الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الحشر/(3) من قوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا} الآية 10 إلى قوله تعالى {فكان عاقبتهما أنهما في النار} الآية 17
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(3) من قوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا} الآية 10 إلى قوله تعالى {فكان عاقبتهما أنهما في النار} الآية 17

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الحشر

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر:10-17]

– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله، سبحانَ الله، ذكرَ اللهُ في هذه السُّورةِ أصنافَ الكفَّارِ وأصنافَ المؤمنين، فذكرَ في أوَّلِ السُّورةِ خبرَ اليهودِ بني النَّضير الَّذين أرادُوا الفتكَ بالنَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخانُوا العهدَ ونقضُوا العهدَ، فعاقبَهم اللهُ عقوبةً عاجلةً، ولهم في الآخرةِ عذابُ النَّارِ.

وذكرَ تعالى في هذه الآيةِ خبرَ إخوانهم من المنتسبين للإسلامِ وهم المنافقون {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} وهذا -كما تقدَّمَ- المقصودُ الأوَّلُ في هؤلاء هو عبدُ اللهِ بنُ أُبيِّ بنُ سلولٍ رأسُ المنافقين، أرسلَ لليهود يعدُهم النَّصرَ ويعدُهم الدُّخولَ معَهم في حصونِهم فأكذبَه اللهُ وأبطلَ كيدَه وأذلَّه وأصحابَه وأولياءَه.

{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} وعودٌ كاذبةٌ لا حقيقةَ لها، فلا هم خارجين معَهم لو أُخرِجُوا، ولهذا لـمَّا أُجلوا ما جلَوا معَهم، هاه، الواقعُ شاهدٌ بكذبهم لـمَّا أُجلوا ما جلوا، إذًا فبطلَ قولُهم {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} ما خرجُوا معَهم، ولو قُوتِلُوا ما قاتلُوا معَهم {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}.

قالَ اللهُ: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ} أنتم أيُّها المؤمنونَ {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}.

{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} هذا يقتضي أنَّهم جبناءُ، لا يقاتلون المسلمونَ إلَّا من وراءِ الحصونِ والجدرانِ، لا يستطيعونَ المواجهةَ، {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} وهذه حالُ اليهودِ، اللهُ وصفَهم بأنَّهم متباغضونَ فيما بينَهم، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}

{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قبلَ بني النَّضيرِ جلا بنو قينقاع من اليهودِ أيضًا، فجرَتْ عليهم سنَّةُ اللهِ ولهذا يقولُ تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} وهذه حالُ الشَّيطانِ، كلُّ شيطانٍ يسوِّلُ للإنسانِ ويدعوه للكفرِ وإذا أطاعَه وكفرَ منه، ويوم القيامةِ يتبرَّأُ الشَّيطانُ من كلِّ من اتَّبعَهُ، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي…} الآيات، فالشَّيطانُ يتبرَّأُ…، كلُّ شيطانٍ يتبرَّأُ من قرينِه وصاحبِه، ويتبرَّأُ الشَّيطانُ الأكبرُ من جنودِه كلِّهم، {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} فاللهُ يجمعُ الشَّياطينَ ومَن أطاعَهم في نارِ جهنَّمَ {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:91-95] الآياتِ.

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

ثمَّ تعجَّبَ تعالى مِن حالِ المنافقينَ، الَّذينَ طَمِعُوا إخوانَهم مِن أهلِ الكتابِ، في نصرتِهم

الشيخ : طَمِعُوا ولَّا أطمعوا إخوانَهم

القارئ : لا طَمِعُوا

الشيخ : طَمِعُوا إخوانَهم! فيها واو "طَمِعُوا"؟

القارئ : نعم فيها واوٌ وألفٌ

– طالب: طَمَّعُوا

الشيخ : يمكن طَمَّعُوا جيِّد، طَمَّعوا أو أطمعُوا، أطمعُوا أوضح، عندكم مضبوطة يا فيصل؟

– طالب: نعم

الشيخ : طَمَّعُوا؟

– طالب: نعم

الشيخ : جيِّد، طَمَّعوا بمعنى أطمعُوا أطمعُوهم ووعدُوهم وعد

القارئ : الَّذينَ طَمَّعُوا إخوانَهم مِن أهلِ الكتابِ، في نصرتِهم وموالاتِهم على المؤمنينَ، وأنَّهم يقولونَ لهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} أي: لا نطيعُ في عدمِ نصرتِكم أحدًا يعذلُنا أو يخوِّفُنا، {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في هذا الوعدِ الَّذي غرُّوا بهِ إخوانَهم.

