file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(89) باب وجوبها والحث عليها

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

التَّعليق على كتاب (المنتقى) للمجد ابن تيميَّة

الدَّرس: التَّاسع والثَّمانون

***      ***      ***

 

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الإمامُ مجدُ الدِّينِ عبدُ السَّلامِ بنُ تيميةَ الحرَّانيُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ: "المُنتقَى في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ مِن كلامِ خيرِ البريَّةِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ":

أَبْوَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ

– الشيخ : اللهُ أكبرُ، الله أكبر، صلاةُ الجماعةِ من أعظمِ أحكامِ الصَّلوات الخمسِ، من أحكامِ الصَّلوات الخمسِ وجوبُ أدائِها جماعةً حيثُ يُنادَى لها، وقد دلَّ على ذلك أقوالُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، قولُه وفعلُه، ولها بُنِيَتِ المساجدُ، ولها شُرِعَ الأذانُ، وجاءَت الأدلَّةُ الدَّالَّةُ على فضلِها، فلها شأنٌ، صلاةُ الجماعةِ لها شأنٌ في الإسلام، ولهذا لها جملةٌ من الأحكام، ولهذا يقولُ المؤلِّفُ: "أَبْوَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ"، يعني: سيعقدُ أبوابًا لأحكام صلاةِ الجماعةِ.

 

– القارئ : بَابُ وُجُوبِهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حِزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ أَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحَرِّقُونَ مَا فِي الْبُيُوتِ بِالنَّارِ).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: (هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَأَجِبْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.

وَعَنْ عَمْرِو ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا ضَرِيرٌ شَاسِعُ الدَّارِ وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ قَالَ: (أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (مَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتَنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ.

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ

– الشيخ : إلى هنا، دلَّت الأحاديثُ المتقدِّمةُ على وجوب صلاةِ الجماعةِ، وذلك لأنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام همَّ بتحريقِ بيوتِ المتخلِّفين عليهم، ويدلُّ على أنَّه ليسَ المقصودُ مجرَّدَ صلاةِ الجماعةِ، ويدلُّ على أنَّه ليس المقصودُ مجرَّدَ صلاةِ جماعةٍ، لا بدَّ من الجماعةِ الَّتي يُنادَى لها في المسجد، ولهذا قالَ: (لا يشهدونَ الصَّلاةَ) ولم يقلْ: "لا يصلُّونَ جماعةً"، وبهذا يبطلُ ما يفعلُه بعضُ النَّاس ويعتذرون به من أنَّهم إذا كانوا في بيتٍ من البيوتِ قالوا: "نحن جماعةٌ" فيتخلَّفون عن الصَّلاة في المسجدِ زاعمين أنَّهم بهذا يُدرِكون فضيلةَ الجماعةِ، وليس كذلك فالَّذين يتخلَّفون ويصلُّون في البيوت جماعةً قد تركوا الواجبَ وفاتَتْهم الفضيلةُ، فينبغي التَّنبُّهُ لذلك، صحيحٌ أنَّ صلاةَ الجماعةِ أفضلُ من صلاةِ المنفردِ ولو كانَ في البيت هي أفضلُ، لكن لا تبلغُ مرتبةَ صلاةِ الجماعةِ الرَّاتبةِ، الجماعةُ الرَّاتبةُ هذه لها خاصِّيَّةٌ، ولهذا من فاتَتْه هذه الصَّلاةُ وصلَّى معَه مَن يصلِّي لا يدركُ الفضيلةَ المقدَّرةَ الَّتي سيأتي ذكرُها خمس وعشرين درجةً وسبع وعشرون ضعفًا، فالمقصودُ أنَّ صلاةَ الجماعةِ شأنُها عظيمٌ.

وهذا الأعمى قالَ: (لا أجدُ لكَ رخصةً)، ولا بدَّ أنَّ هذا الأعمى وإنْ كانَ قد ذكرَ بعضَ الأعذارِ فإنَّه مستطيعٌ أنْ يأتيَ إلى المسجد.

