الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الفرقان/(11) من قوله تعالى {والذين لا يدعون مع الله إلها اخر} الآية 68 إلى قوله تعالى {قل ما يعبأ بكم ربي} الآية 77
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(11) من قوله تعالى {والذين لا يدعون مع الله إلها اخر} الآية 68 إلى قوله تعالى {قل ما يعبأ بكم ربي} الآية 77

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الفرقان

الدَّرس: الحادي عشر

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان:68-77]

– الشيخ : أحسنت، الحمدُ للهِ، ذكرَ اللهُ سبحانَه وتعالى في الآياتِ السابقةِ بعضَ صفاتِ عبادِ الرحمنِ في عبادتِهم لربِّهم وفي معاملتهم للخلق، ثمَّ ذكرَ في هذه الآيات اجتنابهم للمحرماتِ وأنواعِ الباطل فأثنى عليهم بتركِ الشِّركِ الّذي هو أعظمُ الذنوبِ، وتركِ القتلِ قتلِ النفسِ الّتي حرَّم اللهَ وتركِ الزنا.

فهذهِ ثلاثةٌ مِن عظائمِ الذنوبِ ومِن هذهِ الآية وغيرها نعلمُ شناعةَ الزنا، فالزنا قرينُ الشِّرك في الكتاب والسُّنَّة، قرينُ الشركِ وقرينُ القتلِ، الزنا ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء:32] سبحان الله.

وقد أخبرَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام أنَّه لا تقومُ الساعةُ حتّى يُشرَبَ الخمرُ ويظهرُ الزِّنا، وواقعنا اليوم في مجتمعات المسلمين شاهدٌ لما أخبرَ به الرسولُ عليه الصلاة والسلام، فقد ظهرَ الزنا في بلادِ المسلمين بوجودِ ما يعني أماكن تُقصَدُ للزنا وبلدان بلدان تُقصَدُ للزنا وشربِ الخمرِ من بلادِ المسلمين، وبظهورِ وسائلِه وطرقِه طرقِ الزنا ووسائلِ الزنا ل الّتي كلُّها تُقرِّبُ من مُقارفةِ الفاحشة.

الاختلاط هذا أوسع أبواب شيوع الزنا هو الاختلاط بين الرجال والنساء، وهذا ما تعملُ عليه كثيرٌ من الأنظمةِ تعملُ على إشاعةِ الاختلاطِ بشتَّى الوسائلِ والطرقِ، سبحان الله.

(وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) إلّا من تاب، من تاب التوبة النصوح تاب الله عليه، (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا).

ومن صفاتهم أنَّهم لا يشهدون الزور لا يحضرون الباطل، والباطل واللغو الباطل واللغو والزور يشمل كلَّ عملٍ لا خيرَ فيه، ومثل ومثَّل له السلف بالغِنا الغِناء فَسَّروا به الجُور، فمن أدلَّة تحريم الزنا الغِنا مثل هذه الآية: الزور، (لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).

(والَّذين إذا ذُكِّرُوا بآياتِ ربِّهم لم يَخِرُّوا عليها صُمَّاً وعُمياناً)، من صفاتِ عبادِ الرحمنِ أنَّهم إذا ذُكِّروا بآيات الله أصغَوا عليها وأقبلوا عليها، لا يكونون كحالِ الكافرين، يُلاقونها بآذانٍ بآذانٍ صُمٍّ وعيونٍ عُمي، ل(م يَخِرُّوا عليها صُمَّاً وعُمياناً)، والّذين يقولون ربّنا هبْ لنا من أزواجِنا وذُرِّياتنا قُرَّة أعين.

ثم قال سبحانه في خِتامها في ذِكر وعد الوعد الكريم والجزاء العظيم: (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا)، يُجزون غُرفَ الجنة بما صبروا، (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).

(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا)، فالله إنَّما خلقَ العبادَ لعبادتِه والإيمانِ به، فلذلك لا يعبأُ بالكافرين لا يعبأُ بمن لم يؤمنْ به سبحانه وتعالى ويقومُ بحقِّه، (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)، لولا إيمانُكم وعملُكم الصالحُ.

 

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} بل يعبدونهُ وحدَهُ مُخلِصينَ لهُ الدينَ حنفاءَ مُقبِلينَ عليهِ مُعرِضينَ عمَّا سواهُ.

{وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} وهيَ نفسُ المُسلمِ والكافرِ المُعاهَدِ، {إِلا بِالْحَقِّ} كقتلِ النفسِ بالنفسِ وقتلِ الزاني المُحصنِ والكافرِ الَّذي يحلُّ قتلُهُ.

