بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الجواب الصَّحيح لِمَن بدّل دين المسيح) لابن تيمية
الدّرس: السَّابع والأربعون بعد المئة

***    ***    ***    ***

 

- القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعينَ، أمَّا بعدُ:

فيقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ: "الجوابِ الصَّحيحِ لِمَن بدَّلَ دينَ المسيحِ":

قُلْتُ: فَهَذَا كَلَامُ سَعِيدِ بْنِ الْبِطْرِيقِ الَّذِي قَرَّرَ بِهِ دِينَ النَّصَارَى، وَفِيهِ مِنَ الْبَاطِلِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ، لَكِنْ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوهًا.

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّ مِنْ عَظِيمِ تَدْبِيرِ اللَّهِ أَنْ بَعَثَ كَلِمَتَهُ الْخَالِقَةَ، الَّتِي بِهَا خُلِقَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ جَوْهَرِهِ، لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً، وَلَكِنْ مَوْلُودَةٌ مِنْهُ، فَهَبَطَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ الْخَالِقَةُ بِقِوَامِهَا الْقَائِمِ الدَّائِمِ، فَالْتَحَمَتْ مِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ.

فَيُقَالُ: قَدْ جَعَلْتَ الْكَلِمَةَ الْخَالِقَةَ، وَقُلْتَ -بَعْدَ هَذَا-: وَلَا كَانَتِ الْكَلِمَةُ بَرِيَّةً مِنْهُ، وَلَا مِنْ رُوحِهِ الْخَالِقَةِ، وَقُلْتَ -بَعْدَهَا-: فَاحْتَجَبَتِ الْكَلِمَةُ الْخَالِقَةُ بِإِنْسَانٍ مَخْلُوقٍ، خَلَقَتْهُ لِنَفْسِهَا بِمَسَرَّةِ الْأَبِ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ الْقُدُسِ جَمِيعًا، خَلْقًا جَدِيدًا.

فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخَالِقُ الْعَالَمِ -عِنْدَكُمْ- خَالِقٌ وَاحِدٌ وَهُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ، أَمْ لِلْعَالَمِ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ خَالِقُونَ؟

فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْخَالِقَ وَاحِدٌ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ خَالِقُونَ، كَمَا أَنَّهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ يُصَرِّحُونَ بِثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، وَثَلَاثَةِ خَالِقِينَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَخَالِقٌ وَاحِدٌ.

فَيُقَالُ: هَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ، فَإِمَّا هَذَا، وَإِمَّا هَذَا.

وَإِذَا قُلْتُمُ: الْخَالِقُ وَاحِدٌ، لَهُ ثَلَاثُ صِفَاتٍ، لَمْ نُنَازِعْكُمْ فِي أَنَّ الْخَالِقَ لَهُ صِفَاتٌ، لَكِنْ لَا يَخْتَصُّ بِثَلَاثَةٍ.

فَإِنْ قَالُوا بِثَلَاثَةِ آلِهَةٍ خَالِقِينَ، كَمَا قَدْ كَثُرَ مِنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ، بَانَ كُفْرُهُمْ وَعَظُمَ شِرْكُهُمْ، وَبَانَ أَنَّ شِرْكَهُمْ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ فِي الْعَالَمِ، فَغَايَةُ الْمَجُوسِ الثَّنَوِيَّةِ - إِثْبَاتُ اثْنَيْنِ، نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَهَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ ثَلَاثَةً.

ثُمَّ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَسَائِرِ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِكَوْنِ الْخَالِقِ وَاحِدًا، كَثِيرَةٌ جِدًّا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا هُنَا.

وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْخَالِقَ وَاحِدٌ، لَهُ صِفَاتٌ، قِيلَ لَهُمْ: فَهَذَا مُنَاقِضٌ لِقَوْلِكُمْ: إِنَّهُ بَعَثَ كَلِمَتَهُ الْخَالِقَةَ، وَقَوْلِكِمْ: (وَلَا كَانَتِ الْكَلِمَةُ بَرِيَّةً مِنْهُ وَلَا مِنْ رُوحِهِ الْخَالِقَةِ) وَقَوْلِكِمْ: (فَهَبَطَتِ الْكَلِمَةُ الْخَالِقَةُ)، وَقَوْلِكِمْ: (فَاحْتَجَبَتِ الْكَلِمَةُ الْخَالِقَةُ بِإِنْسَانٍ مَخْلُوقٍ، خَلَقَتْهُ لِنَفْسِهَا بِمَسَرَّةِ الْأَبِ وَمُؤَازَرَةِ الرُّوحِ). فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْكَلِمَةَ خَالِقَةٌ وَأَنَّ الرُّوحَ خَالِقَةٌ، وَأَنَّهَا خَلَقَتْ بِمَسَرَّةِ الْأَبِ الْخَالِقِ وَمُؤَازَرَةِ الرُّوحِ الْخَالِقَةِ، وَهَذَا الْخَالِقُ هَبَطَ وَالْأَبُ لَمْ يَهْبِطْ.

فَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ وَاحِدًا لَهُ صِفَاتٌ، لَمْ يَكُنْ هُنَا إِلَّا خَالِقٌ وَاحِدٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُكُمْ: (بَعَثَ كَلِمَتَهُ الْخَالِقَةَ الَّتِي بِهَا خُلِقَ كُلُّ شَيْءٍ)، وَقَدْ نَطَقَتِ الْكُتُبُ بِأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ بِكَلَامِهِ، فَيَقُولُ لَهَا: (كُنْ فَيَكُونُ)، هَكَذَا فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَغَيْرِهِمَا.

لَكِنَّ الْخَالِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ بِكَلَامِهِ، لَيْسَ كَلَامُهُ خَالِقًا.

وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ قَطُّ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ.

وَالتَّوْرَاةُ كَلَامُ اللَّهِ، وَالْإِنْجِيلُ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: يَا كَلَامَ اللَّهِ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي.

فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ: إِنَّ كَلِمَتَهُ هِيَ الْخَالِقَةُ وَإِنَّهُ خَلَقَ بِهَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ.

فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ هِيَ الْخَالِقَةُ، لَمْ تَكُنْ هِيَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَالْمَخْلُوقُ بِهِ لَيْسَ هُوَ الْخَالِقُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: قَوْلُكُمْ: (كَلِمَةُ اللَّهِ الْخَالِقَةُ) أَهِيَ كَلَامُ اللَّهِ كُلُّهُ، أَمْ هِيَ بَعْضُ كَلَامِ اللَّهِ، أَمْ هِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ، الَّذِي يُثْبِتُهُ ابْنُ كُلَّابٍ، أَمْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ، أَمْ هِيَ الذَّاتُ الْمُتَكَلِّمَةُ؟

فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الذَّاتُ الْمُتَكَلِّمَةُ، فَهِيَ الْأَبُ وَالرَّبُّ، وَتَكُونُ هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالْحَيَاةِ، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ كَلَامٌ مَوْلُودٌ، وَلَا كَلِمَةٌ أُرْسِلَتْ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِمْ كُلِّهِمْ، فَإِنَّ الْكَلِمَةَ الْمُتَّحِدَةَ بِالْمَسِيحِ لَيْسَتْ هِيَ الْأَبُ عِنْدَهُمْ.

وَإِنْ قَالُوا: بَلْ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ كُلُّهُ.

قِيلَ لَهُمْ: فَيَكُونُ الْمَسِيحُ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ وَسَائِرُ كَلَامِ اللَّهِ، وَهَذَا لَا يَقُولُونَهُ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ وَلَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.

وَإِنْ قَالُوا: إِنَّهَا هِيَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ، أَوِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ.

قِيلَ لَهُمْ: هَذَانِ الْقَوْلَانِ -وَإِنْ كَانَا بَاطِلَيْنِ- فَإِنْ قُلْتُمْ بِهِمَا لَزِمَكُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ كُلُّهُ، فَإِنَّ هَذَيْنِ -عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِمَا- هُمَا جَمِيعُ كَلَامِ اللَّهِ.

وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَسَائِرُ كَلَامِ اللَّهِ، عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ، وَهُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الْقَدِيمَةُ الْقَائِمَةُ بِالذَّاتِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَيْنِ.

إِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ بَعْضُ كَلِمَاتِ اللَّهِ، فَحِينَئِذٍ لِلَّهِ كَلِمَاتٌ أُخَرُ غَيْرُ الْمَسِيحِ، فَاجْعَلُوا كُلَّ كَلِمَةٍ خَلْقًا كَمَا جَعَلْتُمُ الْكَلِمَةَ الْمُتَّحِدَةَ بِالْمَسِيحِ خَالِقًا، إِذْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ: "الْكَلِمَةُ هِيَ الْخَالِقَةُ وَهِيَ الْمَخْلُوقُ بِهَا"، فَقُولُوا عَنْ سَائِرِ كَلِمَاتِ اللَّهِ إِنَّهَا خَالِقَةٌ مَخْلُوقٌ بِهَا، وَحِينَئِذٍ فَيَتَعَدَّدُ الْخَالِقُ بِتَعَدُّدِ كَلِمَاتِ اللَّهِ.

وَإِذَا كَانَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، كَانَ الْخَلْقُ خَالِقِينَ لَا نِهَايَةَ لَهُمْ، وَهَذَا غَايَةُ الْبَاطِلِ وَالْكَفْرِ.

وَبِالْجُمْلَةِ، أَيُّ شَيْءٍ فَسَّرُوا بِهِ الْكَلِمَةَ تَبَيَّنَ بِهِ فَسَادُ قَوْلِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ، وَيَقُولُونَ الْكَذِبَ وَالْكُفْرَ الْمُتَنَاقِضَ، وَإِنَّمَا عِنْدَهُمْ تَقْلِيدُ مَنْ أَضَلَّهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: مَا لَمْ يُعْلَمْ بِالْمَعْقُولِ، فَلَيْسَ فِي الْمَنْقُولِ مَا يَدُلُّ

- الشيخ : لعلَّكَ تقفُ على هذا، يطولُ، رحمَه اللهُ.