الرئيسية/شروحات الكتب/كتاب زاد المستقنع/كتاب الصلاة من زاد المستقنع/(39) “فصل” قوله ويعذر بترك جمعة وجماعة مريض، ومدافع أحد الأخبثين

(39) “فصل” قوله ويعذر بترك جمعة وجماعة مريض، ومدافع أحد الأخبثين

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
– شرح كتاب "زاد المستقنع في اختصار المقنع"
– (كتاب الصّلاة)
– الدّرس: التّاسع والثّلاثون

***    ***    ***    ***
 
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمَّا بعد؛ قال المصنِّفُ رحمهُ اللهُ:
(فصلٌ في الأعذارِ المسقطةِ للجمعةِ والجماعة)

– الشيخ: تقدَّمَ ذكرُ حكمِ صلاةِ الجماعةِ، وسيأتي حكمُ صلاةِ الجمعةِ، أمَّا صلاةُ الجماعةِ فتقدَّمَ أنَّ الصحيحَ أنَّها واجبةٌ على الأعيانِ المكلفينَ على الصحيحِ، وأمَّا الجمعةُ فهي واجبةٌ بدليلِ الكتابِ والسنّةِ والإجماعِ.
والآن المصنِّفُ يريدُ أن يذكرَ الأسبابَ المسقطةَ لوجوبِ الجماعةِ والجمعةِ، والأسبابُ نُسمّيها أعذارًا، الأعذارُ المبيحةُ لتركِ الجمعةِ والجماعةِ، وما من واجبٍ إلّا وله من الأسبابِ ما يسقطُ وجوبَهُ، والعذرُ العامُّ: عدمُ الاستطاعةِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، (ما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم)، فعدمُ الاستطاعةِ عذرٌ في جميعِ الواجبات، فلا واجبَ مع العجزِ.
 
– القارئ: (ويُعذرُ بتركِ، جمعةٍ وجماعةٍ: مريضٌ)
– الشيخ:  المرضُ عذرٌ لإسقاطِ كثيرٍ من العباداتِ، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر [البقرة:184]، وقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196]. هكذا المرضُ عذرٌ لإسقاطِ ما يجبُ في الصلاةِ، وقولُ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لحصين: (صلِّ قائمًا، فإن لم تستطعْ فقاعدًا، فإن لم تستطعْ فلى جنبٍ)، وكذلك الجماعةُ وحضورُها. والمريضُ هو الذي يشقُّ عليه حضورُ الجمعةِ والجماعةِ، ويحصلُ عليه حرجٌ لو حضرَ، ولكن ليس مطلقُ المرضِ يسقطُ الوجوبَ، بل المرضُ الذي يرافقُه مشقّةٌ غيرُ عاديةٍ.
 
– القارئ: (ومدافِعٌ أحدَ الأخبثين)
– الشيخ:
" الأخبثان": البولُ والغائطُ، فهو يريدُ حبسَهما وهما يُدافعانِه، وفي الحديثِ: (لا صلاةَ بحضرةِ طعامٍ، ولا وهو يدافعُهُ الأخبثانِ)، فإنسانٌ حاقنٌ ببولٍ أو بغائطٍ وأُقيمتِ الصلاةُ فهل يذهبُ للصلاةِ أم لحاجتِه؟ يذهبُ لحاجتِهِ، فيفرغُ ويستريحُ ليُصلّي بخشوعٍ، ولو فاتتْهُ الصلاةُ فهو معذورٌ، وكذلك في الجمعةِ لو ذهبَ لحاجتِهِ فأقيمتِ الصلاةُ، فهذا عذرٌ ولا إثمَ عليه ولا حرجٌ.
 
