ الْكَذَّابِينَ بِاللِّسَانِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، وَقَلْبُهُ مَعْقُودٌ بِالْمَعْصِيَةِ، ومُصِرٌّ عَلَيْهَا، عَازِمٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا مَتَى أَمْكَنَتْهُ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَمْرَاضِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى الْهَلَاكِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْسَلِخُ مِنَ الْقَلْبِ اسْتِقْبَاحُهَا، فَتَصِيرُ لَهُ عَادَةً، فَلَا يَسْتَقْبِحُ مِنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةَ النَّاسِ لَهُ، وَلَا كَلَامَهُمْ فِيهِ.
وَهَذَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْفُسُوقِ هُوَ غَايَةُ التَّهَتُّكِ وَتَمَامُ اللَّذَّةِ، حَتَّى يَفْتَخِرَ أَحَدُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيُحَدِّثَ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَمِلَهَا، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا.
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ لَا يُعَافَوْنَ، وَتُسَدُّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ التَّوْبَةِ
– الشيخ : يمكن ينطبق على المفتونين خصوصًا الي مثل يسافرون لممارسةِ الفجورِ والزِّنى وشربِ الخمورِ إذا جاؤوا يتحدَّثون مع أصحابهم "سوينا ورحنا وكذا" يعني ما يأنفُ ولا يستحيي، لا، يفتخرُ يفتخر ويدعو وهذا من استحكامِ.. لكنَّ الـمُبتلَى الَّذي لم يستفحلْ فيه لا، وهذا كما جاءَ في الحديث: (كلُّ أمَّتي معافىً إلَّا المجاهرينَ … ومِن المجاهرةِ أنْ يأتيَ العبدُ المعصيةَ في اللَّيلِ وربُّهُ يسترُهُ فيُصبحُ فيكشفُ سترَ اللهِ عنهُ).
– القارئ : وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ لَا يُعَافَوْنَ، وَتُسَدُّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ التَّوْبَةِ، وَتُغْلَقُ عَنْهُمْ أَبْوَابُهَا فِي الْغَالِبِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرُينَ، وَإِنَّ مِنَ الْإِجْهَارِ أَنْ يَسْتُرَ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ يُصْبِحُ يَفْضَحُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَهَتَكَ نَفْسَهُ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ»
وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي فَهِيَ
– الشيخ : وَمِنْهَا وَمِنْهَا يعني العقوبات، عقوباتُ المعاصي، يعني يتكرَّر كثيرًا "وَمِنْهَا" يعني ومن عقوباتِ المعاصي، ومن عقوبات المعاصي، "وَمِنْهَا"
– القارئ : وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي فَهِيَ مِيرَاثٌ عَنْ أُمِّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
فَاللُّوطِيَّةُ: مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ.
وَأَخْذُ الْحَقِّ بِالزَّائِدِ وَدَفْعُهُ بِالنَّاقِصِ، مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ.
وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ، مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ.
وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّجَبُّرُ مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ هُودٍ.
فَالْعَاصِي لَابِسٌ ثِيَابَ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمَمِ، وَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ: لَا تدْخُلُوا مَدَاخِلَ أَعْدَائِي، وَلَا تلْبَسُوا مَلَابِسَ أَعْدَائِي وَلَا ترْكَبُوا مَرَاكِبَ أَعْدَائِي، وَلَا تطْعَمُوا مَطَاعِمَ أَعْدَائِي، فَتكُونُوا أَعْدَائِي كَمَا هُمْ أَعْدَائِي.
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ».
فَصْلٌ
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ سَبَبٌ لِهَوَانِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ
– الشيخ : إلى آخره، مستمرٌّ على هكذا، يعني فصول مستمرَّة معظم الكتابِ.