وقوله: (هل تسمعُ النِّداءَ؟) يدلُّ على أنَّ مناطَ وجوبِ الحضورِ هو سماعُ النِّداء، ولهذا في الحديثِ الاخرِ: (مَن سمعَ النِّداءَ فلم يأتِ فلا صلاةَ لهُ إلَّا مِن عذرٍ). اقرأْ تعليقَ الشَّوكانيِّ على الأحاديثِ

 

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، قالَ الشَّوكانيُّ رحمَهُ اللهُ تعالى:

الْحَدِيثُ الثَّانِي فِي إسْنَادِهِ أَبُو مَعْشَرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

قَوْلُهُ: (أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ) فِيهِ أَنَّ الصَّلَاةَ كُلَّهَا ثَقِيلَةٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى}[التوبة:54] وَإِنَّمَا كَانَ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ أَثْقَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمَا؛ لِقُوَّةِ الدَّاعِي إلَى تَرْكِهِمْ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ وَقْتَ السُّكُونِ وَالرَّاحَةِ، وَالصُّبْحَ وَقْتَ لَذَّةِ النَّوْمِ.

قَوْلُهُ: (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا) أَيْ: مِنْ مَزِيدِ الْفَضْلِ.

قَوْلُهُ: (لَأَتَوْهُمَا) أَيْ: لَأَتَوْا الْمَحَلَّ الَّذِي يُصَلِّيَانِ فِيهِ جَمَاعَةً وَهُوَ الْمَسْجِدِ.

– الشيخ : يُصَلَّيَانِ يُصَلَّيَانِ، يعني: العشاءُ والفجرُ، يُصَلَّيَانِ فِيهِ

– القارئ : يُصَلَّيَانِ فِيهِ جَمَاعَةً وَهُوَ الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (وَلَوْ حَبْوًا) أَيْ: زَحْفًا إذَا مَنَعَهُمْ مَانِعٌ مِنْ الْمَشْيِ كَمَا يَزْحَفُ الصَّغِيرُ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: (وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الْمَرَافِقِ وَالرُّكَبِ).

قَوْلُهُ: (وَلَقَدْ هَمَمْتُ) اللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: (وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ)، وَالْهَمُّ: الْعَزْمُ، وَقِيلَ: دُونَهُ.

قَوْلُهُ: (فَأُحَرِّقَ) بِالتَّشْدِيدِ، يُقَال: حَرَّقَهُ: إذَا بَالَغَ فِي تَحْرِيقِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْعُقُوبَةِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ.

وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سُنَّةً لَمْ يُهَدَّدْ تَارِكُهَا بِالتَّحْرِيقِ، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَكَانَتْ قَائِمَةً بِالرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ مَعَهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ التَّهْدِيدَ بِالتَّحْرِيقِ الْمَذْكُورِ يَقَعُ فِي حَقِّ تَارِكِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِمَشْرُوعِيَّةِ قِتَالِ تَارِكِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيقَ الَّذِي يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ أَخَصُّ مِنْ الْمُقَاتَلَةِ، وَلِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ إنَّمَا يُشْرَعُ فِيهَا إذَا تَمَالَأَ الْجَمِيعُ عَلَى التَّرْكِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ:

فَذَهَبَ عَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٌ، وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ: أَبُو الْعَبَّاسِ إلَى أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ. وَاخْتَلَفُوا فَبَعْضُهُمْ

– الشيخ : أَبُو الْعَبَّاسِ ابن تيمية يرى أنَّها فرضُ عينٍ لا فرضُ كفايةٍ

– طالب: كأنَّه يقول: "وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ: أَبُو الْعَبَّاسِ" أحسنَ اللهُ إليك

– الشيخ : نعم

– القارئ : إلَى أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ.

– الشيخ : أيش عندك؟ يقول: وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ؟       

– طالب: أَبُو الْعَبَّاسِ

– الشيخ : كذا جاءَتْ؟

– طالب: جاءَتْ بعدَ نقطتين، وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ: أَبُو الْعَبَّاسِ

– الشيخ : وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ: أَبُو الْعَبَّاسِ، هو قرأَها وأبو العبَّاس

– طالب: "الظَّاهر أَبُو الْعَبَّاسِ" حتَّى عنده؟

– القارئ : إي

– الشيخ : عندهم عندهم صح

– القارئ : أبو العبَّاس كذا

– الشيخ : لكن قال.. نعم كمِّل العبارة

– القارئ : إلَى أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ.

