الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الحشر/(2) من قوله تعالى {وما أفاء الله على رسوله} الآية 6 إلى قوله تعالى {والذين تبوءوا الدار} الآية 9
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) من قوله تعالى {وما أفاء الله على رسوله} الآية 6 إلى قوله تعالى {والذين تبوءوا الدار} الآية 9

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الحشر

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:6-10]

– الشيخ : أحسنْتَ.

الحمدُ للهِ، يقولُ تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} يعني: ما أرجعَه إلى الرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أموالِ هؤلاءِ اليهود، الفيءُ: هو ما ظفرَ بهِ المسلمونَ من أموالِ الكفَّارِ بلا قتالٍ، أمَّا ما ظفِرُوا بهِ بالقتالِ فهو الغنائمُ، هذا هو الفرقُ بينَ الغنيمةِ والفيءِ، وقد تُسمَّى الغنيمةُ فيئًا.

لكن المقصود هنا بالفيء: ما رجعَ للمسلمين من أموالِ بني النَّضيرِ، فإنَّهم ظفرُوا بها بغيرِ قتالٍ، ولهذا يقولُ تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أي: مِن بني النَّضيرِ من اليهودِ {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} لم يكنْ ما حصلَ من أموالِهم بقتالٍ وبإيجافِ الخيلِ والرِّكابِ.

وهكذا كلُّ ما ظفرَ به المسلمونَ من أموالِ الكفَّارِ بلا قتالٍ فهو فيءٌ، ولذلك أسبابٌ: منها الجلاءُ، إذا جلَوا عن ديارِهم وتركُوا أموالَهم أو فرُّوا هم باختيارِهم، يقولُ تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فاللهُ سلَّطَ الرَّسولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومَن معَه على بني النَّضيرِ حتَّى اضطرُّوهم إلى الجلاءِ، وذلك بإذنِ اللهِ وبقدرتِه حيثُ جعلَ في قلوبِهم…، ألقى اللهُ الرُّعبَ في قلوبِهم حتَّى اختارُوا الجلاءَ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فاللهُ سلَّطَ الرَّسولَ على بني النَّضيرِ.

ثمَّ قالَ تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} من بني النَّضيرِ وغيرِهم {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وهذهِ الآيةُ تضمَّنَتْ قسمةَ الفيءِ، فالفيءُ يُقسَمُ على موجبِ هذه الآيةِ {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} وبهذا يَتَّضحُ أنَّ قسمةَ الفيءِ هي قسمةُ خُمُسِ الغنيمةِ كما قالَ تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41]، فهي قسمةٌ واحدةٌ، ولفظُ الآيتين واحدٌ، فمصرِفُ الفيءِ هو مصرفُ خُمسِ الغنيمةِ.

قالَ اللهُ: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} يعني: اللهُ قسَمَهُ هذه القسمةَ لئلَّا يكونَ الفيءُ العائدُ إلى بيتِ المالِ لئلَّا يكونَ متداولًا بينَ الأغنياءِ.

ثمَّ أمرَ اللهُ باتِّباعِ رسولِهِ وطاعتِهِ في أمرِهِ ونهيِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فدلَّتْ هذه الآيةُ على وجوبِ طاعةِ الرَّسولِ في كلِّ ما يأمرُ به أو ينهى عنه {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وتقوى اللهِ بطاعتِه وطاعةِ رسولِه وامتثالِ أمرِهِ وأمرِ رسولِه وامتثالِ نهيِهِ ونهيِ رسولِهِ {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تحذيرٌ من مخالفةِ الرَّسولِ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-.

ثمَّ قالَ تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى آخرِ الآياتِ، يعني: أنَّه الفيءُ يعودُ إلى فقراءِ المهاجرين وفقراءِ الأنصارِ والَّذين اتَّبعُوهم بإحسانٍ، ذكرَ اللهُ ثلاثَ طوائفَ: المهاجرين والأنصار والَّذين جاؤُوا من بعدِهم، فالفيءُ يُقسَمُ تلك القسمةَ لكن على هذه الطَّوائفِ، من هذه الطَّوائف المساكين من المهاجرين ومن الأنصار والَّذين جاؤوا من بعدِهم.

وقالَ تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} هؤلاء الَّذين تركوا أوطانَهم للهِ وفي سبيلِ اللهِ وآثرُوا ما عندَ اللهِ {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} وهي دارُ الهجرةِ المدينةُ {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} يحبُّون المهاجرين الَّذين وفدُوا إليهم فيكرمونهم ويواسونهم ولا يكونُ في نفوسِهم شيءٌ من الضِّيقِ.

يقولُ سبحانَهُ وتعالى: {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} لا يحسدونهم على ما خصَّهم اللهُ به، فالمهاجرون أفضلُ من الأنصارِ؛ لأنَّ اللهَ قدَّمَهم في الذِّكر في كلِّ الآياتِ الَّتي وردَ فيها ذكرُهم، ذكر المهاجرين والأنصار، فهم لا يجدون غلًّا ولا حسدًا على إخوانهم بسببِ ما أكرمَهم اللهُ به وخصَّهم به من الهجرةِ والنُّصرةِ والجهادِ.

ثمَّ قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} وهم المؤمنون الَّذين جاؤُوا بعدَ الصَّحابة من التَّابعين وتابعي التَّابعين وتابعيهم إلى يومِ القيامةِ، نسألُ اللهَ أنْ يجعلَنا منهم.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

ثمَّ ذكرَ مَن انتقلَتْ إليهِ أموالُهم وأمتعتُهم، فقالَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أي: مِن أهلِ هذهِ القريةِ، وهم بنو النَّضيرِ.

{فَـ} إنَّكم يا معشرَ المسلمينَ {مَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} أي: ما أجلبْتُم وحشدْتُم، أي: لم تتَّعبُوا بتحصيلِها، لا بأنفسِكم ولا بمواشيكم، بل قذفَ اللهُ في قلوبِهم الرُّعبَ، فأتَتْكم صفوًا عفوًا، ولهذا. قالَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومِن تمامِ قدرتِهِ أنَّهُ لا يمتنعُ عليهِ ممتنِعٌ، ولا يتعزَّزُ مِن دونِهِ قويٌّ.

وتعريفُ الفيءِ باصطلاحِ الفقهاءِ: هوَ ما أُخِذَ مِن مالِ الكفَّارِ بحقٍّ، مِن غيرِ قتالٍ، كهذا المالِ الَّذي فرُّوا وتركُوهُ خوفًا مِن المسلمينَ، وسُمِّيَ فيئًا، لأنَّهُ رجعَ مِن الكفَّارِ الَّذينَ هم غيرُ مستحقِّينَ لهُ، إلى المسلمينَ الَّذينَ لهم الحقُّ الأوفرُ فيهِ.

وحكمُهُ العامُّ، كما ذكرَهُ اللهُ بقولِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} عمومًا، سواءٌ أفاءَ اللهُ في وقتِ رسولِهِ أو بعدَهُ، على مَن يتولَّى مَن بعدَهُ أمَّتَهُ.

{فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وهذهِ الآيةُ نظيرُ الآيةِ الَّتي في سورةِ الأنفالِ، وهيَ قولُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41]

فهذا الفيءُ يُقَسَّمُ خمسةَ أقسامٍ:

خمسٌ للهِ ولرسولِهِ يُصرَفُ في مصالحِ المسلمينَ العامَّةِ، وخمسٌ لذوي القربى، وهم: بنو هاشمٍ وبنو المطَّلبِ، حيثُ كانُوا يُساوَى فيهِ بينَ ذكورِهم وإناثِهم، وإنَّما دخلَ بنو المطَّلبِ في خمسِ الخمسِ، معَ بني هاشمٍ، ولم يدخلْ بقيَّةُ بني عبدِ منافٍ، لأنَّهم شاركُوا بني هاشمٍ في دخولِهم الشِّعبَ، حينَ تعاقدَتْ قريشٌ على هجرِهم وعداوتِهم فنصرُوا رسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بخلافِ غيرِهم، ولهذا قالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، في بني عبدِ المطَّلبِ: (إنَّهم لم يفارقوني في جاهليَّةٍ ولا إسلامٍ).

وخُمسٌ لفقراءِ اليتامى، وهم: مَن لا أبَ لهُ ولم يبلغْ، وخمسٌ للمساكينَ، وسهمٌ لأبناءِ السَّبيلِ، وهم الغرباءُ المنقطَعُ بهم في غيرِ أوطانِهم.

وإنَّما قدَّرَ اللهُ هذا التَّقديرَ، وحصرَ الفيءَ في هؤلاءِ الـمُعيَّنينَ {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} أي: مدوالةً واختصاصًا {بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} فإنَّهُ لو لم يقدرْهُ، لتداولَتْهُ الأغنياءُ الأقوياءُ، ولما حصلَ لغيرِهم مِن العاجزينَ منهُ شيءٌ، وفي ذلكَ مِن الفسادِ، ما لا يعلمُهُ إلَّا اللهُ، كما أنَّ في اتِّباعِ أمرِ اللهِ وشرعِهِ مِن المصالحِ ما لا يدخلُ تحتَ الحصرِ، ولذلكَ أمرَ اللهُ بالقاعدةِ الكلِّيَّةِ والأصلِ العامِّ، فقالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وهذا شاملٌ لأصولِ الدِّينِ وفروعِهِ، ظاهرِهِ وباطنِهِ، وأنَّ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ يتعيَّنُ على العبادِ الأخذُ بهِ واتِّباعُهُ، ولا تحلُّ مخالفتُهُ، وأنَّ نصَّ الرَّسولِ على حكمِ الشَّيءِ كنصِّ اللهِ تعالى، لا رخصةَ لأحدٍ ولا عذرَ لهُ في تركِهِ، ولا يجوزُ تقديمُ قولِ أحدٍ على قولِهِ، ثمَّ أمرَ بتقواهُ الَّتي بها عمارةُ القلوبِ والأرواحِ والدُّنيا والآخرةِ، وبها السَّعادةُ الدَّائمةُ والفوزُ العظيمُ، وبإضاعتِها الشَّقاءُ الأبديُّ والعذابُ السَّرمديُّ، فقالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} على مَن تركَ التَّقوى، وآثرَ اتِّباعَ الهوى.

ثمَّ ذكرَ تعالى الحكمةَ والسَّببَ الموجِبَ لجعلِهِ تعالى الأموالَ أموالَ الفيءِ لمن قدَّرَها لهُ، وأنَّهم حقيقونَ بالإعانةِ، مستحقُّونَ لأنْ تُجعلَ لهم، وأنَّهم ما بينَ مهاجرينَ قد هجرُوا المحبوباتِ والمألوفاتِ، مِن الدِّيارِ والأوطانِ والأحبابِ والخِلَّانِ والأموالِ؛ رغبةً في اللهِ ونصرةً لدينِ اللهِ، ومحبَّةً لرسولِ اللهِ، فهؤلاءِ هم الصَّادقونَ الَّذين عملُوا بمقتضى إيمانِهم، وصدَّقُوا إيمانَهم بأعمالِهم الصَّالحةِ والعباداتِ الشاقَّةِ، بخلافِ مَن ادَّعى الإيمانَ وهوَ لم يصدقْهُ بالجهادِ والهجرةِ وغيرِهما مِن العباداتِ، وبينَ أنصارٍ وهم الأوسُ والخزرجُ الَّذينَ آمنُوا باللهِ ورسولِهِ طوعًا ومحبَّةً واختيارًا، وآوَوا رسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومنعُوهُ مِن الأحمرِ والأسودِ، وتبوَّؤُوا دارَ الهجرةِ والإيمانِ حتَّى صارَتْ موئلًا ومرجعًا يرجعُ إليهِ المؤمنونَ، ويلجأُ إليهِ المهاجرونَ، ويسكنُ بحماهُ المسلمونَ إذ كانَتِ البلدانُ كلُّها بلدانُ حربٍ وشركٍ وشرٍّ، فلم يزلْ أنصارُ الدِّينِ يأوونَ الأنصارَ، حتَّى انتشرَ الإسلامُ وقويَ، وجعلَ يزيدُ شيئًا شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا حتَّى فتحُوا القلوبَ بالعلمِ والإيمانِ والقرآنِ، والبلدانَ بالسَّيفِ والسِّنانِ.

الَّذين مِن جملةِ أوصافِهم الجميلةِ أنَّهم {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} وهذا لمحبَّتِهم للهِ ولرسولِهِ، أحبُّوا أحبابَهُ، وأحبُّوا مَن نصرَ دينَهُ.

{وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أي: لا يحسدونَ المهاجرينَ على ما آتاهم اللهُ مِن فضلِهِ وخصَّهم بهِ مِن الفضائلِ والمناقبِ الَّتي هم أهلُها، وهذا يدلُّ على سلامةِ صدورِهم، وانتفاءِ الغِلِّ والحقدِ والحسدِ عنها.

