بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الجواب الصَّحيح لِمَن بدّل دين المسيح) لابن تيمية
الدّرس: الثَّاني والثّلاثون بعد المئة
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعينَ، أمَّا بعدُ؛ فيقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ: "الجوابِ الصَّحيحِ لِمَن بدَّلَ دينَ المسيحِ"
– الشيخ: في تتمَّة كلام الحسنِ؟
– القارئ: إي نعم، لا زال
– الشيخ: يعني أريد أن تقول ذلك
– القارئ: إي نعم
يقولُ رحمَه ُاللهُ تعالى: قَالَ: وَمِمَّا يُعْجَبُ مِنْهُ أَنَّكُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ الِابْنَ الْأَزَلِيَّ
– الشيخ: هو الحسنُ هذا ترجمُوه المحقِّقون في أوَّل النَّقل عنه؟
– القارئ: أنا عندي ما في ترجمة
– الشيخ: ما ذكروا له ترجمةً؟
– القارئ: أنا ما عندي ترجمة
– الشيخ: والإخوان في النُّسخ الأخرى فيه [يوجد] شيءٌ؟
– طالب: "يقصدُ الحسن بن أيوب هنا" أحسنَ اللهُ إليكم
– الشيخ: إي هو اسمُه الحسنُ بنُ أيوب، بس أبي [أريد] ترجمة، تعريف أنَّه كذا كذا
– طالب: فقط … لم يذكرْه من المتقدِّمين إلَّا ابنُ النَّديم صاحبُ الفهرستِ، ويظهرُ من كلامه ونقول ابن حزم أنَّه كانَ نسطوريًّا.
– الشيخ: باختصار
– القارئ: قَالَ: وَمِمَّا يُعْجَبُ مِنْهُ أَنَّكُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ الِابْنَ الْأَزَلِيَّ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ فَصَارَا بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُفَارِقْهُ قَطُّ مُنْذُ اتَّحَدَ بِهِ، وَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أَقَامَ مَوْلُودًا وَتَغَذَّى بِاللَّبَنِ، وَمَرْبُوبًا صَبِيًّا مُغَذًّى بِالْأَغْذِيَةِ إِلَى أَنْ بَلَغَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يَظْهَرُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ آلَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا أَمْرٌ يُوجِبُ هَذَا الْمَحَلَّ، وَلَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُظَرَائِهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فَرْقٌ، وَلَا سَطَعَ مِنْهُ نُورٌ، وَلَا ظَهَرَتْ لَهُ سَكِينَةٌ، وَلَا حَفَّتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّهْلِيلِ، وَلَا أَلَمَّ بِهِ الشَّعَثُ بَعْدَ ذَلِكَ فَوْقَ مَا كَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، فَقَدْ كَلَّمَ اللَّهُ تعالى مُوسَى -عليهِ السَّلامُ- مِنَ الْعَوْسَجَةِ كَيْفَ شَاءَ فَأَشْرَقَ مَا حَوْلَهَا نُورًا، وَكَلَّمَهُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ فَاضْطَرَبَتْ فِي الْجَبَلِ النِّيرَانُ، وَالْتَبَسَ وَجْهَهُ النُّورُ السَّاطِعُ حَتَّى كَانَ يَتَبَرْقَعُ إِذَا جَلَسَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا قَرُبَ مِنْهُ فَقَالَ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ [الأعراف:143] مِنْ صَعْقَتِهِ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ، وَتَجَلَّى مَجْدُ اللَّهِ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَرَأَوْا حَوْلَ مَجْدِهِ رَبْوَاتِ الْمَلَائِكَةِ.
وَقَالَ دَاوُدَ: "يَا رَبِّ إِنَّكَ حَيْثُ عَبَرْتَ بِبِلَادِ سِنِينَ تَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ مِنْكَ وَانْفَطَرَتْ مِنْ هَيْبَتِكَ". وَقَالَ أَيْضًا كَالْمُخَاطِبِ لِلْبَحْرِ وَالْجِبَالِ وَالْمُتَعَجِّبِ مِنْهَا: "مَا لَكَ أَيُّهَا الْبَحْرُ هَارِبًا؟! وَأَنْتَ يَا نَهْرَ الْأُرْدُنِّ لِمَ وَلَّيْتَ رَاجِعًا؟! وَمَا لَكِ أَيَّتُهَا الْجِبَالُ تَنْفِرِينَ كَالْأَبَابِيلِ؟! وَمَا لَكُنَّ أَيَّتُهَا الشَّوَامِخُ وَالْهَضَبَاتُ تَنْزُو نَزْوَ الشِّيَاءِ؟!". ثُمَّ قَالَ كَالْمُجِيبِ عَنْهُمْ: "مِنْ قُدَّامِ الرَّبِّ تَزَلْزَلَتِ الْبِقَاعُ".
قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ الْأَزَلِيُّ الْخَالِقُ أَوْ كَانَ مُتَّحِدًا بِهِ، فَكَيْفَ لَمْ تَرْجُفْ بَيْنَ يَدَيْهِ الْجِبَالُ وَلَمْ تَتَصَرَّفْ عَنْ مَشِيئَتِهِ الْأَنْهَارُ وَالْبِحَارُ؟ أَوْ كَيْفَ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ آيَاتٌ بَاهِرَاتٌ أَجَلُّ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ مِثْلَ الْمَشْيِ عَلَى مُتُونِ الْهَوَاءِ، وَالِاضْطِجَاعِ عَلَى أَكْتَافِ الرِّيَاحِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَإِحْرَاقِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ، كَمَا أَحْرَقَ إِيلِيَا مَنْ قَرُبَ مِنْهُ مِنْ جُنْدِ أُحَابَ الْمَلِكِ، وَيَمْنَعُ الْآدَمِيِّينَ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَا فَعَلُوا عَلَى زَعْمِكُمْ بِجِسْمِهِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ خَالِقُهُمْ أَوْ أَنَّهُ هَيْكَلُ الْخَالِقِ؟
قَالَ: وَوَجَدْنَاكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ الِابْنَ إِنَّمَا يُسَمَّى ابْنُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ، لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنَ الْأَبِ وَظَهَرَ مِنْهُ، فَلَمْ نَقِفْ عَلَى مَعْنَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَرِيعَةَ إِيمَانِكُمْ تَقُولُ: إِنَّ الرُّوحَ أَيْضًا تَخْرُجُ مِنَ الْأَبِ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ فَالرُّوحُ أَيْضًا ابْنٌ؛ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟
قَالَ: وَلَمْ نَفْهَمْ أَيْضًا قَوْلَكُمْ: إِنَّ الِابْنَ تَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَأَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ سَاقَهُ إِلَى الْبَرِّ لِيَمْتَحِنَهُ الشَّيْطَانُ، فَمَا كَانَتْ حَاجَةُ الِابْنِ إِلَى أَنْ تَكُونَ الرُّوحُ وَهِيَ فِي قَوْلِكُمْ مِثْلُهُ تُدَبِّرُهُ وَتُغَيِّرُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، أَوَمَا عِلْتُمْ أَنَّ الْغَيْرَ السَّابِقَ الْمُدَبِّرَ فَاعِلٌ [كأنَّها: "أَوَمَا علمْتُم" يا شيخ؟]
– طالب: "أَوَمَا عَلِمْتُمْ "
– الشيخ: "أَوَمَا عَلِمْتُمْ "؟
– القارئ: نعم
أَوَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْغَيْرَ السَّابِقَ الْمُدَبِّرَ فَاعِلٌ، وَالْمَسْبُوقَ الْمُدَبَّرَ مَفْعُولٌ بِهِ، فَالِابْنُ إِذَنْ دُونَ الرُّوحِ وَلَيْسَ مِثْلَهُ، لِأَنَّ الْأَزَلِيَّ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْأَزَلِيِّ وَهُوَ مِثْلُهُ.
قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْمَسِيحُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ الْمَلَكُ لِأُمِّهِ مَرْيَمَ، فَلِمَ سَمَّيْتُمُوهُ كَلِمَةَ اللَّهِ وَابْنَهُ، وَلَمْ تُسَمُّوهُ رُوحَهُ، فَإِنَّمَا قَالَ لَهَا الْمَلَكُ: إِنَّ الَّذِي تَلِدِينَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ. وَالرُّوحُ غَيْرُ الِابْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَمَا قَالَتِ الشَّرِيعَةُ إِنَّهُ تَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ سَاقَهُ إِلَى الْبَرِّ، وَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ عَلَيْهِ، وَلِمَ تُثَلِّثُونَ بِهِ فِي إِيمَانِكُمْ فَتَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ؟
عندي -أحسنَ اللهُ إليك: "وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" كذا؟
– الشيخ: لا، وَرُوح، وَرُوح.