{وَلا يَزْنُونَ} بلْ يحفظونَ فروجَهم {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: الشركُ باللهِ أو قتلُ النفسِ الَّتي حرَّمَ اللهُ بغيرِ حقٍّ أو الزِّنا فسوفَ {يَلْقَ أَثَامًا} ثمَّ فسَّرَهُ بقولِهِ: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ} أي: في العذابِ {مُهَانًا} فالوعيدُ بالخلودِ لمَن فعلَها كلُّها ثابتٌ لا شكَّ فيهِ وكذلكَ لمَن أشركَ باللهِ، وكذلكَ الوعيدُ بالعذابِ الشديدِ على كلِّ واحدٍ مِن هذهِ الثلاثةِ لكونِها إمَّا شِركٌ وإمَّا مِن أكبرِ الكبائرِ.

وأمَّا خلودُ القاتلِ والزاني في العذابِ فإنَّهُ لا يتناولُهُ الخلودُ لأنَّهُ قدْ دلَّتْ النصوصُ القرآنيَّةُ والسُّنَّةُ النبويَّةُ أنَّ جميعَ المُؤمِنينَ سيخرجونَ مِن النارِ ولا يُخَلَّدُ فيها مُؤمِنٌ ولو فعلَ مِن المعاصي ما فعلَ، ونصَّ تعالى على هذهِ الثلاثةِ؛ لأنَّها أكبرُ.

– الشيخ : لكنَّ هذا المعنى لا يجوزُ أنْ يكونَ سبباً للاستخفافِ بالذنوبِ فإنَّها خطرٌ، الإصرارُ على الذنوبِ والتمادي فيها والتهاونِ بها خطرٌ، ربّما أدَّتْ بمَن هذه حاله بمن يجرؤُ على الذنوبِ ويتمادى فيها ويستصغرها ربّما أفضى به الأمر إلى زيغِ قلبِه وخروجه عن دين الإسلام قبل أن يموت خلاص هو من جملة الكافرين.

هذا الوعدُ لأهلِ التوحيدِ يجبُ أنْ يجبُ أن يأخذَ منهُ المسلمُ يعني التمسُّكَ بالتوحيدِ والاستقامةِ على توحيدِ اللهِ وإخلاصِ الدينِ لهُ، ولا يأخذُ منهُ التهاونَ بكبائرِ الذنوبِ أو صغائرِها، يجبُ الحذرُ مِن الذنوبِ كلِّها صغيرِها وكبيرِها.

 

– القارئ : لأنَّها أكبرُ الكبائرِ: فالشِّركُ فيهِ فسادُ الأديانِ، والقتلُ فيهِ فسادُ الأبدانِ، والزِّنا فيهِ فسادُ الأعراضِ.

{إِلّا مَنْ تَابَ} عن هذهِ المعاصي وغيرِها بأنْ أقلعَ عنها في الحالِ وندمَ على ما مضى لهُ مِن فعلِها وعزمَ عزماً جازماً أنْ لا يعودَ، {وَآمَنَ} باللهِ إيماناً صحيحاً يقتضي تركَ المعاصي وفعلِ الطاعاتِ {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا} ممَّا أمرَ بهِ الشارعُ إذا قصدَ بهِ وجهَ اللهِ.

{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي: تتبدَّلُ أفعالُهم وأقوالُهم الَّتي كانَتْ مُستعِدَّةً لعملِ السيئاتِ تتبدَّلُ حسناتٍ، فيتبدَّلُ شِركُهم إيماناً ومعصيتُهم طاعةً وتتبدَّلُ نفسُ السيِّئاتِ الَّتي عملُوها ثمَّ أحدثُوا عن كلِّ ذنبٍ منها توبةً وإنابةً وطاعةً تُبدَّلُ حسناتٍ كما هوَ ظاهرُ الآيةِ.

ووردَ في ذلكَ حديثُ الرجلِ الَّذي حاسبَهُ اللهُ ببعضِ ذنوبِهِ فعدَّدَها عليهِ ثمَّ أبدلَ مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةٌ فقالَ: يا ربِّ إنَّ لي سيِّئاتٌ لا أراها ها هُنا، واللهُ أعلمُ.

{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لمَن تابَ يغفرُ الذنوبَ العظيمةَ {رَحِيمًا} بعبادِهِ حيثُ دعاهُم إلى التوبةِ بعدَ مبارزتِهِ بالعظائمِ ثمَّ وفَّقَهم لها ثمَّ قبلَها منهم.

{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} أي: فليعلمْ أنَّ توبتَهُ في غايةِ الكمالِ؛ لأنَّها رجوعٌ إلى الطريقِ المُوصِلِ إلى اللهِ الَّذي هوَ عينُ سعادةِ العبدِ وفلاحِهِ فليخلصْ فيها وليخلِّصْها مِن شوائبِ الأغراضِ الفاسدةِ، فالمقصودُ مِن هذا الحثُّ على تكميلِ التوبةِ واتباعِها على أفضلِ الوجوهِ وأجلِّها ليقدمَ على مَن تابَ إليهِ فيوفيهِ أجرَهُ بحسبِ كمالِها.

{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أي: لا يحضرون الزورَ أي: القولُ والفعلُ المُحرَّمُ، فيجتنبونَ جميعَ المجالسِ المُشتمِلةِ على الأقوالِ المُحرَّمةَ أو الأفعالِ المُحرَّمةِ، كالخوضِ في آياتِ اللهِ والجدالِ الباطلِ والغيبةِ والنميمةِ والسبِّ والقذفِ والاستهزاءِ والغناءِ المُحرَّمِ وشربِ الخمرِ وفرشِ الحريرِ، والصورِ ونحوِ ذلكَ، وإذا كانُوا

– الشيخ : آه فرش، فُرش فُرش الحرير، فُرُشِ الحريرِ والصور.

– القارئ : وإذا كانُوا لا يشهدونَ الزورَ فمِن بابِ أولى وأحرى أنْ لا يقولوهُ ويفعلوهُ.

وشهادةُ الزورِ داخلةٌ في قولِ الزورِ تدخلُ في هذهِ الآيةِ بالأولويَّةِ، {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} وهوَ الكلامُ الَّذي لا خيرَ فيهِ ولا فيهِ فائدةٌ دينيَّةٌ ولا دنيويَّةٌ ككلامِ السُّفهاءِ ونحوِهم {مَرُّوا كِرَامًا} أي: نزَّهُوا أنفسَهم وأكرمُوها عن الخوضِ فيه ِورأوا الخوضَ فيهِ وإنْ كانَ لا إثمَ فيهِ فإنَّهُ سَفَهٌ ونقصٌ للإنسانيِّةِ والمروءةِ فربأُوا بأنفسِهم عنهُ.

وفي قولِهِ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} إشارةٌ إلى أنَّهم لا يقصدونَ حضورَهُ ولا سماعَهُ، ولكنْ عندَ المصادفةِ الَّتي مِن غيرِ قصدٍ يُكرِمونَ أنفسَهم عنهُ.

{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الَّتي أمرَهم باستماعِها.

– الشيخ : من أعظمِ الزورِ ومن أعظمِ اللغوِ هذه الحَفَلات الّتي تُقامُ هنا وهناك المُشتملةُ على أنواعٍ من الباطلِ والمُنكرِ، فالمؤمنون الصالحون يربؤون بأنفسِهم عن حضورِها بل ينكرونها، بل ينكرونها بكلِّ ما يستطيعون من الأقوالِ والأفعالِ ومن لم يستطعْ هذا ولا ذاك فإنّهم ينكرونها بقلوبِهم ويُبغِضونها.

هذا كلُّه داخلٌ في اللغوِ والزورِ فالمؤمنون والصالحون عبادُ الرحمنِ يُعِزُّون أنفسَهم عن هذه المجامعِ وهذه المجالسِ، لأنّها مُشتملةٌ على أنواعٍ من المنكراتِ.

وعلى كلِّ مسلمٍ أن يسلُكَ طريقَ عبادِ الرحمنِ أن يسلُكَ طريقَهم ليكونَ منهم وفي عِدادِهم ويتشبَّه بهم فيكون منهم، ويحذرُ من سلوكِ طريقِ الجاهلين الغافلين المسرفين المطيعين للكافرين إنّهم مُطيعين.

 كلّ هذه كلّ ما يجري من هذه الأمور في بلاد المسلمين هو استجابةٌ لرغبةِ الكفّارِ، فيها استجابة لأنّ الكفّارَ تقرُّ عيونهم تقرُّ عيونهم بفساد أحوال المسلمين وتفريطهم في دينهم.