ولا يُستكثَرُ هذا عليهم، فإنَّ الكذبَ وصفُهم، والغرورَ والخداعَ مقارنُهم، والنِّفاقَ والجبنَ يصحبُهم، ولهذا كذَّبَهم اللهُ بقولِهِ، الَّذي وجدَ مخبرَهُ كما أخبرَ اللهُ بهِ، ووقعَ طبقَ ما قالَ، فقالَ: {لَئِنْ أُخْرِجُوا} مِن ديارِهم جلاءً ونفيًا {لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} لمحبَّتِهم للأوطانِ، وعدمِ صبرِهم على القتالِ، وعدمِ وفائِهم بالوعدِ.

{وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ} بل يستولي عليهم الجبنُ، ويملكُهم الفشلُ، ويخذلونَ إخوانَهم، أحوجُ ما كانُوا إليهم.

{وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} على الفرضِ والتَّقديرِ {لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} أي: سيحصلُ منهم الإدبارُ عن القتالِ والنُّصرةِ، ولا يحصلُ لهم نصرٌ مِن اللهِ.

الشيخ : هذا على سبيلِ الفرضِ لو نَصَرُوهُمْ لولَّوا الأدبارَ، لو قُدِّرَ أنَّهم ينصرونهم ويدخلون معَهم في حربٍ لولَّوا الأدبارَ وانهزمُوا لـشدَّةِ جبنِهم وضعفِهم وكذبِهم، وهذا من نوعِ، ما يخبرُ اللهُ به ممَّا لا يكونُ كيف يكونُ، لأنَّ نصرتَهم غيرُ كائنةٍ، واللهُ يقولُ: "لو" لو فُرِضَ ذلك لكانَت هذه هي الحقيقةُ النَّتيجة، {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ}، {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} فخرجُوا فعلًا ولم يخرجوا معَهم ولو قاتلُوا لما قاتلُوا معَهم، ولو نصرُوهم لولَّوا الأدبارَ.

 

القارئ : والسَّببُ الَّذي حملَهم على ذلكَ أنَّكم -أيُّها المؤمنونَ- {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} فخافُوا منكم أعظمَ ممَّا يخافونَ اللهَ، وقدَّمُوا مخافةَ المخلوقِ الَّذي لا يملكُ لنفسِهِ ولا لغيرِهِ نفعًا ولا ضرًّا، على مخافةِ الخالقِ، الَّذي بيدِهِ الضُّرُّ والنَّفعُ، والعطاءُ والمنعُ.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} مراتبُ الأمورِ، ولا يعرفونَ حقائقَ الأشياءِ، ولا يتصوَّرونَ العواقبَ، وإنَّما الفقهُ كلُّ الفقهِ، أنْ يكونَ خوفُ الخالقِ ورجاؤُهُ ومحبَّتُهُ مقدَّمةً على غيرِها، وغيرُها تبعًا لها.

{لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا} أي: في حالِ الاجتماعِ {إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} أي: لا يثبتونَ على قتالِكم ولا يعزمونَ عليهِ، إلَّا إذا كانُوا متحصِّنينَ في القرى، أو مِن وراءِ الجدرِ والأسوارِ.

فإنَّهم إذْ ذاكَ ربَّما يحصلُ منهم امتناعٌ؛ اعتمادًا على حصونِهم وجدرِهم، لا شجاعةً بأنفسِهم، وهذا مِن أعظمِ الذَّمِّ، {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي: بأسُهم فيما بينَهم شديدٌ، لا آفةَ في أبدانِهم ولا في قُوِّتِهم، وإنَّما الآفةُ في ضعفِ إيمانِهم وعدمِ اجتماعِ كلمتِهم، ولهذا قالَ: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا} حينَ تراهم مجتمعينَ ومتظاهرينَ. {وَ} لكنْ {قُلُوبُهُمْ شَتَّى} أي: متباغضةٌ متفرِّقةٌ متشتِّتةٌ.

{ذَلِكَ} الَّذي أوجبَ لهم اتِّصافَهم

الشيخ : كما قالَ تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:64]، قالَ ذلك في اليهود {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.

 

القارئ : {ذَلِكَ} الَّذي أوجبَ لهم اتِّصافَهم بما ذكرَ {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} أي: لا عقلَ عندَهم، ولا لبَّ، فإنَّهم لو كانَتْ لهم عقولٌ، لآثرُوا الفاضلَ على المفضولِ، ولَما رضَوا لأنفسِهم بأبخسِ الخطَّتَينِ، ولكانَتْ كلمتُهم مجتمعةً، وقلوبُهم مؤتلفةً، فبذلكَ يتناصرونَ ويتعاضدونَ، ويتعاونونَ على مصالحِهم ومنافعِهم الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ.

مثلُ هؤلاءِ المخذولينَ مِن أهلِ الكتابِ، الَّذين انتصرَ اللهُ لرسولِهِ منهم، وأذاقَهم الخزيَ في الحياةِ الدُّنيا، وعدمَ نصرِ مَن وعدَهم بالمعاونةِ {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} وهم كفَّارُ قريشٍ الَّذينَ زيَّنَ لهم الشَّيطانُ أعمالَهم، وقالَ: {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} [الأنفال:48]

فغرَّتْهم أنفسُهم، وغرَّهم مَن غرَّهم، الَّذينَ لم ينفعُوهم، ولم يدفعُوا عنهم العذابَ، حتَّى أتَوا "بدرًا" بفخرِهم وخيلائِهم، ظانِّينَ أنَّهم مدركونَ برسولِ اللهِ والمؤمنينَ أمانيهم.

فنصرَ اللهُ رسولَهُ والمؤمنينَ عليهم، فقتلُوا كبارَهم وصناديدَهم، وأسرُوا مَن أسرُوا منهم، وفرَّ مَن فرَّ، وذاقُوا بذلكَ وبالَ أمرِهم وعاقبةَ شركِهم وبغيِهم، هذا في الدُّنيا، {وَلَهُمْ} في الآخرةِ عذابُ النَّارِ.

ومثلُ هؤلاءِ المنافقينَ الَّذين غرُّوا إخوانَهم مِن أهلِ الكتابِ {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنْسَانِ اكْفُرْ} أي: زيَّنَ لهُ الكفرَ وحسَّنَهُ ودعاهُ إليهِ، فلمَّا اغْتَرَّ بهِ وكفرَ، وحصلَ لهُ الشَّقاءُ، لم ينفعْهُ الشَّيطانُ، الَّذي تولَّاهُ ودعاهُ إلى ما دعاهُ إليهِ، بل تبرَّأَ منهُ و {قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي: ليسَ لي قدرةٌ على دفعِ العذابِ عنكَ، ولسْتُ بمغنٍ عنكَ مثقالَ ذرَّةٍ مِن الخيرِ.

{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} أي: الدَّاعي الَّذي هوَ الشَّيطانُ، والمدعوُّ الَّذي هوَ الإنسانُ حينَ أطاعَهُ {أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} كما قالَ تعالى: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} الَّذينَ اشتركُوا في الظُّلمِ والكفرِ، وإنْ اختلفُوا في شدَّةِ العذابِ وقوَّتِهِ، وهذا دأبُ الشَّيطانِ معَ كلِّ أوليائِهِ، فإنَّهُ يدعوهم ويدلُّهم إلى ما يضرُّهم بغرورٍ، حتَّى إذا وقعُوا في الشِّباكِ، وحاقَتْ بهم أسبابُ الهلاكِ، تبرَّأَ منهم وتخلَّى عنهم.

واللَّومُ كلُّ اللَّومِ على مَن أطاعَهُ، فإنَّ اللهَ قد حذَّرَ منهُ وأنذرَ، وأخبرَ بمقاصدِهِ وغايتِهِ ونهايتِهِ، فالمقْدِمُ على طاعتِهِ، عاصٍ على بصيرةٍ لا عذرَ لهُ.

الشيخ : الشَّيطانُ يكونُ من الإنس ويكونُ من الجنِّ، وكم من شيطانٍ من شياطين الإنسِ دعوا من اتَّصل لهم إلى الكفرِ وأوقعُوه فيه وتبرَّؤوا منه، والأصلُ هو الشَّيطانُ الأوَّلُ إبليس ثمَّ ذرِّيَّته وجنوده، كلُّهم على هذا المنهاجِ على هذه الطَّريقةِ، يدعونَ إلى الكفرِ باللهِ ويزيِّنونَ لمن أطاعَهم ذلكَ، ثمَّ إذا أوقعُوهم ووقعُوا في شباكِ العذابِ تبرَّؤوا منه، فهي طريقةٌ مسلوكةٌ لشياطينِ الإنسِ والجنِّ، من يطيعُهم قذفُوه في النَّارِ كما جاءَ في الحديثِ: (على سبيلِ شيطانٍ يدعو إليهِ)، (دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا) يدعون إلى الكفرِ باللهِ وإلى معاصي اللهِ، فمن أطاعَهم لحقَ بهم ووقعَ في أسوأِ مصيرٍ إلى جهنَّمَ، وبئسَ المصيرِ.

– طالب: أحسنَ اللهُ إليكم يا شيخ، ما أشبهَ اليومَ بالبارحة حتى الآن يقولون: أنَّ اليهودَ مجتمعون وأنَّهم على يدِ رجلٍ واحدٍ وأنَّهم على..

الشيخ : إي هؤلاء الجهلة هؤلاء الجهلة المغرورون الموالون لهم، المنافقون هم إخوانهم قديمًا وحديثًا.