– القارئ: قَالَ: وَوَجَدْنَاكُمْ تَقُولُونَ أَيَّتُهَا النَّسْطُورِيَّةُ: إِنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَحِكْمَةً هُمَا الِابْنُ، وَحَيَاةً هِيَ الرُّوحُ قَدِيمَيْنِ، وَلِعِلْمِهِ وَحَيَاتِهِ ذَاتٌ كَذَاتِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَهُ عِلْمٌ وَحَيَاةٌ، وَلِحَيَاتِهِ الَّتِي هِيَ رُوحُهُ عِلْمٌ وَحَيَاةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ الْأَبَ لَمَّا رَأَى اسْتِيلَاءَ الْعَدُوِّ عَلَى خَلْقِهِ وَنُكُولِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مُنَاوَأَتِهِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنَهُ الْفَرْدَ وَحَبِيبَهُ وَجَعَلَهُ فِدَاءً وَوَفَاءً لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَأَنَّ ابْنَهُ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَصَارَ إِنْسَانًا، ثُمَّ وُلِدَ وَنَشَأَ وَعَاشَ ثَلَاثِينَ سَنَةً يَتَقَلَّبُ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، يُصَلِّي فِي كَنَائِسِهِمْ، وَيَسْتَنُّ بِسُنَنِهِمْ، لَا يَدَّعِي دِينًا غَيْرَ دِينِهِمْ، وَلَا يَنْتَحِلُ رِسَالَةً وَلَا نُبُوَّةً وَلَا بُنُوَّةً حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ أَظْهَرَ الدَّعْوَةَ وَجَاءَ بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْمَشْهُورَةِ، فَأَنْكَرَتْهُ الْيَهُودُ وَقَتَلَتْهُ وَصَلَبَتْهُ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ.
– الشيخ: يعني بزعمِكم، وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [النساء:157]، ولكنْ هذا تزعمُ النَّصارى ويزعمُ اليهودُ، فأكذبَهم اللهُ، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا [النساء:157]، هذا حكايةٌ لقولِ اليهودِ، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ.. ابْنَ مَرْيَمَ.. وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].
– القارئ: وَصَدَّقْتُمْ بِشَرِيعَةِ الْإِيمَانِ وَكَفَّرْتُمْ مَنْ خَالَفَهَا، ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا أَنْ خَلَعْتُمُوهَا وَانْسَلَخْتُمْ مِنْهَا وَقُلْتُمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ جَوْهَرَانِ وَأُقْنُومَانِ، جَوْهَرٌ قَدِيمٌ وَجَوْهَرٌ حَدِيثٌ، وَلِكُلِّ جَوْهَرٍ أُقْنُومٌ عَلَى حِيَالِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ تعالى جَوْهَرٌ قَدِيمٌ يَقُومُ بِمَعْنَيَيْنِ، فَهُوَ وَاحِدٌ يَقُومُ بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، وَثَلَاثَةٌ لَهَا مَعْنًى وَاحِدٌ، كَالشَّمْسِ الَّتِي هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: الْقُرْصُ وَالْحَرُّ وَالنُّورُ. فَالْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ يُعْبَدُ.
فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِكُمْ هَذَا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَوْلُودٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ مَفْعُولًا بِهِ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ مُرْسَلٌ لَكِنَّكُمْ تَسْتَحْيُونَ أَنْ تُسَمُّوهُ رَسُولًا، إِذْ كُنْتُمْ لَا تُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَأَقْبَلْتُمْ عَلَى الْمَلِكَانِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ بِالتَّكْفِيرِ وَاللَّعْنِ لِقَوْلِهِمْ: "إِنَّ اللَّهَ وَالْمَسِيحَ شَيْءٌ وَاحِدٌ" ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا أَنْ قَدَّمْتُمُ الْمَسِيحَ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَدَأْتُمْ بِهِ فِي التَّمْجِيدِ، وَرَفَعْتُمْ إِلَيْهِ تَهَالِيلَكُمْ وَرَغَائِبَكُمْ فِي أَوْقَاتِ الْقَرَابِينِ خَاصَّةً، وَهِيَ أَجَلُّ صَلَوَاتِكُمْ وَأَفْضَلُ مَحَافِلِكُمْ عِنْدَكُمْ، فَإِنَّهُ يَقُومُ الْإِمَامُ مِنْكُمْ عَلَى الْمَذْبَحِ مِنْ مَذَابِحِكُمْ وَأَهْلُهُ مَرْعُوبُونَ فَتَتَوَقَّعُونَ نُزُولَ رُوحِ الْقُدُسِ، بِزَعْمِكُمْ مِنَ السَّمَاءِ بِدُعَائِهِ، فَيَفْتَحُ دُعَاءَهُ وَيَقُولُ: "لِيَتِمَّ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ نِعْمَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ الْأَبِ، وَمُشَارَكَةَ رُوحُ الْقُدُسِ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ". ثُمَّ يَخْتِمُ صَلَاتَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالشِّرْكِ، وَتَصْغِيرٌ لِعَظَمَةِ اللَّهِ تعالى وَعِزَّتِهِ أَنْ جَعَلْتُمُ النِّعَمَ وَالْمَوَاهِبَ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَهُوَ مُعْطًى وَمُخَوَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى قَوْلِكُمْ، وَجَعَلْتُمْ لِلَّهِ بَعْدَ الْمَسِيحِ مَحَبَّةً وَلِرُوحِهِ مُشَارَكَةً.