الكفّارُ هذا شأنُهم يبذلون كلّ ما يستطيعون لإفسادِ مجتمعات المسلمين، ولا ينتهون حتّى ينسلِخَ المسلمُ أو ينسلخَ المجتمعُ من دينِ الإسلامِ، (ولن ترضى عنكَ اليهودُ ولا النصارى حتَّى تتبعَ ملَّتَهم).

لا ينتهون أبداً حتّى تكونَ حتّى يكونَ المسلمُ نصرانيّاً أو يهوديّاً أو مُلحِداً، ما يرضيهم إلّا هذا، (لن ترضى عنكَ اليهودُ ولا النصارى حتّى تتَّبِعَ مِلَّتَهُم).

ودُّوا لو تكفرون كما كفروا ودُّوا، لأنّ كثيراً منهم يعرفون أنّ دينَ الإسلامِ هو دينُ الحقِّ، فهم يحسِدون المسلمين، (ودَّ كثيرٌ من أهلِ الكتابِ لو يردُّونكم من بعدِ إيمانكم كُفَّاراً حسداً)، (حسداً من عندِ أنفسِهم من بعدِ ما تبيَّنَ لهم الحقُّ فاعفَوا واصفحُوا حتّى يأتيَ اللهُ بأمرهِ إنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ).

فالله أثنى على عبادِ الرحمنِ لا يشهدون الزورَ وإذا مَرُّوا باللغوِ بالباطلِ مِن الأقوالِ والأفعالِ أعزُّوا أنفسَهم وأعرضُوا عنه، أعرضُوا عن مجامعِ الإثمِ ومجامعِ الزورِ ومجامعِ الباطلِ أعرضُوا عنها. (وإذا خاطبَهم الجاهلونَ قالُوا سلاماً).

 

– القارئ : {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الَّتي أمرَهم باستماعِها والاهتداءِ بها، {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} أي: لم يقابلوها بالإعراضِ عنها والصممِ عن سماعِها وصرفِ النظرِ والقلوبِ عنها كما يفعلُهُ مَن لم يؤمنْ بها ولم يصدِّقْ، وإنَّما حالُهم فيها وعندَ سماعِها كما قالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة:15]

يقابلونَها بالقبولِ والافتقارِ إليها والانقيادِ والتسليمِ لها، وتجدُ عندَهم آذاناً سامعةً وقلوباً واعيةً فيزدادُ بها إيمانُهم ويتمُّ بها إيقانُهم وتُحدِثُ لهم نشاطاً ويفرحونَ بها سروراً واغتباطاً.

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} أي: قُرنائِنا مِن أصحابٍ وأقرانٍ وزوجاتٍ، {وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أي: تقرُّ بهم أعينُنا.

وإذا استقرَّ حالُهم وصفاتُهم عرفْنا مِن هممِهم.

– الشيخ : الله المستعان الله المستعان، والَّذين يقولون هب لنا من أزواجنا وذُرِّياتنا قرّة أعينٍ، اللهُ أعلمُ، الأظهرُ في الآيةِ أنَّ الأزواجَ الزوجات لأنّها مقرونةٌ بالذُرِّية، كقولِه: (يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا إنَّ مِن أزواجِكم وأولادِكم)، كثير من الآيات يأتي ذكر الأزواج ومرادٌ بها الزوجات، (قلْ إنْ كانَ آباؤُكم وأبناؤُكم وإخوانُكم وأزواجُكم وعشيرتُكم، وأزواجٌ).

 

– القارئ : عرفْنا مِن هممِهم وعلوِّ مرتبتِهم أنَّهم لا تقرُّ أعينُهم حتَّى يروهم مُطيعينَ لربِّهم عالمينَ عاملينَ وهذا كما أنَّهُ دعاءٌ لأزواجِهم وذرياتِهم في صلاحِهم فإنَّهُ دعاءٌ لأنفسِهم؛ لأنَّ نفعَهُ يعودُ عليهم؛ ولهذا جعلُوا ذلكَ هِبةً لهم فقالُوا: {هَبْ لَنَا} بل دعاؤُهم يعودُ إلى.

– الشيخ : لا إله إلّا الله، هم يدعون لأزواجِهم وذُرِّياتِهم بالصلاحِ، ونفعُ ذلك يعودُ إليهم لهم نصيبٌ من هذا، إذا ماتَ ابنُ آدم انقطعَ عملُه إلّا من ثلاثٍ: علمٌ يُنتفَعُ به أو ولدٌ صالحٌ يدعو لهُ.