وَاخْتَلَفُوا فَبَعْضُهُمْ قَالَ: هِيَ شَرْطٌ

– الشيخ : "وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ" اقرأ "وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ"

– القارئ : وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَبُو الْعَبَّاسِ إلَى أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ. وَاخْتَلَفُوا، فَبَعْضُهُمْ قَالَ: هِيَ شَرْطٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ دَاوُد وَمَنْ تَبِعَهُ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: إنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ غَيْرُ شَرْطٍ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، قَالَ الْحَافِظُ: هُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالْهَادِي وَالْقَاسِمِ وَالنَّاصِرِ وَالْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ وَأَبِي طَالِبٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ شَرْطًا أَوْ فَرْضًا لَبَيَّنَ ذَلِكَ عِنْدَ التَّوَعُّدِ كَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ وَهُوَ كَافٍ فِي الْبَيَانِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَدِيث يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعَى وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُوبِ لِكَوْنِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- هَمَّ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْمُتَخَلِّفِينَ، وَلَوْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ فَرْضًا لَمَا تَرَكَهَا. وَفِيهِ أَنَّ تَرْكَهُ لَهَا حَالَ التَّحْرِيقِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّرْكَ مُطْلَقًا لِإِمْكَانِ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ آخَرِينَ قَبْلَ التَّحْرِيقِ أَوْ بَعْدَهُ.

الثَّالِثُ: قَالَ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ مَوْرِدَ الزَّجْرِ، وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: الْمُبَالَغَةُ، وَيُرْشِدُ إلَى ذَلِكَ وَعِيدُهُمْ بِعُقُوبَةٍ لَا يُعَاقَبُهَا إلَّا الْكُفَّارُ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِ عُقُوبَةِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ تَحْرِيمِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ جَائِزًا، عَلَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا التَّوَعُّدَ وَقَعَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ لَكَانَ مُخَصِّصًا لَهُ فَيَجُوزُ التَّحْرِيقُ فِي عُقُوبَةِ تَارِكِ الصَّلَاةِ.

الرَّابِعُ: تَرْكُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِتَحْرِيقِهِمْ بَعْدَ التَّهْدِيدِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا عَفَا عَنْهُمْ. قَالَ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلْ. زَادَ النَّوَوِيُّ: وَلَوْ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ لَمَا تَرَكَهُمْ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ لَا يَهُمُّ إلَّا بِمَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ لَوْ فَعَلَهُ، وَالتَّرْكُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا انْزَجَرُوا بِذَلِكَ، عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ أَحْمَدَ الَّتِي ذَكَرهَا الْمُصَنِّفُ فِيهَا بَيَانُ سَبَبِ التَّرْكِ.

الْخَامِسِ: أَنَّ التَّهْدِيدَ لِقَوْمٍ تَرَكُوا الصَّلَاةَ رَأْسًا لَا مُجَرَّدَ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ) بِمَعْنَى: لَا يَحْضُرُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (الْعِشَاءُ فِي الْجَمْعِ) أَيْ: فِي الْجَمَاعَةِ.

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ: (لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ عَنْ تَرْكِهِمْ الْجَمَاعَاتِ أَوْ لَأُحَرِّقَنَّ بُيُوتَهُمْ).

السَّادِسُ: أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْحَثِّ عَلَى مُخَالَفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ لَا لِخُصُوصِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنِيرِ.

السَّابِعُ: أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ، وَتُعُقِّبَ بِاسْتِبْعَادِ الِاعْتِنَاءِ بِتَأْدِيبِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى تَرْكِهِمْ الْجَمَاعَةَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُمْ، وَبِأَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ وَعَنْ عُقُوبَتِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِطَوِيَّتِهِمْ، وَقَالَ: (لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ إنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ). وَتَعَقَّبَ هَذَا التَّعَقُّبَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا إنِ ادَّعَى أَنَّ تَرْكَ مُعَاقَبَةِ الْمُنَافِقِينَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي إعْرَاضِهِ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ عُقُوبَتِهِمْ.

قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْمُنَافِقِينَ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: (أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ)، وَلِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَوْ يَعْلَمُونَ…) إلَخْ"؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَلِيقُ بِهِمْ لَا بِالْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ: نِفَاقُ الْمَعْصِيَةِ لَا نِفَاقُ الْكُفْرِ.

