الرئيسية/شروحات الكتب/كتاب زاد المستقنع/كتاب الطهارة من زاد المستقنع/(8) “باب السواك وسنن الوضوء” غسل الكفين 3– “باب فروض الوضوء وصفته”
file_downloadshare

(8) “باب السواك وسنن الوضوء” غسل الكفين 3– “باب فروض الوضوء وصفته”

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

قال المصنِّف -رحمه اللهُ تعالى-:
(ومن سننِ الوضوءِ: السّواكُ، وغسلُ الكفينِ ثلاثاً. ويجبُ مِن نومِ ليلٍ ناقضٍ لوضوءٍ، والبداءَةُ بمضمضةٍ ثم استنشاقٍ، والمبالغةُ فيهما، لغيرِ صائمٍ، وتخليلُ اللحيةِ الكثيفةِ، والأصابعِ، والتيامُنُ، وأخذُ ماءٍ جديدٍ للأذنينِ، والغسلةُ الثانيةُ والثالثةُ)

هذه سنن الوضوء، والوضوء الكامل: يشتمل على الفرائض، وعلى السنن، وهذه سنن الوضوء.
قال المؤلف: (ومن سننِ الوضوءِ: السِّواك) وبدأ به؛ لعله تنبيهًا على أنه يُبدأ به عند الشروع في الوضوء، ولكن السواك –يظهر أنه- تحصل به السنة عند الوضوء، سواء في أوله، أو وسطه، أو آخره؛ لأنه غير محدد، وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لولا أنْ أشقَّ على أمّتي لأمرتهم بالسواكِ مع كلِّ وضوءٍ).
ومن سنن الوضوء: (غسلُ الكفينِ ثلاثاً)، يعني قبل إدخالهما في الإناء، أيضًا لفعله -صلى الله عليه وسلم- المطرد، فكل من ذكر صفة وضوئه -صلى الله عليه وسلم- يذكر أنه يبدأ، فيفرغ على يمينه، فيغسل كفيه، يفعل ذلك ثلاث مرات، وهذه سنة، غسل الكفين، والتثليث فيه كذلك سنة.
لكن غسل الكفين ثلاثاً قبل إدخالهما في الإناء، يجب بعد الاستيقاظ من النوم، أو من نوم الليل، للحديث الصحيح، من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا استيقظ أحدُكم من نومِهِ، فلا يَغْمِسْ يدَه في الإناءِ حتى يغسلَها ثلاثًا؛ فإنه لا يَدْرِي أين باتت يدُه).
وهل ذلك لنجاسة اليد، أو للشك في نجاستها، أو أن ذلك تعبُّد؟، الأشبه أنه تعبد، يشبه غسل الأعضاء في الوضوء، لا لنجاسة الكفين، ولا للشك في نجاستهما، ولكن علله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (فإنَّه لا يدري أين باتتْ يدهُ).
وعقد بعض أهل العلم مناسبة بين هذا الحديث، وبين قوله: (إذا استيقظَ أحدكم من نومهِ فليستنثرْ ثلاثاً، فإنَّ الشيطانَ يبيتُ على خيشومهِ)، فقال: ربما وقعت يده على أنفه، الذي يكون مبيتاً للشيطان، فأمر بالاستنثار ثلاثاً، وأمر بغسل اليدين ثلاثاً.