إذا رُزِقَ الإنسان زوجة صالحة أو ولد صالح فهذا من أسباب السعادة العاجلة، من أسباب سعادة الدنيا والآخرة. وإنّما يكون الولد والزوجة قرّة عين إذا استقاما على دين الله و، إذا استقام صار قرّة عين، يعني تقرُّ به العينُ ويُسَرُّ به القلبُ.

 

– القارئ : بلْ دعاؤُهم يعودُ إلى نفعِ عمومِ المسلمينَ؛ لأنَّ بصلاحِ مَن ذُكِرَ يكونُ سبباً لصلاحِ كثيرٍ ممَّن يتعلَّقُ بهم وينتفعُ بهم.

{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي: أوصلْنا يا ربَّنا.

– الشيخ : أيش أي؟

– القارئ : أي: أوصلْنا يا ربَّنا إلى هذهِ الدرجةِ العاليةِ، درجةِ الصديقينَ والكُمَّلِ مِن عبادِ اللهِ الصالحينَ وهيَ درجةُ الإمامةِ في الدينِ وأن يكونوا قدوةً للمتقينَ في أقوالِهم وأفعالِهم يُقتدَى بأفعالِهم، ويُطمئنُّ لأقوالِهم ويسيرُ أهلُ الخيرِ خلفَهم فيهدونَ ويهتدونَ.

ومِن المعلومِ أنَّ الدعاءَ ببلوغِ شيءٍ دعاءٌ بما لا يتمُّ إلَّا بهِ، وهذهِ الدرجةُ -درجةُ الإمامةِ في الدينِ- لا تتمُّ إلَّا بالصبرِ واليقينِ كما قالَ تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا منهم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة:24]

فهذا الدعاءُ يستلزمُ مِن الأعمالِ والصبرِ على طاعةِ اللهِ وعن معصيتِهِ وأقدارِهِ المُؤلِمةِ ومن العلمِ التامِّ الَّذي يُوصِلُ صاحبَهُ إلى درجةِ اليقينِ، خيراً كثيراً وعطاءً جزيلاً وأنْ يكونوا في أعلى ما يُمكنُ مِن درجاتِ الخلقِ بعدَ الرُّسلِ.

ولهذا، لمَّا كانَتْ هِممُهم ومطالبُهم عاليةً كانَ الجزاءُ مِن جنسِ العملِ فجازاهُم بالمنازلِ العالياتِ فقالَ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} أي: المنازلُ الرفيعةُ والمساكنُ الأنيقةُ الجامعةُ لكلِّ ما يُشتهَى وتلذُّهُ الأعينُ وذلكَ بسببِ صبرِهم نالُوا ما نالُوا، كما قالَ تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد:23-24]

ولهذا قالَ هُنا {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} مِن ربِّهم ومِن ملائكتِهِ الكرامِ ومِن بعضٍ على بعضٍ ويسلمونَ مِن جميعِ المُنغِّصاتِ والمُكدِّراتِ.

والحاصلُ: أنَّ اللهَ وصفَهم بالوقارِ والسكينةِ والتواضعِ لهُ ولعبادِهِ وحسنِ الأدبِ والحلمِ وسعةِ الخلقِ والعفوِ عن الجاهلينَ والإعراضِ عنهم ومقابلةِ إساءَتِهم بالإحسانِ وقيامِ الليلِ والإخلاصِ فيهِ، والخوفِ مِن النارِ والتضرُّعِ لربِّهم أنْ ينجِّيَهم منها وإخراجِ الواجبِ والمُستحَبِّ في النفقاتِ والاقتصادِ في ذلكَ – وإذا كانُوا مقتصدينَ في الإنفاقِ الَّذي جرَتْ العادةُ بالتفريطِ فيهِ أو الإفراطِ، فاقتصادُهم وتوسُّطُهم في غيرِهِ مِن بابِ أولى- والسلامةُ مِن كبائرِ الذنوبِ والاتِّصافُ بالإخلاصِ للهِ في عبادتِهِ والعفَّةُ عن الدماءِ والأعراضِ والتوبةِ عندَ صدورِ شيءٍ مِن ذلكَ، وأنَّهم لا يحضرونَ مجالسَ المُنكرِ والفُسُوقِ القوليِّةِ والفعليِّةِ، ولا يفعلونَها بأنفسِهم وأنَّهم يتنزَّهونَ مِن اللغوِ والأفعالِ الرديَّةِ الَّتي لا خيرَ فيها، وذلكَ يستلزمُ مروءَتَهم وإنسانيتَهم وكمالَهم ورفعةَ أنفسِهم عن كلِّ خسيسٍ قوليٍّ وفعليٍّ، وأنَّهم يقابلونَ آياتِ اللهِ بالقبولِ لها والتفهُّمِ لمعانيها والعملِ بها، والاجتهادِ في تنفيذِ أحكامِها، وأنَّهم يدعونَ اللهَ تعالى بأكملِ الدعاءِ، في الدعاءِ الَّذي ينتفعونَ بهِ، وينتفعُ بهِ مَن يتعلَّقُ بهم وينتفعُ بهِ المسلمونَ مِن صلاحِ أزواجِهم وذريتِهم، ومِن لوازمِ ذلكَ سعيُهم في تعليمِهم ووعظِهم ونصحِهم؛ لأنَّ مَن حرصَ على شيءٍ ودعا اللهَ فيهِ لابدَّ أنْ يكونَ مُتسبِباً فيهِ، وأنَّهم دعَوا اللهَ ببلوغِ أعلى الدرجاتِ المُمكنةِ لهم وهيَ درجةُ الإمامةِ والصديقيَّةِ.