– القارئ: (ومَنْ بحضرةِ طعامٍ محتاجٍ إليه)
– الشيخمن هو بحضرةِ طعامٍ يشتهيهِ أو محتاجٌ إليه وأقيمتِ الصلاةُ؛ فهو كذلك معذورٌ، وقد جاءَ في هذا أحاديث: (لا صلاةَ بحضرةِ طعامٍ، ولا هو يدافعُهُ الأخبثان)، وكذلك: (إذا قدّمَ العَشاءُ وأقيمتِ المغربُ، فابدأوا به قبلَ أن تُصلّوا المغربَ)، وهذا من حكمةِ اللهِ في تشريعِهِ لعبادِهِ. وأصلُ هذه الأعذارِ: آياتُ التيسيرِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وحديثُ: (ما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم). فكلُّ ما يُذكرُ من الأعذارِ في تركِ الجمعةِ والجماعةِ، أو غيرِهما من الواجباتِ مردُّها هذه النصوصُ، نصوصُ التيسيرِ ورفعِ الحرجِ.
 
– القارئ: (وخائفٌ من ضياعِ مالهِ، أو فواتِه، أو ضررٍ فيه)
– الشيخ:
وكذلك يُعذرُ بتركِ جمعةٍ وجماعةٍ خائفٌ من ضياعِ مالِه، بأن يخشى إن ذهبَ للصلاةِ أن يُسرقَ مالُه، والمالُ عزيزٌ على النّفسِ.
"أو فواتِه": كأن يبحثَ عن دابّةٍ له قد ذُكرَ له أنَّها في هذا المكانِ، فإن تركَ البحثَ ستذهبُ، فالضياعُ للمالِ الذي في يدِهِ، والفواتُ للمالِ الذي يبحثُ عنه.
"أو ضررٌ فيه": كالخبّازِ الذي إن تركَ خبزَهُ وذهبَ للصلاةِ احترقَ، فهذا ضررٌ حاصلٌ فيه.
 
– القارئ: (أو موتِ قريبهِ)
– الشيخ: 
يعني خافَ أن يموتَ قريبُه وهو غيرُ حاضرٍ، ذكروا له أنَّه يحتضرُ، كأبيه، فهذا يعزُّ في النفسِ فيُعذرُ؛ لنفسِ التعليلِ في عدمِ الخشوعِ في الصلاةِ بحضرةِ الطعامِ، أو مَن يدافعُهُ الأخبثان، نفسُ هذا المعنى.
 
– القارئ: (أو على نفسِه من ضررٍ)
– الشيخ: 
كأن يدخلَ إلى صلاةِ الجمعةِ مثلًا فيخشى على نفسِهِ من الضررِ لسببٍ من الأسبابِ.
 
– القارئ: (أو من سلطانٍ)
– الشيخ: 
كأن يترصّدَ له إن حضرَ، ويقبضَ عليه، وهو في ذلك غيرُ ظالمٍ بل مظلومٍ، أمَّا الظالمُ فلا عذرَ له، وعليه أن يُؤدّي الحقَّ الذي عليه.
 
– القارئ: (أو ملازمةِ غريمٍ ولا شيءَ معَهُ)
– الشيخ: 
الغريمُ: هو الدائنُ، فيُخشى أنَّه إذا دخلَ الجمعةَ قبضَ عليه الدائنُ وذهبَ به إلى الجهاتِ الرسميةِ وطالبَه بالدَّينِ، وهو لا يملكُ ما يقضيه ويدفعُهُ له، فهو معذورٌ وملازمُ الغيرِ له بغيرِ حقٍّ. قال تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]
 
– القارئ: (أو من فواتِ رفقتِه)
– الشيخ: 
مثلًا هناك أُناسٌ تجهّزوا للرَّحيلِ، وحضرت صلاةُ الجمعةِ، فإنَّه إن صلّى فرفقتُه سيذهبونَ ويتركونَه، فهو يريدُ أن يُدركَهم؛ لأنَّه إن بقيَ لوحدِهِ يلحقُهُ ضررٌ، ونستطيعُ تشبيهُها بزمانِنا بمن خافَ أن تفوتَه الطائرةُ ورفقتُه معه، فيذهبُ ولا حرجَ عليه. قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]
 
– القارئ: (أو غلَبَةِ نُعاسٍ)
– الشيخ: 
كمن دخلَ إلى صلاةِ الجماعةِ وهو متعبٌ ومرهقٌ جدًا، سيُصلي بغيرِ عقلٍ، ومن غيرِ حضورِ قلبٍ من غلبةِ النعاسِ.
 
– القارئ: (أو أذىً بمطرٍ ووحلٍ)
– الشيخ: 
يعني إذا ذهبَ إلى الجماعةِ وهناك مطرٌ شديدٌ فخشيَ على نفسِهِ من الأذى، وكذلك سيؤذي من حولَه بملابسِهِ المبلّلةِ، وكذلك الطينُ اللَّزجُ الذي لا يستطيعُ الإنسانُ أن يمشيَ عليه بأن يقعَ ويتأذّى.
 
– القارئ: (وريحٍ باردةٍ شديدةٍ، في ليلةٍ مظلمةٍ)
– الشيخ: 
البردُ والريحُ الشديدتان فيهما مشقَّةٌ على الإنسانِ، أمَّا الآن فيستطيعُ الإنسانُ أن يلبسَ ما يدفعُ عنه هذا البردَ، وكأنَّ هذا حاصلٌ مع من يشتكونَ قلَّةَ الملابسِ وقلَّةَ اليدِ. "في ليلةٍ مظلمةٍ": اعترضَ الشيخُ ابنُ عثيمينَ على هذا القيدِ وقال: إنَّ الآثارَ ليس فيها تقييدٌ بليلةٍ مظلمةٍ.
 
– القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
(وَيُعْذَرُ بِتَرْكِ جُمُعَةِ وَجَمَاعَةٍ مَرِيضٌ، وَمُدَافِع أَحَدَ الأَخْبَثَيْنِ)
قوله: "فصل" هذا الفصلُ عَقَدَه المؤلِّفُ لبيانِ الأعذارِ التي تُسقِطُ الجمعةَ والجماعة، وهو مبنيٌّ على قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]، وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]
قولُه: "يُعذرُ بتركِ جمعةٍ وجماعةٍ مريضٌ" هذا نوعٌ مِن الأعذارِ، والمرادُ به: المرضُ الذي يَلحقُ المريضَ منه مشقَّة لو ذَهَبَ يصلِّي وهذا هو النَّوعُ الأولُ، ودليلُه:
1 ـ قولُ اللهِ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]
2 ـ وقولُه: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]
3 ـ وقولُه تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]
4 ـ وقولُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-:
(إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم)
قوله: "ومدافع أحد الأخبثين": هذا نوعٌ ثان يُعذر فيه بتركِ الجُمعة والجَماعة، و "مدافع" تَدلُّ على أنَّ الإِنسانَ يتكلَّفُ دَفْعَ أحد الأخبثين. والأخبثان: هما البولُ والغائطُ، ويَلحقُ بهما الرِّيحُ؛ لأنَّ بعضَ النَّاسِ يكون عنده غَازات تنفخُ بَطنَه وتَشُقُّ عليه جدًا، وقد يكون أشقَّ عليه مِن احتباسِ البولِ والغائطِ، والدَّليل على ذلك ما يلي:
1 ـ قول النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-:
(لا صلاةَ بحضرةِ طعامٍ، ولا وهو يدافعُهُ الأخبثان)، والنَّفيُ هنا بمعنى النَّهي، أي: لا تصلُّوا بحضرةِ طعامٍ ولا حالَ مدافعةِ الأخبثين.
2 ـ أنَّ المدافعةَ تقتضي انشغالَ القلبِ عن الصَّلاةِ، وهذا خَلَلٌ في نَفْسِ العبادةِ، وتَرْكُ الجماعةِ خَلَلٌ في أمْرٍ خارجٍ عن العبادة؛ لأنَّ الجماعةَ واجبةٌ للصَّلاةِ، والمحافظةُ على ما يتعلَّقُ بذات العبادةِ أَولى مِن المحافظةِ على ما يتعلَّقُ بأمْرٍ خارجٍ عنها، فلهذا نقول: المحافظةُ على أَداءِ الصَّلاةِ بطمأنينة وحضورِ قلبٍ أولى مِن حضورِ الجماعةِ أو الجُمعة.
3 ـ أنَّ احتباسَ هذين الأخبثين مع المدافعة يَضرُّ البدنَ ضررًا بيِّنًا؛ لأنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى جَعَلَ خروجَ هذين الأخبثين راحةً للإِنسان، فإذا حبسَهُما صارَ في هذا مخالفةً للطبيعةِ التي خُلِقَ الإِنسانُ عليها، وهذه قاعدةٌ طبيةٌ: أنَّ كُلَّ ما خالفَ الطَّبيعة فإنَّه ينعكس بالضَّررِ على البَدنِ، ومِن ثَمَّ يتبيَّنُ أضرارُ الحُبوبِ التي تستعمِلُها النِّساءُ مِن أجل حَبْسِ الحيضِ، فإنَّ ضررَها ظاهرٌ جدًّا، وقد شَهِدَ به الأطباءُ.
 