قال المؤلف: (ويجبُ مِن نومِ ليلٍ ناقضٍ لوضوءٍ). أي: يجب غسل الكفين، (مِن نومِ ليلٍ ناقضٍ لوضوءٍ) من نوم ليل بعد الاستيقاظ، ناقض لوضوء، يعني النوم غير الناقض لا أثر له، ما دام أنه ما ينقض الوضوء، فإذا قُدِّر أنه نعس نعاساً في الليل، فلا يجب عليه غسل الكفين، عندما يريد أن يتوضأ.
ومن سنن الوضوء: (البداءَةُ بمضمضةٍ ثم استنشاقٍ)، قبل غسل الوجه، وهي السنة، فلا تبدأ بغسل الوجه، ثم المضمضة، فهذا خلاف السنة.
وحكم المضمضة والاستنشاق: أنهما من الوجه، إذن فغسلهما فرض، وفد جاء الأمر بذلك: (إذا توضأ أحدُكم فليستنشقْ بمنخريه من الماءِ ثم لينتثرْ)، (إذا توضأ أحدُكم فليجعلْ في أنفِه ثم لينثُرْ)، وقال للقيط بن صبرة: (أسبغِ الوضوءَ، وخلِّلْ بين الأصابعِ، وبالغْ في الاستنشاقِ إلا أن تكون صائمًا)، وفي رواية: (إذا توضأتَ فمضمض).
فالبداءة –التقديم-، بين ما ذُكر سنة، كان -عليه الصلاة والسلام- يغسل كفيه ثلاثاً، ثم يتمضمض، ويستنشق ثلاثاً، ثم يغسل وجهه، والذين وصفوا وضوءه، قالوا: ثم تمضمضَ واستنشقَ ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، تمضمض واستنشق بغرفة وحدة، ثم يتمضمضُ ويستنشقُ بغرفة، بثلاث غرفات، ثلاثاً بثلاث غرفات.

ومن سنن الوضوء: (تخليلُ اللحيةِ الكثيفةِ، والأصابعِ) جاء أنه -عليه والصلاة والسلام- كان يخلل لحيته، واللحية الكثيفة هي التي لا يُرى من ورائها، لا تُرى البشرة التي تحتها، والخفيفة هي التي يُرى ما ورائها، يعني مثل شعر الشاب، الذي نبتت لحيته حديثًا، فيُرى الجلد من ورائها، لأنها شعرات متفرقة، لكن إذا التمَّ الشعر، والتفَّ: فإنه لا يُرى ما تحت اللحية، فهذه يسمونها كثيفة، فالسنة تخليلها.
وأما إذا كانت خفيفة، بحيث تصف البشرة، فيجب غسل باطنها، يجب غسل باطن اللحية؛ لأن ما تحتها ظاهر.
وكذلك تخليل الأصابع، جاء في حديث لقيط: (أسبغِ الوضوءَ، وخلِّلْ بينَ الأصابعِ)، والذي يظهر أن المقصود من تخليل الأصابع: إسباغ الوضوء، بحث لا يبقى موضع لا يصل إليه الماء، وعندي أن هذا يختلف باختلاف الأقدام، بعض الناس أصابعه مفتوحة، إذا جاء الماء ينزل بدون تخلل، وبعض الناس تكون أصابعه ملتصقة، وأيضاً -أحياناً- إذا كان الماء كثيراً، جارياً، ووضعتَ قدمك تحت الماء، فما يحتاج إلى أن تخلل.
والتخليل مقصوده: التحقق من غسل مابين الأصابع، ولكن مع وفرة الماء لا يحتاج، فالماء سيدخل، لكن إذا كان خفيفاً، تأخذ الماء بكفك، وتصب الماء، فتحتاج إلى تخليل، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتخليل الأصابع، فيكون واجباً إذا الإنسان لم يتحقق من وصول الماء إلى ما بين الأصابع، فيجب التخليل.
ومن سنن الوضوء: (التيامُنُ) التيامن إنما هو في اليدين والرجلين فقط، لا في مسح الرأس، ولا في غسل الوجه، ودليل التيامن ما رواه أبو داوود، وغيره: (إذا توضأتم فابدءوا بميامينكم)، وفي تغسيل الميت، قال -عليه الصلاة والسلام- للآتي يُغسلن ابنته: (ابدأْنَ بمَيَامِنِها، ومواضعَ الوضوءِ منها).