فللَّهِ ما أعلى هذه الصفاتِ وأرفعَ هذهِ الهممِ وأجلَّ هذهِ المطالبِ، وأزكى تلكَ النفوسِ وأطهرِ تلكَ القلوبِ وأصفى هؤلاءِ الصفوةِ وأتقى هؤلاءِ السادةِ.

وللهِ، فضلُ اللهِ عليهم ونعمتُهُ ورحمتُهُ الَّتي جلَّلَتْهُم، ولطفُهُ الَّذي أوصلَهم إلى هذهِ المنازلِ.

وللهِ، مِنَّةٌ على عبادِهِ أنْ بيَّنَ لهم أوصافَهم، ونعتَ لهم هيئاتِهم وبيَّنَ لهم هممَهم، وأوضحَ لهم أجورَهم، ليشتاقُوا إلى الاتِّصافِ بأوصافِهم، ويبذلُوا جهدَهم في ذلكَ، ويسألُوا الَّذي مَن عليهم وأكرمَهم الَّذي فضلُهُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وفي كلِّ وقتٍ وأوانٍ، أنْ يهديَهم كما هداهم ويتولَّاهم بتربيتِهِ الخاصَّةِ كما تولَّاهُم.

فاللَّهم لكَ الحمدُ، وإليكَ المُشتكى، وأنتَ المُستعانُ، وبكَ المُستغاثُ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بكَ، لا نملكُ لأنفسِنا نفعاً ولا ضرَّاً ولا نقدرُ على مِثقالِ ذرَّةٍ مِن الخيرِ إنْ لم تيسِّرْ ذلكَ لنا، فإنَّا ضعفاءٌ عاجزونَ مِن كلِّ وجهٍ.

نشهدُ أنَّكَ إن وَكَلْتَنا إلى أنفسِنا طرفةَ عينٍ وَكَلْتَنا إلى ضعفٍ وعجزٍ وخطيئةٍ، فلا نثقُ يا ربَّنا إلَّا برحمتِكَ الَّتي بها خلقْتَنا ورزقْتَنا وأنعمْتَ علينا بما أنعمْتَ مِن النعمِ الظاهرةِ والباطنةِ وصرفْتَ عنَّا مِن النقمِ، فارحمْنا رحمةً تغنيْنا بها عن رحمةِ مَن سواكَ فلا خابَ مَن سألَكَ ورجاكَ.

ولمَّا كانَ اللهُ تعالى قد أضافَ هؤلاءِ العبادَ إلى رحمتِهِ، واختصَّهُم بعبوديتِهِ لشرفِهم وفضلِهم، ربَّما توهَّمَ مُتوهِّمٌ أنَّهُ وأيضاً غيرُهم فلِمَ لا يدخلُ في العبوديَّةِ؟

فأخبرَ تعالى أنَّهُ لا يبالي ولا يعبأُ بغيرِ هؤلاءِ، وأنَّهُ لولا دعاؤُكم إيَّاهُ دعاءَ العبادةِ ودعاءَ المسألةِ ما عبأَ بكم ولا أحبَّكُم فقالَ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي: عذاباً يَلْزمُكُمْ لزومَ الغريمِ لغريمِهِ وسوفَ يحكمُ اللهُ بينَكم وبينَ عبادِهِ المؤمنينَ.

تمَّ تفسيرُ سورةِ الفرقانِ، فللهِ الحمدُ والثناءُ والشكرُ أبداً.

انتهى.

– الشيخ : رحمه الله بارك الله فيه.