الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة العنكبوت/(12) من قوله تعالى {فإذا ركبوا في الفلك} الآية 65 إلى قوله تعالى {والذين جاهدوا فينا} الآية 69

(12) من قوله تعالى {فإذا ركبوا في الفلك} الآية 65 إلى قوله تعالى {والذين جاهدوا فينا} الآية 69

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة العنكبوت

الدَّرس: الثَّاني عشر

***     ***     ***

 

– القارئ : عفا اللهُ عنكَ، أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:65-69]

– الشيخ : لا إله إلَّا الله، يذكرُ سبحانه وتعالى بعضَ أحوالِ المشركين وذلكَ أنَّهم إذا ركبُوا في الفلكِ في السفنِ، ركبُوا البحرَ ولا سيما إذا أحاطَتْ بهم الأمواجُ وصارَت السفينةُ تتأرجحُ وتذهبُ هنا وهنا فإنَّهم ينسون معبوداتهم وآلهتِهم، {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] فإنَّهم حينئذٍ يدعونَ اللهَ مخلصينَ له الدينَ، وقد كانُوا في البرِّ يشركون، وهذا ممَّا، وهذا عيبٌ من وجهٍ وحسنٌ من وجهٍ، كيف يشركون في الرخاءِ وهم يعلمونَ أنَّه لا ينجيهم من الشدائدِ والكرباتِ إلَّا الله؟ ثمَّ إنَّهم إخلاصهم في الشدَّةِ هذا يُحمَدُ، هذا محمودٌ، العيبُ في أنَّهم: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} هنا يأتي الخللُ ويأتي العيبُ ونقصُ العقلِ.

وقد ذكرَ شيخُ الإسلامِ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهابِ في القواعدِ الأربعِ وفي كشفِ الشبهاتِ أنَّ شركَ أهلِ، أنَّ شركَ أهلِ زمانِه ومثلهم أهلُ زمانِ اليومِ، يقولُ: إنَّ شركَهم أغربُ من شركِ الأوَّلين؛ لأنَّ الأوَّلين يشركونَ في الرخاءِ ويخلصونَ في الشدَّةِ، وأمَّا المشركون المتأخِّرون في هذه الأعصارِ فإنَّهم يشركون في الرخاءِ والشدَّةِ، بل يشتدُّ شركُهم ويقوى شركُهم في حالِ الشدَّةِ، مثلُ الروافضِ الآنَ إذا ألمَّتْ بهم الكروبُ اشتدَّ تعلقُهم بفلانٍ وفلانٍ، بدعوةِ الحسينِ أو دعوةِ عليٍّ أو غيرهم، وكذلك الصوفيَّةُ عُبَّادُ القبورِ، إذا نزلَتْ بهم الشدَّةُ فإنَّهم يصرخون، يصرخون بدعاءِ فلانٍ أو فلانٍ، يصرخونَ بدعوةِ البدويِّ -أهل مصر- وبفلانٍ من الشيوخِ وبفلانةٍ، فيدعونهم في الكروبِ، وهذا قبيحٌ، فلا يذكرُ اللهَ ولا في الشدَّة.

{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} يعني يؤولُ أمرُهم -والعياذُ باللهِ- إلى الكفرِ والتمتُّع في هذه الدنيا العاجلةِ، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} هذا فيه تهديدٌ {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} يعني: من العلمِ والهدى الَّذي جاءَ به الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم.

{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ثمَّ يقولُ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وهذا يُعرَفُ أنَّه خطابٌ لقريشٍ؛ لأنَّهم الَّذين ولأنَّهم أهلُ الحرمِ ولأنَّهم يعني هم الَّذين في البلدِ الأمينِ وهم الَّذين لهم الأمنُ بسببِ الحرمِ بسببِ المسجدِ بسببِ البيتِ، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} في سائرِ النواحي يغيرُ بعضُ الناسِ على بعضٍ ويخطفُ بعضُهم بعضاً وينهبون وينهبُ بعضُهم بعضاً، وأمَّا في أرضِ الحرمِ فهم في أمنٍ.

{وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} قالَ اللهُ: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} بالباطلِ يؤمنون بآلهتِهم الباطلةِ، يؤمنونَ بما تُملي عليهم الشياطيُن، شياطينُ الإنسِ والجنِّ، ويكفرون بنعمةِ اللهِ، وأعظمُ نعمةٍ أنعمَ اللهُ عليهم نعمةَ الرسالةِ الَّتي جاءَ بها محمَّدٌ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28]

ثمَّ قالَ تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ} هذا من أظلمِ الظالمينَ، بل لا أحدَ أظلمُ منه، يجمعُ بينَ الكذبِ على اللهِ وردِّ الحقِّ، {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ} ثمَّ قالَ تعالى مهدِّداً: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِين} فهؤلاءِ المفترون المكذِّبون بالحقِّ هؤلاء كافرون ولهم مثوىً في جهنَّم، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}

ثمَّ ختمَ اللهُ السورةَ بمثلِ ما بُدِئَتْ به من الترغيبِ في الجهادِ، جهادُ النفسِ أوَّلاً وجهادُ الشيطانِ وجهادُ أعداءِ اللهِ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فمن ثوابِ الجهادِ العاجلِ الهدايةُ والتوفيقُ من اللهِ، فمَن جاهدَ نفسَه في طلبِ الحقِّ هداه اللهُ وأعانَه ويسَّرَ له سبلَ الرشادِ، نعم يا محمَّد.