وفي الصحيحين، حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم– :(يعجبه التّيمُّينُ في تنعلهِ –لبسه لنعله- وفي ترجّلهِ)، يعني تسريح الشعر، الذي عنده شعر ينبغي أن يبدأ في اليمين، يمشط الشق الأيمن، وكذلك في حلق النسك، فالرسول أمر الحلاق أن يبدأ باليمين، (وطهوره)، يعني: يعجبه التيمن في طهوره، ففي وضوئه قد بين ذلك -عليه الصلاة والسلام- بفعله، ففي حديث عثمان أنه -صلى الله عليه وسلم- بدأ، وتمضمض، واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يده اليمنى ثلاثاً، ثم اليسرى ثلاثاً، ثم مسح برأسه، فالتيمن من السنن، ولا أعلم أحداً قال بوجوبه.
ومن سنن الوضوء: (أخذُ ماءٍ جديدٍ للأذنينِ) أخذُ ماءٍ جديدٍ للأذنين، هذا فيه خلاف، وفيه نظر، فإن الرواية التي (أنه أخذ لأذنيه ماءً خلاف الماء الذي أخذ لرأسه)، غير محفوظة، بل إن المحفوظ: أنه (مسح برأسه بماءٍ غيرِ فضل يديه). كما قال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام".
والظاهر أن المحفوظ: أنه مسح رأسه بماء، غير فضل يديه، مسح رأسه بماء آخر، يعني أخذ ماءً جديداً لمسح الرأس.
ومن سنن الوضوء: (الغسلةُ الثانيةُ والثالثةُ)، الواجب والفرض: غسل الأعضاء التي أمر الله بغسلها: مرة، وأما الزيادة فسنة.
وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه توضأ مرة مرة، وتوضأ مرتين مرتين، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، إذن الفرض هو القدر المجزئ، وهو غسل الأعضاء مرة مرة، هذا في الوجه، واليدين، والرجلين، وأما الرأس: فأكثر الروايات ليس فيها إلا إطلاق المسح، كما في حديث عثمان، أو التصريح بواحدة، (ومسح برأسه، واحدةً)، كما في حديث علي، وابن عباس
وفي حديث عبد الله بن زيد -وكلها أحاديث في صفة الوضوء- في صفة وضوئه -صلى الله عليه وسلم-: (ومسح –صلى الله عليه وسلم- برأسه، فأقبل بيديه، وأدبر)، وفي لفظ: (بدأ بمقدّمِ رأسهِ، حتى ذهبَ بهما إلى قفاه، ثمّ ردّهما إلى المكانِ الذي بدأ منه)، فهذه هي السنة، وهكذا الغسلة الثانية والثالثة، أما الفرض فهو غسلة واحدة، لكن غسلة تعم، يعني مع الإسباغ.
 
بابُ فروضِ الوضوءِ وصفتهِ.
فروضُهُ ستةٌ: غسلُ الوجهِ -والفمُ والأنفُ منهُ-، وغسلُ اليدينِ، ومسحُ الرأسِ -ومنهُ الأذنانِ-، وغسلُ الرجلينِ، والتّرتيبُ، والموالاةُ، وهي: أن لا يُؤخِّرَ غسلَ عضوٍ حتى يَنشفَ الذي قبلَهُ