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ: (لَا يَشْهَدُونَ الْعِشَاءَ فِي الْجَمْعِ) وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ: (لَا يَشْهَدُونَ الْجَمَاعَاتِ) وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (ثُمَّ آتِي قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ) فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِفَاقَهُمْ نِفَاقُ مَعْصِيَةٍ لَا نِفَاقُ كُفْرٍ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ إنَّمَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَإِذَا خَلَا فِي بَيْتِهِ كَانَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: خُرُوجُ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ جَازَ لَهُمْ التَّخَلُّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ، بَلْ مِنْ جِهَة أَنَّ التَّخَلُّفَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ بَلْ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي: "لَقَدْ رَأَيْتَنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ إلَّا مُنَافِقٌ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمُومَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا يشَهِدهُمَا مُنَافِقٌ) يَعْنِي: الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ.

الثَّامِنُ: أَنَّ فَرِيضَةَ الْجَمَاعَةِ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَتْ، حَكَى ذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَقَوَّى لِثُبُوتِ النَّسْخِ بِالْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي حَقِّهِمْ وَهُوَ التَّحْرِيقُ بِالنَّارِ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي تَفْضِيلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ كَمَا سَيَأْتِي؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ الْجَوَازِ.

التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْجُمُعَةُ لَا بَاقِي الصَّلَوَاتِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ مُصَرِّحَةٌ بِالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا الْجُمُعَةُ لِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَالْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ.

وَلِلْحَدِيثِ فَوَائِدُ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَسْطِهَا، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِمَا هُوَ الْحَقُّ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.

– الشيخ : اللهُ المستعان

– القارئ : ثمَّ بعد انتقلَ الحديث الثَّاني

– طالب: قالَ بعدَ صفحاتٍ، قالَ: فَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبُهَا إلَى الصَّوَابِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي لَا يُخِلُّ بِمُلَازَمَتِهَا مَا أَمْكَنَ إلَّا مَحْرُومٌ مَشْؤُومٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فَلَا.

– الشيخ : هذا رأيُهُ الأخيرُ.

– القارئ : هذا رأيُهُ وترجيحُه

– الشيخ : رحمةُ اللهِ على الجميع، سبحانَ الله العظيم، سبحانَ الله العظيم، المتدبِّرُ لسنَّةِ النَّبيِّ القوليَّةِ والفعليَّةِ، المتجرِّد عن الرَّأي والمذهبيَّة لا يشكُّ بأنَّ صلاةَ الجماعةِ واجبةٌ، واجبةٌ على الأعيان، على أعيانِ الرِّجال المكلَّفين القادرين، سبحانَ الله، معَ هذه الوجوهِ ومعَ العملِ الجاري من فعلِ الصَّحابة، هذا ابن مسعودٍ: "مَن سرَّهُ أنْ يلقى اللهَ غدًا مسلمًا فليحافظْ على هذهِ الصَّلواتِ الخمسِ حيثُ يُنادَى بهنَّ".

وهذه الاحتمالاتُ والتَّقديراتُ في الحقيقة تُذهِبُ رونقَ السُّنَّةِ ودلالات السُّنَّةِ، سنَّة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- وأقواله، هذه الاحتمالاتُ، إدخالُ الاحتمالاتِ على الأدلَّةِ الظَّاهرة تُذهبُ -في الحقيقة- قيمتها وروعتها ودلالتها العظيمة، فبعدَ هذه الاحتمالاتِ وهذه الأقوالِ تصبحُ هذه النُّصوصُ بفقد عظمتِها وما دلَّ عليه ظاهرُها، وإنْ كانَ الكلُّ من المختلفين مجتهدًا وطالبًا للحقِّ إنْ شاءَ اللهُ، ولكن ينبغي تقديم ما هو ظاهرُ الدَّليلِ، فظاهرُ هذه الأحاديثِ والعمل الجاري من فعلِ النَّبيِّ وفعل صحابتِه لا شكَّ أنَّ الظَّاهرَ هو وجوبُ صلاةِ الجماعةِ، واللهُ المستعانُ.

وإذا قيلَ: سنَّةٌ مؤكَّدةٌ هذا لا.. يقولُ ابنُ القيِّم في كتابه -كتاب الصَّلاة-: إنَّها سنَّةٌ مؤكَّدةٌ عندَ الحنفيَّةِ، والسُّنَّةُ المؤكَّدةُ عندَهم درجة الواجب أو هي واجبةٌ، اللهُ المستعانُ.

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :