الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الذاريات/(6) من قوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} القرآن 56 إلى قوله تعالى {فويل للذين كفروا} القرآن 60

(6) من قوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} القرآن 56 إلى قوله تعالى {فويل للذين كفروا} القرآن 60

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الذَّاريات

الدَّرس: السَّادس

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الذاريات:56-60]

– الشيخ : اللهُ أكبرُ.

بسمِ اللهِ، والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، يخبرُ تعالى عن حكمته في خلقِ الجنِّ والإنسِ، قالَ تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} هذهِ هي الحكمةُ من خلقِ الثَّقلَينِ، أي: خلقَهم لعبادتِه، خلقَهم ليعبدوه وحدَه لا شريكَ له، خلقَهم ليوحِّدوه بالعبادةِ فلا يعبدوا معَه غيرَه، وهذا الَّذي خُلِقُوا له هو ما أمرَهم به في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21]، فالعبادةُ هي الغايةُ من خلقِ الجنِّ والإنسِ، وهي الَّتي أمرَ اللهُ بها جميعَ النَّاسِ، أمرَ اللهُ جميعَ النَّاسِ بعبادتِهِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وأرسلَ الرُّسلَ وأنزلَ الكتبَ لتحقيقِ هذه الغايةِ، ليأمروا النَّاسَ، ليأمروا النَّاسَ بعبادتِهِ ويبيِّنوا لهم كيف يعبدونه، فإنَّ العبادةَ لا تكونُ عبادةً صحيحةً مقبولةً إلَّا إذا توفَّرَ فيها أمرانِ: أنْ تكونَ خالصةً للهِ وحدَه، والثَّانية: أنْ تكونَ على الطَّريق الَّذي بيَّنَه الرَّسولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلا يُعبَدُ اللهُ إلَّا بما شرعَ وبيَّنَهُ على ألسنِ رسلِهِ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.

{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} هذا نفيٌ لما قد يتوهَّمُه الجاهلون باللهِ، {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} ما خلقْتُهم لينفعوني ويرزقوني، لأنَّه تعالى هو الرَّزَّاقُ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} وهو سبحانَه وتعالى يُطْعِمُ ولا يُطعَمُ، يُطْعِمُ خلقَه ويرزقُ خلقَه، فهذه الآيةُ تشبهُ آيةَ الأنعامِ {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]، وهنا قالَ: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ} أي: صاحبُ القوَّةِ، القوَّةُ الَّتي لا فوقَها قوَّة، لا فوقَها قوَّة، قوَّةُ اللهِ ليس فوقَها قوَّةٌ، وقالَ الملحدون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، قومُ هود، عاد، وقومُ هود {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}؟ قالَ اللهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15]، فهو أشدُّ قوَّةً من كلِّ قويٍّ، أشدُّ قوَّةً من كلِّ قويٍّ، لا إله إلَّا الله، {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} المتينُ أي: شديدُ القوَّةِ.

ثمَّ قالَ تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} المشركون الَّذين أشركوا باللهِ وعبدوا معَه غيرَه {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} ولعلَّ المرادَ بهؤلاء الَّذين ظلمُوا كفَّارُ مكَّةَ الَّذين خُوطِبُوا بهذا القرآنِ أوَّلًا، المشركون من قريش ومن جرى مجراهم، فإنَّ لهم نصيبًا، ذَنوبٌ، نصيبٌ {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} يعني: مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ الَّذين مضَوا، فإنَّ اللهَ قصَّ في هذهِ السُّورةِ باختصارٍ كما تقدَّمَ قصَّة موسى معَ فرعون، وعاد، وثمود، وقوم نوح، ماذا جرى عليهم؟ أهلكَهم اللهُ بالغرقِ والرِّيحِ العاتيةِ والصَّاعقةِ، قالَ اللهُ: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ…} [هناك انقطاع في الصوت وانتقال] وتتمَّة الآية: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ}

{ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29]، يستعجلون، وهذه شِنشنةُ الأممِ المكذِّبةِ، كلُّ قومٍ يقولون لنبيِّهم: {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف:77]، متى؟ {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}؟ {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}؟ على سبيلِ الاستبعادِ معَ الاستعجالِ، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، عَجِّلْ لَنَا نصيبَنا الآنَ، وهذا من جهلِهم وسفهِهم، لم يتصوَّروا عذابَ اللهِ الشَّديدَ وبأسَه العظيمَ {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} لا تستعجلوا، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} تهديدٌ بما سيلقونَه في اليومِ الموعودِ.

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} الآياتِ:

يقولُ تعالى آمرًا رسولَهُ بالإعراضِ عن المعرِضِينَ المكذِّبِينَ: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: لا تُبالِ بهم ولا تؤاخذْهم، وأقبلْ على شأنِكَ.

فليسَ عليكَ لومٌ في ذنبِهم، وإنَّما عليكَ البلاغُ، وقد أدَّيْتَ ما حملْتَ، [وبلَّغْتَ ما أُرسِلْتَ بهِ. {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} والتَّذكيرُ نوعانِ: تذكيرٌ بما لم يُعرَفْ تفصيلُهُ، ممَّا عُرِفَ] مجملُهُ بالفِطرِ والعقولِ فإنَّ اللهَ فطرَ العقولَ على محبَّةِ الخيرِ وإيثارِهِ، وكراهةِ الشَّرِّ والزُّهدِ فيهِ، وشرعُهُ موافقٌ لذلكَ، فكلُّ أمرٍ ونهيٍ مِن الشَّرعِ، فهوَ مِن التَّذكيرِ، وتمامُ التَّذكيرِ أنْ يذكرَ ما في المأمورِ بهِ مِن الخيرِ والحسنِ والمصالحِ، وما في المنهيِّ عنهُ مِن المضارِّ.

والنَّوعُ الثَّاني مِن التَّذكيرِ: تذكيرٌ بما هوَ معلومٌ للمؤمنينَ، ولكنْ انسحبَتْ عليهِ الغفلةُ والذُّهولُ، فيذكِّرونَ بذلكَ، ويُكرَّرُ عليهم ليرسخَ في أذهانِهم، وينتبهوا ويعملوا بما تذكَّرُوهُ [مِن ذلكَ، وليحدثَ لهم نشاطًا وهمَّةً، توجبُ لهم الانتفاعَ والارتفاعَ.

وأخبرَ اللهُ أنَّ الذِّكرى تنفعُ المؤمنينَ، لأنَّ ما معَهم مِن الإيمانِ والخشيةِ والإنابةِ، واتِّباعِ] رضوانِ اللهِ، يوجبُ لهم أنْ تنفعَ فيهم الذِّكرى، وتقعُ الموعظةُ منهم موقعَها كما قالَ تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} [الأعلى:9-11]

وأمَّا مَن ليسَ لهُ معَهُ إيمانٌ ولا استعدادٌ لقبولِ التَّذكيرِ، فهذا لا ينفعُ تذكيرُهُ، بمنزلةِ الأرضِ السَّبخةِ، الَّتي لا يفيدُها المطرُ شيئًا، وهؤلاءِ الصِّنفُ لو جاءَتْهم كلُّ آيةٍ، لم يؤمنوا حتَّى يروا العذابَ الأليمَ.

قالَ اللهُ تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

هذهِ الغايةُ الَّتي خلقَ اللهُ الجنَّ والإنسَ لها، وبعثَ جميعَ الرُّسلِ يدعونَ إليها، وهيَ عبادتُهُ

الشيخ : الغايةُ هي الحكمةُ …

القارئ : [المتضمِّنةِ لمعرفتِهِ ومحبَّتِهِ] والإنابةِ إليهِ والإقبالِ عليهِ، والإعراضِ عمَّا سواهُ، وذلكَ متوقِّفٌ على معرفةِ اللهِ تعالى، فإنَّ تمامَ العبادةِ متوقِّفٌ على المعرفةِ باللهِ، بل كلَّما ازدادَ العبدُ معرفةً لربِّهِ كانَتْ عبادتُهُ أكملَ، فهذا الَّذي خلقَ اللهُ المكلَّفينَ لأجلِهِ، فما خلقَهم لحاجةٍ منهُ إليهم.

{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} تعالى اللهُ الغنيُّ المغني عن الحاجةِ إلى أحدٍ بوجهٍ مِن الوجوهِ، وإنَّما جميعُ الخلقِ فقراءُ إليهِ في جميعِ حوائجِهم ومطالبِهم الضَّروريَّةِ وغيرِها، ولهذا قالَ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} أي: كثيرُ [الرِّزقِ، الَّذي ما مِن دابَّةٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ إلَّا على اللهِ رزقُها، ويعلمُ مستقرَّها ومستودعَها] {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} أي: الَّذي لهُ القوَّةُ والقدرةُ كلُّها، الَّذي أوجدَ بها الأجرامَ العظيمةَ السُّفليَّةَ والعلويَّةَ، وبها تصرَّفَ في الظَّواهرِ والبواطنِ، ونفذَتْ مشيئتُهُ في جميعِ البريَّاتِ، فما شاءَ اللهُ كانَ، وما لم يشأْ لم يكنْ، ولا يعجزُهُ هاربٌ، ولا يخرجُ عن سلطانِهِ أحدٌ، ومِن قوَّتِهِ أنَّهُ أوصلَ رزقَهُ إلى جميعِ العالمِ، ومِن قدرتِهِ وقوَّتِهِ، أنَّهُ يبعثُ الأمواتَ بعدَ ما مزَّقَهم البِلى، وعصفَتْ بهم الرِّياحُ، وابتلعَتْهم الطُّيورُ والسِّباعُ، وتفرَّقُوا وتمزَّقُوا في مهامِهِ القِفارِ، ولججِ البحارِ، فلا يفوتُهُ منهم أحدٌ، ويعلمُ ما تنقصُ الأرضُ منهم، فسبحانَ القويِّ المتينِ.

قالَ اللهُ تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ…} الآياتِ:

أي: وإنَّ للَّذينَ ظلمُوا وكذَّبُوا محمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مِن العذابِ والنَّكالِ {ذَنُوبًا} أي: نصيبًا وقسطًا مثلَ ما فُعِلَ بأصحابِهم مِن أهلِ الظُّلمِ والتَّكذيبِ.

{فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} بالعذابِ، فإنَّ سنَّةَ اللهِ في الأممِ واحدةٌ، فكلُّ مُكذِّبٍ يدومُ على تكذيبِهِ مِن غيرِ توبةٍ وإنابةٍ فإنَّهُ لا بدَّ أنْ يقعَ عليهِ العذابُ، ولو تأخَّرَ عنهُ مدَّةً، ولهذا توعَّدَهم اللهُ بيومِ القيامةِ، فقالَ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وهوَ يومُ القيامةِ، الَّذي قد وُعِدُوا فيهِ بأنواعِ العذابِ والنَّكالِ والسَّلاسلِ والأغلالِ، فلا مُغيثَ لهم، ولا مُنقِذَ لهم مِن عذابِ اللهِ تعالى نعوذُ باللهِ منهُ.

انتهَتِ السُّورةُ

الشيخ : نعوذُ باللهِ من عذابِ اللهِ، نعوذُ باللهِ.