فروض الوضوء: فروضه هي أركانه، وركن الشيء: جزء ماهيته، فالوضوء يتكون من أربعة أشياء: غسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، كما أمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}(المائدة:6).
فهذه فروض الوضوء، هي الأمور الأربع التي أمر الله بها في كتابه، وسمَّى في الكتاب: واجب الوضوء، وهو التسمية، وسننه تقدمت، وفروضه هذه.
وهذا يتضمن التفريق بين الفرض والواجب، وهذه مسألة أصولية، هل الفرض والواجب معناهما واحد؟، فكل واجب فرض، وكل فرض واجب: فيه خلاف بين الأصوليين، وظاهر المذهب: الفرق، فالفرض هو الواجب المؤكد، ويقولون: هو ما ثبت وجوبه بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني.
ولا شك أن كلمة "فرض"  أدل على الآكدية، (هذا فرض)، ولكن الأمر في هذا سهل، فعلى مذهب من يفرِّق، يقول: كل فرض واجب، وليس كل واجب فرض، أما من لم يفرِّق، عنده –مثلا- الصلاة، أركانها، وواجباتها كلها واجبة.
فالأول من فروض الوضوء: (غسلُ الوجه)، ودليله قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}(المائدة:٦). ودليل فرضيته: الكتاب، والسنة، والإجماع.
قال: (والفمُ والأنفُ منهُ)، يعني الفم من الوجه، والأنف من الوجه، إذًا؛ فغسل الفم بالمضمضة، وغسل الأنف بالاستنشاق، داخلٌ في فرض الوجه.
ومَن غسل وجهه، ولم يتمضمض، ولم يستنشق، هو في الحقيقة قد غسل وجهه، ولو قيل -على مذهب من يفرِّق بين الفرض والواجب- بوجوبهما، وأن من واجبات الوضوء: المضمضة والاستنشاق، لكان له وجه أنهما واجبان، يعني المضمضة والاستنشاق ليس حكمهما بدرجة غسل الوجه، لكن ثبت الأمر بهما؛ ولهذا جاء في المضمضة دليل خاص: (مَن توضّأ فليجعلْ في أنفهِ ماءً، ثم ليستنثرْ)، وقال: (إذا توضأتَ فمضمضْ).
وحدُّ الوجه: من منابت شعر الرأس، على ما انحدر من اللحيين والذقن، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، وهذا أمر معروف بالمشاهد، وبالحس، وبالعرف، هذه حدود الوجه.

الفرض الثاني: غسل اليدين إلى المرفقين، لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}(المائدة:٦).
وثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يغسل يديه حتى يشرع في العضد، يعني فالمرفقان داخلان في المغسول، إلى المرافق فما بعد، ولهذا يتأوّل بعض أهل العلم، قوله: "إلى" بمعنى: "مع"، وأيديكم مع المرافق، فالغاية داخلة، وليست كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}(البقرة:١٨٧).
فالليل خارج عن وقت الصيام، وقد دلت السنة على هذا، على غسل المرافق، ودخولهما في المغسول، فالسنة تفسِّر القرآن، وهنا ملاحظة، وهي: أن بعض الناس يشتبه عليه، إذا غسل يديه، بحكم إذا غسل كفيه، لا يغسل يديه، فاليدين يجب غسلهما من طرف الأصابع، إلى المرفق، فإذا أخذت الماء، تمر يديك -إذا غسلت- تحت الصباب،  فتصب على كل يديك، من طرف الأصابع إلى المرفق.