– الشيخ:
وهذه لفتةٌ طيبةٌ من الشيخِ محمد رحمهُ اللهُ: أنَّ النساءَ اللاتي يتعاطينَ الحبوبَ لحسنِ نيّةٍ، لحبسِ الحيضِ لأجلِ أن تصومَ رمضانَ وألَّا تقطعَ صلاتَها في رمضانَ، وهذا اجتهادٌ خاطئٌ، بل ينبغي لها أن تتركَ حالَها على خِلقتِها وطبيعتِها، وتصومُ كما كانت نساءُ المسلمينَ يَصُمنَ، وتُصلّي كما كُنَّ يُصلّينَ، لكن هناك حالةٌ كحالةِ الحجِّ مثلًا، بعضُ النساءِ تخشى من الحيضِ فيمنعها من طوافِ الإفاضةِ، فيُلجئها للاحتباسِ والتأخّرِ، أو السفرِ قبلَ إتمامِ الحجِّ، فهذه حالةٌ قليلةٌ ولعلَّها تكونُ معذورةً، وهذا لدفعِ حرجٍ، أمَّا الأولُ فهو لجلبِ فضيلةٍ.
 
– القارئ: (وَمَنْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَخَائِف مِنْ ضَيَاعِ مَالِهِ، أَوْ فَوَاتِهِ، أَوْ ضَرَرٍ فِيهِ)
قولُه: "ومن بحضرةِ طعامٍ محتاجٍ إليه": هذا نوعٌ ثالثٌ فيُعذر بتَرْكِ جُمُعَةٍ وجماعةٍ مَن كان بحضْرَةِ طعامٍ، أي: حَضَرَ عنده طعامٌ وهو محتاجٌ إليه، لكن بشرط أن يكون متمكِّنًا مِن تناولِه. مثالُه: رَجُلٌ جائعٌ حَضَرَ عنده الطَّعامُ وهو يسمعُ الإِقامةَ، فهو بين أمرين: إنْ ذهبَ إلى المسجدِ انشغل قلبُه بالطَّعامِ لجوعِه، وإنْ أكَلَ اطمأنَّ وانسدَّ جوعُه، فنقول: كُلْ ولا حَرَجَ، وقد قال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-:
(إذا قُدِّمَ العشاءُ فابْدَؤُا به قبل أن تصلُّوا صلاة المغرب)، فأمرَنا بأنْ نبدأَ به. وكان ابنُ عُمرَ رضي الله عنهما يَسمعُ قراءةَ الإِمام وهو يتعشَّ، مع أنَّ ابنَ عُمرَ رضي الله عنهما مِن أشدِّ النَّاسِ تمسُّكًا بالسُّنَّةِ.
إذًا: إذا حَضَرَ العشاءُ فتعشَّ ولو أُقيمت الصَّلاةُ. وهل الأكلُ بمقدارِ ما تنكسِرُ نهمتُك، أو لك أنْ تشبعَ؟ نقول: لك أنْ تشبعَ؛ لأنَّ الرُّخصةَ عامَّةٌ:
(إذا قُدِّمَ العَشاءُ فابدؤوا به قبل أن تصلُّوا صلاةَ المغرب).
ويُشترطُ أنْ يتمكَّنَ مِن تناولِه، فإنْ لم يتمكَّن بأنْ كان صائمًا وحَضَرَ طعامُ الإِفطارِ، وأُذِّنَ لصلاةِ العصرِ وهو بحاجةٍ إلى الأكلِ فليس له أنْ يؤخِّرَ صلاةَ العصر حتى يُفطرَ ويأكلَ؛ لأنَّ هذا الطَّعامَ ممنوعٌ منه شرعًا، حتى لو اشتهى الطَّعامَ شهوةً قويَّةً. ولا بُدَّ أيضًا مِن قيدٍ آخرَ، وهو أنْ لا يجعلَ ذلك عادةً بحيث لا يُقَدَّم العشاءُ إلا إذا قاربت إقامةُ الصَّلاةِ؛ لأنه إذا اتَّخذَ هذا عادةً فقد تَعمَّدَ أن يَدَعَ الصَّلاةَ، لكن إذا حصلَ هذا بغير اتِّخاذِه عادةً فإنه يبدأ بالطَّعامِ الذي حَضَرَ، سواءٌ كان عشاءً أم غداءً.
قوله: "وخائفٌ من ضياعِ مالِه، أو فواتِه، أو ضررٍ فيه": هذا نوعٌ رابعٌ مما يُعذر فيه بتَرْكِ الجُمعةِ والجماعةِ، أي: إذا كان عنده مال يَخشى إذا ذَهَبَ عنه أن يُسرقَ، أو معه دابةٌ يَخشى لو ذهبَ للصَّلاةِ أن تنفلتَ الدَّابةُ وتضيعُ، فهو في هذه الحال معذورٌ فيتَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ؛ لأنَّه لو ذَهَبَ وصَلَّى فإن قلبَه سيكون منشغلًا بهذا المالِ الذي يَخافُ ضياعَه. وكذلك إذا كان يَخشى مِن فواتِه بأن يكون قد أضاعَ دابَّته، وقيل له: إنَّ دابَّتك في المكان الفلاني؛ وحضرتِ الصَّلاةُ، وخَشيَ إنْ ذهب يُصلِّي الجُمعةَ أو الجماعةَ أنْ تذهبَ الدَّابةُ عن المكان الذي قيل إنَّها فيه، فهذا خائفٌ مِن فواتِه، فله أنْ يتركَ الصَّلاةَ، ويذهب إلى مالِه ليدرِكَه. ومِن ذلك أيضًا: لو كان يخشى مِن ضَررٍ فيه، كإنسانٍ وَضَعَ الخُبزَ بالتنورِ، فأُقيمت الصَّلاةُ، فإنْ ذهبَ يُصلِّي احترقَ الخبزُ؛ فله أن يَدَعَ صلاةَ الجماعةِ مِن أجلِ ألا يفوتَ مالُه بالاحتراق. والعِلَّةُ: انشغالُ القلبِ، لكن يُؤمرُ الخَبَّازُ أن يلاحظَ وقتَ الإِقامةِ، فلا يُدخل الخبزَ في التنّورِ حينئذٍ. وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين المالِ الخطير والمال الصَّغيرِ الذي لا يُعتبر شيئًا؛ لأنه أطلق فقال: "مِن ضياعِ مالِه"، وقد يُقال: إنَّه يُفرَّقُ بين المالِ الخطيرِ الذي له شأنٌ، وبين المالِ القليلِ في صلاةِ الجُمعةِ خاصَّة؛ لأنَّ صلاةَ الجُمعة إذا فاتت فيها الجماعةُ لا تُعادُ وإنَّما يُصلَّى بدلها ظُهرًا، وغير الجُمعةِ إذا فاتت فيها الجماعةُ يصلِّيها كما هي.
(أَوْ مَوْتِ قَرِيبِهِ، أَوْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ضَرَرٍ، أَوْ سُلْطَانٍ، أَوْ مُلاَزَمَةِ غَرِيمٍ وَلاَ شَيْءَ مَعَهُ…)
قولُه: "أو موتِ قريبِه": هذا نوعٌ خامسٌ مما يُعذرُ فيه بتَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ، أنْ يخشى مِن موتِ قريبِه وهو غيرُ حاضرٍ، أي: أنَّه في سياقِ الموتِ فيخشى أن يموتَ وهو غيرُ حاضرٍ وأحبَّ أنْ يبقى عندَه ليلقِّنه الشَّهادةَ، وما أشبه ذلك، فهذا عُذر.
قولُه: "أو على نفسِهِ من ضررٍ": هذا نوعٌ سادسٌ مما يُعذرُ فيه بتَرِكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ، وهو: أن يَخشى على نفسِه مِن الأمور التي ذكرها المؤلِّفِ، مِن ضَررٍ بأن كان عند بيتِه كلبٌ عقورٌ، وخَافَ إنْ خَرَجَ أنْ يعقِره الكلبُ، فله أنْ يصلِّيَ في بيتِه ولا حَرَجَ عليه. وكذلك لو فُرِضَ أن في طريقِه إلى المسجدِ ما يضرُّه، مثل ألَّا يكون عندَه حِذاءٌ، والطريقُ كلُّه شوكٌ أو كله قِطعُ زُجاجٍ، فهذا يضرُّه، فهو معذورٌ بتَرْكِ الجَماعة والجُمُعة. وكذلك لو كان فيه جُروحٌ وخافَ على نفسِه مِن رائحةٍ يزيدُ بها جرحُه فإنَّه يُعذرُ بتَرْكِ الجمعة والجماعة.

– الشيخ: المريضُ بجروحٍ يتأثَّرُ بشمِّ الأطيابِ وخصوصًا الأطياب الفوَّاحةِ، بعضُ الأطيابِ يثيرُ الجروحَ إثارةً، وإن كان بعضُ الأطباءِ الظاهر أنَّهم لا يعترفونَ به.
 
– القارئ: وقولُه: "أو سلطانٍ": يعني إِذا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانٍ مثل: أنْ يطلبَه ويبحث عنه أميرٌ ظالمٌ له، وخافَ إن خَرَجَ أن يمسكَه ويحبسَه أو يغرِّمَه مالًا أو يؤذيه، أو ما أشبه ذلك، ففي هذه الحال يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؛ لأنَّ في ذلك ضررًا عليه، أما إذا كان السلطانُ يأخذُه بحقٍّ فليس له أن يتخلَّفَ عن الجماعةِ ولا الجُمُعةِ، لأنَّه إذا تخلَّفَ أسقط حقّين: حَقَّ اللهِ في الجماعةِ والجُمُعةِ، والحَقَّ الذي يطلبه به السلطانُ.
قولُه: "أو ملازمةِ غريمٍ ولا شيءَ معه": هذا نوعٌ سابعٌ مما يُعذرُ فيه بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ، بأن كان له غريمٌ يطالبُه ويلازِمُه، وليس عنده فلوسٌ، فهذا عُذْرٌ؛ وذلك لما يلحَقَه مِن الأذيَّةِ لملازمةِ الغريمِ له، فإنْ كان معه شيءٌ يستطيعُ أن يوفي به فليس له الحَقُّ في تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؛ لأنَّه إذا تركَهما في هذه الحال أسقطَ حَقَّين: حَقَّ اللهِ في الجماعة والجُمُعةِ، وحَقَّ الآدميِّ في الوفاءِ.
مسألة: إذا كان عليه دينٌ مؤجَّلٌ، لكنَّ غريمَه لازَمَهُ فهل له أن يتخلَّفَ؟
الجوابُ: ينظر؛ فإن كانت السُّلطةُ قويةً بحيث لو اشتكاهُ على السُّلطةِ لمنعتْه منه، فهو غيرُ معذورٍ؛ لأنَّ له الحَقُّ أن يُقدِّمَ الشَّكوى إلى السُّلطةِ، أما إذا كانت السُّلطةُ ليست قويةً، أو أنَّها تُحابي الرَّجُلَ فلا تمنْعه مِن ملازمةِ غريمِه، فهذا عُذرٌ بلا شَكٍّ.
(أَوْ مِنْ فَوَاتِ رُفْقَةٍ، أَوْ غَلَبَةِ نُعَاسٍ، أَوْ أَذًى بِمَطَرٍ، أَوْ وَحَلٍ وَبِرِيْحٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ)
قوله: "أو من فواتِ رفقةٍ": هذا نوعٌ ثامنٌ من أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ، إذا كان يَخشى من فواِت الرُّفْقةِ وهذا عُذْرٌ لوجهين: الوجهُ الأوّلُ: أنَّه يفوتُ مقصدُهُ من الرُّفقةِ إذا انتظرَ الصَّلاةَ مع الجماعةِ أو الجُمعةِ. الوجهُ الثاني: أنَّه ينشغلُ قلبُه كثيرًا، إذا سَمِعَ رفقته يتهيؤون للسير وهو يُصلِّي فإنه يقلَقُ كثيرًا، فإذا خِفْتَ فواتَ الرُّفقةِ فإنَّك معذورٌ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ، ولا فَرْقَ بين أن يكون السَّفرُ سفرَ طاعةٍ أو سفرًا مباحًا، وسفرُ الطاعةِ كالسفرِ لعُمرةٍ أو حَجٍّ أو طلبِ عِلمٍ، والمباحُ: كالسَّفرِ للتجارةِ ونحوِها.
قولُه: "أو غلبةِ نعاسٍ": هذا نوعٌ تاسعٌ من أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة؛ إذا غلبَه النُّعاسُ فإنه يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ. مثالُ ذلك: رجلٌ متعبٌ بسببِ عَمَلٍ أو سَفَرٍ فأخذَه النُّعاسُ فهو بين أمرين: إمَّا أن يذهبَ ويصلِّي مع الجماعةِ، وهو في غَلَبَةِ النُّعاسِ لا يدري ما يقولُ، وإمَّا أن ينامَ حتى يأخذَ ما يزولُ به النُّعاسُ ثم يُصلِّي براحةٍ، فنقول: افعلْ الثاني؛ لأنك معذورٌ.
قولُه: "أو أذى بمطرٍ أو وحلٍ": هذا نوعٌ عاشرٌ مِن أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ. فإذا خافَ الأذى بمطرٍ أو وَحْلٍ، أي: إذا كانت السَّماءُ تمطرُ، وإذا خَرَجَ للجُمُعةِ أو الجماعةِ تأذَّى بالمطرِ فهو معذورٌ. والأذيَّة بالمطرِ أن يتأذَّى في بَلِّ ثيابِه أو ببرودةِ الجَوِّ، أو ما أشبَه ذلك، وكذلك لو خافَ التأذِّيَ بوَحْلٍ، وكان النَّاسُ في الأولِ يعانونَ مِن الوحلِ؛ لأنَّ الأسواقَ طينٌ تَربُصُ مع المطرِ فيحصُلُ فيها الوَحْلُ والزَّلَقُ، فيتعبُ الإِنسانُ في الحضورِ إلى المسجدِ، فإذا حصلَ هذا فهو معذورٌ، وأمَّا في وقتِنا الحاضرِ فإنَّ الوَحْلَ لا يحصُلُ به تأذٍّ لأنَّ الأسواقَ مزفَّتة، وليس فيها طينٌ، وغايةُ ما هنالك أن تجدَ في بعضِ المواضعِ المنخفضةِ مطرًا متجمِّعًا، وهذا لا يتأذَّى به الإِنسانُ لا بثيابه ولا بقدميه، فالعُذرُ في مثلِ هذه الحال إنّما يكونُ بنزولِ المطرِ فإذا توقَّفَ المطرُ فلا عُذرَ، لكن في بعضِ القُرى التي لم تُزفَّت يكونُ العُذرُ موجودًا، ولهذا كان منادي الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ينادي في الليلةِ الباردةِ أو المطيرة:
(ألا صَلُّوا في الرِّحالِ).
وفُهِمَ مِن قوله: "أو أذًى بمطرٍ": أنَّه إذا لم يتأذَّ به بأن كان مطرًا خفيفًا فإنَّه لا عُذرَ له، بل يجبُ عليه الحضورُ، وما أصابَه مِن المشقَّةِ اليسيرةِ فإنَّه يُثابُ عليها". اهـ
 