ويدلُّ ذلكَ على أنَّ المهاجرينَ، أفضلُ مِن الأنصارِ، لأنَّ اللهَ قدَّمَهم بالذِّكرِ، وأخبرَ أنَّ الأنصارَ لا يجدونَ في صدورِهم حاجةٌ ممَّا أُوتوا، فدلَّ على أنَّ اللهَ تعالى آتاهم ما لم يُؤتِ الأنصارَ ولا غيرَهم، ولأنَّهم جمعُوا بينَ النُّصرةِ والهجرةِ.

وقولُهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: ومِن أوصافِ الأنصارِ الَّتي فاقُوا بها غيرَهم، وتميَّزُوا بها على مَن سواهم، الإيثارُ، وهوَ أكملُ أنواعِ الجودِ، وهوَ الإيثارُ بمحابِّ النَّفسِ مِن الأموالِ وغيرِها، وبذلِها للغيرِ معَ الحاجةِ إليها، بل معَ الضَّرورةِ والخصاصةِ، وهذا لا يكونُ إلَّا مِن خلقٍ زكيٍّ، ومحبَّةٍ للهِ تعالى مقدَّمةٍ على محبَّةِ شهواتِ النَّفسِ ولذَّاتِها، ومِن ذلكَ قصَّةُ الأنصاريِّ الَّذي نزلَتِ الآيةُ بسببِهِ، حينَ آثرَ ضيفَهُ بطعامِهِ وطعامِ أهلِهِ وأولادِهِ وباتُوا جياعًا، والإيثارُ عكسُ الأثرةِ، فالإيثارُ محمودٌ، والأثرةُ مذمومةٌ، لأنَّها مِن خصالِ البخلِ والشُّحِّ، ومَن رُزِقَ الإيثارَ فقد وُقِيَ شُحَّ نفسِهِ {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ووقايةُ شُحِّ النَّفسِ، يشملُ وقايتَها الشُّحَّ في جميعِ ما أُمِرَ بهِ، فإنَّهُ إذا وُقِيَ العبدُ شحَّ نفسِهِ، سمحَتْ نفسُهُ بأوامرِ اللهِ ورسولِهِ، ففعلَها طائعًا منقادًا، منشرحًا بها صدرُهُ، وسمحَتْ نفسُهُ بتركِ ما نهى اللهُ عنهُ، وإنْ كانَ محبوبًا للنَّفسِ، تدعو إليهِ، وتطلعُ إليهِ، وسمحَتْ نفسُهُ ببذلِ الأموالِ في سبيلِ اللهِ وابتغاءَ مرضاتِهِ، وبذلكَ يحصلُ الفلاحُ والفوزُ، بخلافِ مَن لم يُوقَ شحَّ نفسِهِ، بل ابتُلِيَ بالشُّحِّ بالخيرِ، الَّذي هوَ أصلُ الشَّرِّ ومادَّتِهِ، فهذانِ الصِّنفانِ، الفاضلانِ الزَّكيَّانِ هم الصَّحابةُ الكرامُ والأئمَّةُ الأعلامُ، الَّذينَ حازُوا مِن السَّوابقِ والفضائلِ والمناقبِ ما سبقُوا بهِ مَن بعدَهم، وأدركُوا بهِ مَن قبلَهم، فصارُوا أعيانَ المؤمنينَ، وساداتِ المسلمينَ، وقاداتِ المتقينَ.

وحَسْبُ مَن بعدَهم مِن الفضلِ أنْ يسيرَ خلفَهم، ويأتمَّ بهداهم، ولهذا ذكرَ اللهُ مِن اللَّاحقينَ، مَن هوَ مُؤتَمٌّ بهم وسائرٌ خلفَهم فقالَ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: مِن بعدِ المهاجرينَ والأنصارِ {يَقُولُونَ} على وجهِ النُّصحِ لأنفسِهم ولسائرِ المؤمنينَ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ}

وهذا دعاءٌ شاملٌ لجميعِ المؤمنينَ مِن السَّابقينَ مِن الصَّحابةِ، ومَن قبلَهم ومَن بعدَهم، وهذا مِن فضائلِ الإيمانِ أنَّ المؤمنينَ ينتفعُ بعضُهم ببعضٍ، ويدعو بعضُهم لبعضٍ، بسببِ المشاركةِ في الإيمانِ المقتضي لعقدِ الأخوَّةِ بينَ المؤمنينَ الَّتي مِن فروعِها أنْ يدعوَ بعضُهم لبعضٍ، وأنْ يحبَّ بعضُهم بعضًا.