 

"تفسيرُ السَّعديِّ"

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ رحمَهُ اللهُ تعالى:

ثمَّ ألزمَ تعالى المشركينَ بإخلاصِهم للهِ، في حالِ الشِّدَّةِ، عندَ ركوبِ البحرِ وتلاطُمِ أمواجِهِ وخوفِهم الهلاكَ، يتركونَ إذاً أندادَهم، ويخلصونَ الدُّعاءَ للهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، فلمَّا زالَتْ عنهم الشِّدَّةُ، ونجا مَن أخلصُوا لهُ الدُّعاءَ إلى البرِّ، أشركُوا بهِ مَن لا نجَّاهم مِن شدَّةٍ، ولا أزالَ عنهم مشقَّةً.

فهلا أخلصُوا للهِ الدُّعاءَ في حالِ الرَّخاءِ والشِّدَّةِ، واليسرِ والعسرِ

– الشيخ : سبحانَ اللهِ، أمرٌ عجبٌ، لا إله إلَّا الله.

– القارئ : ليكونُوا مؤمنينَ بهِ حقَّاً، مستحقِّينَ ثوابَهُ، مندفعاً عنهم عقابَهُ، ولكنَّ شركَهم هذا بعدَ نعمتِنا عليهم، بالنَّجاةِ مِن البحرِ؛ ليكونَ عاقبتُه ُكفرَ ما آتيْناهم، ومقابلةَ النِّعمةِ بالإساءةِ، وليكملُوا تمتُّعَهم في الدُّنيا، الَّذي هوَ كتمتُّعِ الأنعامِ، ليسَ لهم همٌّ إلَّا بطونَهم وفروجَهم.

{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} حينَ ينتقلونَ مِن الدُّنيا إلى الآخرةِ

– الشيخ : يا الله يا ذا الجلالِ والإكرامِ.

– القارئ : شدَّةَ الأسفِ وأليمَ العقوبةِ، ثمَّ امتنَّ عليهم بحرمِهِ الآمنِ، وأنَّهم أهلُهُ في أمنٍ وسعةٍ ورزقٍ، والنَّاسُ مِن حولِهم يُتخطَّفونَ ويخافونَ، أفلا يعبدونَ {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4]

{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} وهوَ ما هم عليهِ مِن الشِّركِ، والأقوالِ، والأفعالِ الباطلةِ. {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} هم {يَكْفُرُونَ} فأينَ ذهبَتْ عقولِهم، وانسلخَتْ أحلامُهم حينَ آثرُوا الضَّلالَ على الهدى، والباطلَ على الحقِّ، والشَّقاءَ على السَّعادةِ، وحيثُ كانُوا أظلمَ الخلقِ.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فنسبَ ما هوَ عليهِ مِن الضَّلالِ والباطلِ إلى اللهِ، {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} على يدِ رسولِهِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.

ولكنَّ هذا الظالمَ العنيدَ، أمامَهُ جهنَّمُ {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} يُؤخَذ بها منهم الحقُّ، ويُخزَونَ بها، وتكونُ منزلَهم الدَّائمَ، الَّذي لا يخرجونَ منهُ.

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} وهم الَّذينَ هاجرُوا في سبيلِ اللهِ، وجاهدُوا أعداءَهم، وبذلُوا مجهودَهم في اتِّباعِ مرضاتِهِ، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي: الطُّرقَ الموصلةَ إلينا، وذلكَ لأنَّهم محسنونَ.

{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بالعونِ والنَّصرِ والهدايةِ. دلَّ هذا على أنَّ أحرى النَّاسِ بموافقةِ الصَّوابِ أهلُ الجهادِ، وعلى أنَّ مَن أحسنَ فيما أُمِرَ بهِ أعانَهُ اللهُ ويسَّرَ لهُ أسبابَ الهدايةِ، وعلى أنَّ مَن جدَّ واجتهدَ في طلبِ العلمِ الشَّرعيِّ، فإنَّهُ يحصلُ لهُ مِن الهدايةِ والمعونةِ على تحصيلِ مطلوبِهِ أمورٌ إلهيَّةٌ، خارجةٌ عن مدركِ اجتهادِهِ، وتيسَّرَ لهُ أمرُ العلمِ، فإنَّ طلبَ العلمِ الشَّرعيِّ مِن الجهادِ في سبيلِ اللهِ، بل هوَ أحدُ نَوْعَي الجهادِ، الَّذي لا يقومُ بهِ إلَّا خواصُ الخلقِ، وهوَ الجهادُ بالقولِ واللِّسانِ، للكفَّارِ والمنافقينَ، والجهادُ على تعليمِ أمورِ الدِّينِ، وعلى ردِّ نزاعِ المخالفينَ للحقِّ، ولو كانُوا مِن المسلمينَ.

تمَّ تفسيرُ سورةِ العنكبوتِ بحمدِ اللهِ وعونِهِ.

انتهى