 
الأسئلة:
س1: في بعضِ البلدانِ قد يستمرُّ المطرُ لأسبوع أو أسبوعين فهل يُعذرُ في مثل هذه الحالاتِ؟
ج: نعم يُعذرُ، ما دامَ العذرُ قائمًا.
– وهل الغبارُ يُعتبرُ عذرًا؟
ج: إن كان يتأثرُ بالغبارِ وينعكسُ ذلك سلبًا على صحّتِه بأن يُعانيَ من مشاكل في صدرِه؛ فهو معذورٌ، وذلك مثلُ مرضِ الرّبو.
………………………………………
س2: كيف يُوجَّه حديثُ الأعمى الذي لم يُرخِّصْ له النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- الصلاةَ في بيتِهِ وهو معذورٌ؟
ج: الرسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لم يرخِّصْ له، إذًا لم يعذره، وهذا الأعمى لا بدَّ أنَّه قادرٌ على الحضورِ، ولا يمكنُ أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يُوجبُ عليه حضورَ صلاةِ الجماعةِ وهو غيرُ قادرٍ، وليس كلُّ كفيفٍ عاجزًا عن الحضورِ، الكثيرُ -وللهِ الحمدُ- مكفوفونَ ويأتونَ لحضورِ الجماعاتِ.
………………………………………
س3: حُرّاسُ الأمنِ الذين عملهم في الأسواقِ والشركاتِ، هل تسقطُ عنهم الجماعةُ، أم يتركونَ العملَ ويُصلّون مع الجماعةِ؟
ج: إن حصلَ الضررُ بتركِهم لأماكِنهم فإنَّ هذا عذرًا، لكن يستطيعونَ أن يُنسّقوا مع بعضِهمُ البعضُ ويتناوبونَ.
………………………………………
س4: إذا خشيَ الشخصُ خسارةً في مالِه إذا صلَّى مع الجماعةِ، هل له أن يفوّتَ الجماعةَ؟
ج: هذا ليس بعذرٍ، والخسارةُ هي أن يتلفَ عليه بعضُ مالِه، أمَّا هذا فلا؛ قد يفوتُه بعضُ الربحِ، وهذا ليس بعذرٍ.
………………………………………
س5: أختُ الزوجةِ إذا نشأتْ في حِجرِ الزوجِ هل تأخذُ حكمَ الربيبةِ، فتكونُ مَحرمًا للرجلِ؟
ج: لا واللهِ لا تكونُ مَحرمًا له، الربيبةُ بنتُ الزوجةِ.
………………………………………
س6: هل من يدافعُهُ الأخبثان وهو يعلمُ أنَّه إذا دخلَ الخلاءَ لا يخرجُ منه البولُ، إلَّا بعدَ مرورِ ثلثِ ساعةٍ، هل له أن يُفوّتَ الجماعةَ؟
ج: ما دامَ أنَّه يُدافعُه الأخبثان فلا فرقَ، طوَّلَ أو قصَّرَ، والسائلُ إن كان يتكلَّمُ عن نفسِهِ فهو معذورٌ، أمَّا إن كان يفترضها فلا موجبَ للتكلّفِ في هذا.
………………………………………
س7: من اشتهى الثومَ أو البصلَ فهل يُعذرُ في تركِ الجماعةِ؟
ج: إذا أكلَه عَرَضًا فلا يضرُّ، يتركُ الجماعةَ؛ لأنَّه ممنوعٌ من دخولِ المسجدِ، أمَّا إذا اتّخذَه ديدنًا له وعادةً وقصدَ به العذرَ؛ فهذا من الاحتيالِ لإسقاطِ الواجبِ.
………………………………………
س8: هل عمُّ الزوجِ وخالُ الزوجِ يُعتبرونَ من محارمِ زوجتي فيجوزُ أن تكشفَ أمامَه؟
ج: لا واللهِ، عمُّ الزوجِ وأخو الزوجِ هو ما نهى عنه الرسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فقال: (الحمو الموت).
 
 

 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :الفقه وأصوله