قَالَ: وَوَجَدْنَاكُمْ قَدْ عِبْتُمْ عَلَى الْيَعْقُوبِيَّةِ قَوْلَهُمْ: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتِ اللَّهَ، عَزَّ اللَّهُ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ، وَفِي شَرِيعَةِ الْإِيمَانِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهَا أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ حَقٌّ، وَأَنَّهُ وُلِدَ مِنْ مَرْيَمَ، فَمَا مَعْنَى الْمُنَافَرَةِ، وَمَا الْفَرْقُ؟ وَمَا تُنْكِرُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَقْتُولَ الْمَصْلُوبَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ اللَّهُ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ؟
وَشَرِيعَةُ إِيمَانِكُمْ تَقُولُ: نُؤْمِنُ بِالرَّبِّ الْمَسِيحِ الَّذِي مِنْ خَبَرِهِ وَحَالِهِ الَّذِي وُلِدَ مِنْ مَرْيَمَ وَتَأَلَّمَ وَصُلِبَ عَلَى عَهْدِ الْمَلِكِ "بِيلَاطِيسَ" النَّبَطِيِّ
يقولُ في الحاشية: الصَّوابُ: البنطيُّ كما سيأتي بيانُه
عَلَى عَهْدِ الْمَلِكِ "بِيلَاطِيسَ" البنطيِّ وَدُفِنَ وَقَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، أَلَيْسَ هَذَا إِقْرَارًا بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ؟ فَتَدَبَّرُوا هَذَا الْقَوْلَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.
فَإِنَّكُمْ إِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَقْتُولَ الْمَصْلُوبَ هُوَ اللَّهُ، فَإِنَّ مَرْيَمَ عِنْدَكُمْ وَلَدَتِ اللَّهَ.
وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهُ إِنْسَانٌ فَإِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْ إِنْسَانًا، وَبَطَلَتِ الشَّرِيعَةُ، فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ اخْتَرْتُمُوهُ فَفِيهِ نَقْضُ دِينِكُمْ، ثُمَّ عِبْتُمْ عَلَى الْمَلِكَانِيَّةِ قَوْلَهُمْ: "إِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَسِيحِ إِلَّا أُقْنُومًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ صَارَ مَعَ الْأَزَلِيِّ الْخَالِقِ شَيْئًا وَاحِدًا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا"
– الشيخ: كأنَّه يخاطبُ جماعته الي تقدَّم النُّسطوريَّة، يعني هو من النُّسطوريَّة وهو يخاطبُ طائفتَه.
– القارئ: ثُمَّ عِبْتُمْ عَلَى الْمَلِكَانِيَّةِ قَوْلَهُمْ: "إِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَسِيحِ إِلَّا أُقْنُومًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ صَارَ مَعَ الْأَزَلِيِّ الْخَالِقِ شَيْئًا وَاحِدًا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا"، وَقُلْتُمْ بِأَنَّ لَهُ أُقْنُومَيْنِ، لِكُلِّ جَوْهَرٍ أُقْنُومٌ عَلَى حِيَالِهِ، ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا أَنْ رَجَعْتُمْ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ فَقُلْتُمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ مَرْيَمَ مَبْعُوثًا، فَإِنَّهُ هَيْكَلٌ لِابْنِ اللَّهِ الْأَزَلِيِّ، وَنَحْنُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَكُمْ عَلَى هَذَا فَمَا تَنْقِمُونَ عَلَى الْمَلَكِيَّةِ، وَمَا مَعْنَى الِافْتِرَاقِ؟ وَقَدْ رَجَعْتُمْ فِي الِاتِّحَادِ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ؟ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ تَحَارُ فِيهِ الْأَفْهَامُ.