الفرض الثالث: مسح الرأس، وقد جاء في القرآن مطلق المسح: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}(المائدة:6).
فما هو القدر المجزئ من مسح الرأس؟ ولهذا اختلف العلماء، فمنهم من يقول: الربع، ولا يوجد دليل على هذا التقدير، يمكن عندهم تعليل، لكنه عليل، وبعضهم يقول: يكفي أصبع، أو أصبعين، وقال آخرون: بل يمسح كل رأسه، أو معظم رأسه، بدليل السنة، والرسول صلى الله عليه وسلم وضح كيف يكون مسح الرأس، ففعله بيان، لقوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}.
إذًا: عليك أن تمسح، كما مسح الرسول -صلى الله عليه وسلم- فتمسح رأسك، من مقدمه، إلى قفاه، مرة واحدة، لا تمسحه مرات ، وقد جاء في رواية، في حديث عثمان، لكنها معدودة في الشاذ: ومسح رأسه، أو برأسه ثلاثاً .
والباء –هنا- في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} بعضهم يقول: إنها للتبعيض، لكن الصواب أنها للإلصاق، أو للدلالة على ممسوح به، ففرَّق، ولم يقل: وامسحوا رءوسكم، بل –برءوسكم-، وهذه الباء تشعر بشيء ممسوح به، إذن فيها معنى: امسحوا رءوسكم بالماء.
قال المصنف: (ومنهُ الأذنانِ)، أي من الرأس، وقد جاءت روايات أنه -صلى الله عليه وسلم- (مسح برأسه وأذنيه، ظاهرهما وباطنهما)، و(مسح برأسه وأذنيه باطنِهِما بالسبَّاحتين، وظاهرِهِما بإبهامَيْه)، وأيضاً جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (الأذنان مِن الرأسِ)، فتُمسحان ضمن الرأس، ولا يؤخذ لهما -كما تقدم- ماء جديد، بل يُمسح الرأسُ، ويُمرُّ على الأذنين، ومسحهما من تمام مسح الرأس، والمسح من شأنه التخفيف، يعني لو أن الإنسان نسي مسح أذنيه، أرجو أن لا يعيد الصلاة، لترك الأذنين.
الفرض الرابع: غسل الرجلين، لقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}(المائدة:6)، عطف على "وجوهكم"، "وامسحوا برؤوسكم"، قال: "وأرجلَكم"، بفتح اللام، على القراءة المشهورة، قراءة حفص، وآخرين، يعني: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، والكعبان: هما العظمان الناتئان، معروف في أسفل الساق، عند المفصل، مفصل القدم من الساق، وفي كل رجل كعبان، ولهذا قال –سبحانه-: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.
وفي كل يد مرفق، فقال –سبحانه-: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}، فجمعها؛ لأنه بدهي، يعني مرافق  كل يد فيها مرفق واحد، ولكن في الرجلين، قال: { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، يعني كل رجل يجب غسلها إلى الكعبين.
والقول -في قوله إلى الكعبين- كالقول في قوله: إلى المرفقين، يعني أن الكعبين داخلان في الفرض، داخلان في الغسل، ودلت على ذلك السنة، فكان -عليه الصلاة والسلام- يغسل رجليه إلى الكعبين.
وذهبت الرافضة البُعداء إلى مذهبٍ غريب، وهو أنه لا يجب غسل الرجلين، بل الفرض مسحهما، وإلى الكعبين، ويقولون: الكعب هنا العظم الناتئ، في أعلى القدم، هذا الذي عند المفصل، في القدم، فالكعبان في أسفل الساق، عند مفصل القدم، والكعب -الذي تقوله الرافضة أن المسح إليه- هو في القدم، جزء من القدم، يعني العظم الناتئ في القدم.
وفي قراءة "وأرجلِكم" قراءة سبعية، وكانت هذه من شبهاتهم، على أن الفرض: المسح، ولكن تردُّ ذلك السنة، فكل من وصف وضوءه -صلى الله عليه وسلم- يذكر أنه يغسل رجليه، وهذه القراءة "وأرجلِكم" بعضهم يقول إن الجر فيها: نوع من الإتباع، أو قد يكون للمجاورة.
ومن أحسن ما قيل: حمل قراءة الجر، على حكم المسح على الخفين، وقراءة النصب، على حكم غسل الرجلين، القدمين المكشوفتين، فإذا كان القدمان مستورين بخفين: كان الواجب المسح، وإذا كانا مكشوفين: كان الواجب والفرض هو الغسل إلى الكعبين.
هذه فروض الوضوء المجمع عليها، أربعة: غسل الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، وهناك فرضان آخران مختلف فيهما، وهما: الترتيب، والموالاة، والمذهب أنهما فرضان كما ذكر المصنف
قال المصنف: (والتّرتيبُ) والترتيب: أن يغسل هذه الأعضاء على ترتيبها في القرآن، وترتيبها في السنة، بأن يبدأ بالوجه، ثم اليدين، ثم مسح الرأس، ثم غسل الرجلين.
ومن أدلة وجوب الترتيب: قراءته -عليه الصلاة والسلام- عندما أراد أن يرقا الصفا، قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}(البقرة:١٥٨) وقال: (أبدأُ بما بدأ اللهُ به)، وفي رواية عند النسائي، قال: (ابدءوا بما بدأ الله به)، والله بدأ في أعضاء الوضوء، بالوجه، وثنَّى باليدين، وثلَّث بمسح الرأس، وربَّع بالرجلين.
واستدلوا -أيضاً- بأن الآية فيها إدخال الممسوح بين مغسولين{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}(المائدة:٦).
مما يؤكد أن الفرض وجوب الترتيب، ولو لم يكن الترتيب واجباً، لعطف الرجلين على اليدين، على التوالي، فلما أدخل ممسوحاً بين مغسولين، دل على اعتبار الترتيب.
ومنهم من يقول: إنه يسقط بالنسيان، ومنهم من يقول: لا يسقط على كل حال، وعندي: أن الأظهر يسقط بالنسيان؛ لأن من غسل أعضاء وضوئه كلها، ونسي، وقدم بعضها على بعض، نسياناً، لا عمداً، فإن وضوءه يكون صحيحاً، وإذا احتاط الإنسان، لو نسي، ومسح رأسه قبل يديه، فمن السهل أن يغسل يديه، ثم يمسح رأسه.