ولهذا ذكرَ اللهُ في الدُّعاءِ نفيَ الغِلِّ عن القلبِ، الشَّاملِ لقليلِهِ وكثيرِهِ، الَّذي إذا انتفى ثبتَ ضدُّهُ، وهوَ المحبَّةُ بينَ المؤمنينَ

– الشيخ : وهذا ما عليهِ أهلُ السُّنَّةِ، أهلُ السُّنَّةِ هم المتخلِّقونَ بهذا الخلقِ، يحبُّون الصَّحابةَ والتَّابعين لهم بإحسانٍ، ويترضَّون عنهم ويقتفون آثارَهم ولا يطعنونَ بأحدٍ منهم، ولا يحسدونهم على ما آتاهم اللهُ، هذا منهجُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، بخلافِ طوائفِ البدعِ والضَّلالِ ولا سيما الرَّافضة ومن حذا حذوهم، الَّذين يبغضون الصَّحابةَ بل يبغضون ساداتِ الصَّحابةِ بل وأكثر من ذلك، فهؤلاء مخذولون، محرومون باؤُوا بالإثمِ العظيمِ والبعدِ عن هدى الله والصِّراطِ المستقيمِ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} فهذا سبيلُ المؤمنين، فمن سبيلِ أهلِ السُّنَّةِ سلامةُ قلوبِهم وألسنتِهم لأصحابِ رسولِ اللهِ، فلا يجدون في صدورِهم غلًّا ولا يتكلَّمون فيهم إلَّا بخيرٍ يثنون عليهم ويترضَّون عنهم ويعرفون لهم فضلَهم، وينزلونهم منازلَهم.

 

– القارئ : وهوَ المحبَّةُ بينَ المؤمنينَ والموالاةُ والنُّصحُ، ونحو ذلكَ ممَّا هوَ مِن حقوقِ المؤمنينَ.

فوصفَ اللهُ مَن بعدَ الصَّحابةِ بالإيمانِ، لأنَّ قولَهم: {سَبَقُونَا بِالإيمَانِ} دليلٌ على المشاركةِ فيهِ، وأنَّهم تابعونَ للصَّحابةِ في عقائدِ الإيمانِ وأصولِهِ، وهم أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، الَّذينَ لا يَصدقُ هذا الوصفُ التامُّ إلَّا عليهم، ووصفَهم بالإقرارِ بالذُّنوبِ والاستغفارِ منها، واستغفارُ بعضِهم لبعضٍ، واجتهادُهم في إزالةِ الغِلِّ والحقدِ عن قلوبِهم لإخوانِهم المؤمنينَ، لأنَّ دعاءَهم بذلكَ مستلزِمٌ لما ذكرْنا، ومتضمِّنٌ لمحبَّةِ بعضِهم بعضًا، وأنْ يحبَّ أحدُهم لأخيهِ ما يحبُّ لنفسِهِ، وأنْ ينصحَ لهُ حاضرًا وغائبًا، حيًّا وميتًا، ودلَّتِ الآيةُ الكريمةُ على أنَّ هذا مِن جملةِ حقوقِ المؤمنينَ بعضِهم لبعضٍ، ثمَّ ختمُوا دعاءَهم باسمينِ كريمينِ، دالَّينِ على كمالِ رحمةِ اللهِ وشدَّةِ رأفتِهِ وإحسانِهِ بهم، الَّذي مِن جملتِهِ، بل مِن أجلِهِ، توفيقُهم للقيامِ بحقوقِ اللهِ وحقوقِ عبادِهِ.

فهؤلاءِ الأصنافُ الثَّلاثةُ هم أصنافُ هذهِ الأمَّةِ، وهم المستحقُّونَ للفيءِ الَّذي مصرفُهُ راجعٌ إلى مصالحِ الإسلامِ.

وهؤلاءِ أهلُهُ الَّذينَ هم أهلُهُ، جعلَنا اللهُ منهم، بمنِّهِ وكرمِهِ.

– الشيخ : آمين آمين آمين

– القارئ : انتهى

– الشيخ : … جزى اللهُ الشَّيخَ خيرًا لقد أجادَ وأفادَ وأفاضَ في التَّعبيرِ عن فضلِ هذه الطَّوائف من المؤمنين: المهاجرين والأنصارِ وأهلِ السُّنَّةِ الَّذين جاؤوا من بعدِهم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، الحمدُ لله، الحمدُ لله على نعمةِ الإسلامِ والسُّنَّةِ، نعمةُ الإسلامِ الَّتي حُرِمَها أكثرُ الخليقةِ، ونعمةُ السُّنَّةِ الَّتي ضلَّ عنها كثيرٌ من المنتسبين للإسلامِ.