يقصدُ الملكانيَّةَ أحسنَ اللهُ إليكَ؟ "تَنْقِمُونَ عَلَى الْمَلَكِيَّةِ"
– الشيخ: أيش فيه؟
– القارئ: يقصدُ الملكانيَّة؟ عندي هنا: "الملكيَّة"
– الشيخ: الملكانيَّةُ أوضحُ، الملكيَّةُ تصبحُ نسبةً إلى الملَكِ، كأنَّها الملكانيَّة
– القارئ: فَإِنْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ بِمَعْنَى الْأَمَانَةِ عِنْدَكُمْ حَقًّا، فَالْقَوْلُ مَا قَالَ يَعْقُوبُ، وَذَلِكَ أَنَّا إِذَا ابْتَدَأْنَا مِنَ الشَّرِيعَةِ فِي ذِكْرِ الْمَسِيحِ، ثُمَّ نَسَّقْنَا الْمَعَانِيَ نَسَقًا وَاحِدًا وَانْحَدَرْنَا فِيهَا إِلَى آخِرِهَا، وَجَدْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ أَلْقَوْهَا لَكُمْ قَدْ صَحَّحُوا أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَهُوَ بِكْرُ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا، وَهُوَ الَّذِي وُلِدَ مِنْ مَرْيَمَ لَيْسَ بِمَصْنُوعٍ، وَهُوَ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ مِنْ جَوْهَرِ أَبِيهِ، وَهُوَ الَّذِي أَتْقَنَ الْعَوَالِمَ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى يَدِهِ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ لِخَلَاصِكُمْ، فَتَجَسَّدَ وَحَمَلَتْهُ مَرْيَمُ وَوَلَدَتْهُ، وَقُتِلَ وَصُلِبَ، فَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَ الْيَعْقُوبِيَّةِ لَزِمَهُ أَنْ يُنْكِرَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الَّتِي تَشْهَدُ بِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ وَيَلْعَنُ مَنْ أَلَّفَهَا.
– الشيخ: كأنَّه يشيرُ إلى "الأمانةِ" الَّتي أبرمُوها على يدِ الملكِ قسطنطين الَّذي في مؤتمرٍ كبيرٍ، تقدَّمَت الإشارةُ إليه، اسمُها: "الأمانةُ"، سمَّوها: "الأمانة" وتضمَّنَت أصولَ الدِّيانةِ، أصولُ دينِهم من تأليهِ المسيحِ وقولهم بالاتِّحاد وأنَّ المسيحَ إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ، فدينُ النَّصارى قائمٌ على الشِّركِ الصَّريحِ.
– القارئ: قَالَ: وَإِنَّمَا أَخَذَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ يَعْنِي الَّذِينَ وَضَعُوا الْأَمَانَةَ بِكَلِمَاتٍ وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ وَجَدُوهَا فِي الْإِنْجِيلِ مُشْكَلَاتٍ تَأَوَّلَتْ فِيهَا مَا وَقَعَ بِهَوَاهَا، وَتَرَكَتْ مَا فِي الْإِنْجِيلِ مِنَ الْكَلَامِ الْبَيِّنِ الْوَاضِحِ الَّذِي يَشْهَدُ بِعُبُودِيَّةِ الْمَسِيحِ وَشَهَادَتُهُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَشَهَادَةُ تَلَامِيذِهِ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِالْمُشْكَلِ الْيَسِيرِ، وَجَعَلَتْ لَهُ مَا أَحَبَّتْ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَأَلْغَتِ الْوَاضِحَ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ.
قَالَ: فَأَمَّا احْتِجَاجُكُمْ بِالشَّمْسِ، وَأَنَّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ
– الشيخ: إلى آخر شيءٍ، جزاكَ اللهُ خيرًا.. اللهُ المستعانُ، كأنَّ الشَّيخ مستحسِنٌ لكلام ذلك النَّصرانيِّ الَّذي أسلمَ، ولهذا أقولُ: نقلَ منه هذا النَّقلَ الطَّويلَ؛ لما يرى فيه من الحججِ على النَّصارى، ولا شكَّ أنَّ الرَّدَّ على الطَّائفة ردُّ بعضِ أبنائِها عليها أبلغُ في دحضِ حججِهم، إذا ردَّ عليهم واحدٌ منهم كانَ هذا أقوى في دحرِهم ودحرِ حججهم، هذا واحدٌ منهم كان يدينُ بدينهم.