والفرض الثاني المختلف فيه: الموالاة، وهو أن يغسل أعضاء الوضوء هذه، متوالياً، بحيث لا يفصل، مثل ما يوالي بين ركعات الصلاة، كذلك يوالي بين أعضاء الوضوء، ولا يفصل بعضها عن بعض، فلا يغسل وجهه، ثم يذهب يجلس، ويعمل عملاً ما، أو يذهب يكلم إنساناً بعض الوقت، ثم يرجع ويغسل يديه، هذا يخرج العبادة عن هيأتها، وصفتها.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ، توضأ متوالياً، هذا هديه -عليه الصلاة والسلام- لكن هذا يحتاج إلى ضابط، وبمَ يكون التفريق؟، ضبطه الحنابلة بهذا، بأن لا يؤخر غسل عضوٍ، حتى ينشف الذي قبله، في الوقت المعتدل، فإذا كان قد غسل وجهه، ثم تشاغل، بتحدث، أو أي شيء، ثم نشف، يقولون: انقطعت الموالاة، فيجب عليه أن يعيد غسل الوجه، فضبطوه بهذا.
وهذا فيه بعض الإشكال، وهو أنه في وقت الصيف يجف بسرعة، وفي وقت الشتاء يتأخر الجفاف، فلهذا قالوا في الوقت المتوسط، المعتدل.
وضبطها بعضهم -ضبط الموالاة- بأن لا يفصل بين أعضاء الوضوء، بزمن طويل، عرفاً، فإن فصل بزمن طويل عرفاً، وجب عليه أن يعيد، كأن يغسل وجهه، ثم ينشغل بعمل، أو يتحدث مع إنسان، يمكن نقول -عرفاً- كأنه طويل مثلاً، وكل شيء بحسبه، لكن لو كان التوقف عن الموالاة، لسبب قهري، اضطراري: عُفي عن ذلك، مثل: إنسان يتوضأ، وانقطع عنه الماء، فذهب يشغل الدينمو، ولا يطلب أحد يسعفه بماء، فجف وجهه، وطال الزمن بعض الشيء، يكون هذا ترك الموالاة هنا لعذر، فَيُعفى عن ذلك، فلا تبطل الموالاة بذلك.
أما الفروض الأربعة، فقد دل عليها النص، -نص القرآن-، وأما الترتيب، والموالاة، فأُخذت من هيئة فعله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يتوضأ: مُرتباً، ويتوضأ: متوالياً.
واستدلوا على وجوب الموالاة: بقصة الرجل الذي رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي قدمه لمعة –بقعة لم يصبها الماء- قدر درهم، فأمره أن يعيد الوضوء، والصلاة، والحديث فيه كلام للمحدثين، ولكن عند مسلم، من حديث عمر، أنَّ رجلًا توضأ، فترك موضعَ ظفرِ على قدمِهِ، فأبصرهُ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال: (ارجِعْ فأحسنْ وضوءَكَ) فرجع ثم صلُّى. هذا محتمل أنه "أحسن وضوءك": بغسل اللمعة، أو بإعادته، هذا أيضًا مما استدلوا به على وجوب الموالاة.