بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
– شرح كتاب "زاد المستقنع في اختصار المقنع"
– (كتاب المناسك)
– الدّرس: الرّابع عشر
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيّنا محمِّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمّا بعد؛ قال المصنّفُ رحمهُ اللهُ تعالى:
[بابُ صفةِ الحجِّ والعمرةِ]
– الشيخ:
الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ. أشكلَ علينا هذا العنوانُ فيما سبقَ، ثمَّ تبيّنَ أنَّه صحيحٌ؛ لأنَّ المؤلفَ ذكرَ صفةَ العمرةِ بعدَ ذكرِ صفةِ الحجِّ، وأفردَ الكلامَ عليها، لأنَّ ما تقدَّمَ في الحقيقةِ لم يكن صفةً للعمرةِ المستقلّةِ، ما تقدَّمَ إنَّما هو عمرةُ المتمتِّعِ أو القارنِ، وعمرةُ المتمتّعِ مرتبطةٌ وإن كانت مطابقةً، عمرةُ المتمتّعِ هي عمرةٌ مفردةٌ، ثمَّ إنَّه في الآخرِ سيذكرُ صفةَ العمرةِ ويذكرُ ما يتعلّقُ بها من أركانِها وواجباتِها، فلهذا ضمَّها بهذا العنوانِ: "بابُ صفةِ الحجِّ والعمرةِ".
– القارئ: (يُسنُّ للمحلين بمكةَ الإحرامُ بالحجِّ يومَ الترويةِ قبلَ الزوالِ منها)
– الشيخ: يقولُ "يُسنُّ": أي يستحبُّ وليسَ بواجبٍ، والمحِلُّ ضدَّ المُحرمِ، والمُحرمونَ بمكَّةَ يشملُ من بقيَ على إحرامِهِ من مفردٍ وقارنٍ أو متمتّعٍ قد ساقَ الهديَ فإنَّه يبقى على إحرامِهِ، فلهذا قال: "يُسنُّ للمحلين"، أمَّا من بقيَ على إحرامِهِ فما عليه إلَّا أن يمضيَ إلى مِنى، فلا يحتاجُ إلى تجديدٍ، فلهذا قال: "يسنُّ للمحلينَ بمكةَ"، من أهلِها أو من الوافدينَ عليها، يُسنُّ لهم الإحرامُ بالحجِّ يومَ الترويةِ وهو اليومُ الثامنُ، قال العلماءُ: سُمّيَ يوم الترويةِ لأنَّه يروّى فيه الحجّاجُ الماءَ ويحملونَهُ معهم لِمَا بعدَ هذا اليوم، ليومِ عرفةَ وليلةِ مزدلفةَ وأيامِ مِنى القادمةِ.
"قبلَ الزّوالِ منها": حدَّدَ اليومَ الوقتَ، قبلَ الزوالِ منها: أي من مكّةَ، يعني ضحى يومِ الترويةِ، لأنَّه وقتُ المسيرِ، وقتُ الشروعِ في الحجِّ، لأنَّه في اليومِ الثامنِ الرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ سارَ هو وأصحابُه إلى مِنى، كانوا نازلينَ في الوادي في الأبطحِ خارجَ مكةَ، فلمّا كانَ اليومُ الثامنُ توجَّهوا وساروا إلى مِنى في ذلك الوقتِ أي قبلَ الزوالِ، فيُسنُّ للمحلّينَ أن يفعلوا ما فعلَهُ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- اقتداءً به.
– القارئ: (ويجزئُ من بقيةِ الحرمِ)
– الشيخ: يقولُ: "ويجزئُ من بقيَّةِ الحرمِ": يعني هو قال: يُسنُّ للمحلّينَ أن يُحرموا منها أي من مكَّةَ، ويُجزئُ من بقيَّةِ الحرمِ، والمرادُ بمكَّةَ يعني نفسُ البلدِ العامرةِ التي فيها مساكنُ الناسِ، وأمَّا الحرمُ فإنَّه يشملُ كلَّ نواحي الحرمِ شمالًا وجنوبًا وشرقًا، فلو أهلَّ النازلُ بمكَّةَ أهلَّ بالحجِّ في ذلك اليومِ من مِنى فإنَّه يُجزئُ، من مزدلفةَ يُجزئُ، من الغربِ يعني دونَ الحدودِ يُجزئُ، فمكةُ اسمٌ للبلدِ العامرةِ، والحرمُ أوسعُ منها، فمكةُ هي قلبُ الحرمِ الذي فيه البيتُ، فكلُّ الحرمِ حِمى لهذا البيتِ، وتعظيمُهُ من تعظيمِ هذا البيتِ.
ذكروا مسألةً هنا: هل يُجزئْهُ أن يُحرمَ من الحِلِّ؟ ظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ أن يُحرمَ من مكَّةَ أو من بقيَّةِ الحرمِ لا من خارجِ الحرمِ، وذكرَ في الشرحِ أنَّه يُجزئُ من خارجِ الحرمِ، ولكن لا دمَ عليه، وفي الحقيقةِ هذا يرجعُ إلى قولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "يُهلُّ أهلُ المدينةِ من ذي الحليفةِ" إلى قوله "حتّى أهلُ مكَّةَ من مكَّةَ" يعني أهلُ مكَّةَ يُهلّونَ من مكَّةَ للحجِّ، وأمَّا للعمرةِ فقد دلَّ على أنَّهم يُهلّونَ للعمرةِ من الحِلِّ لا من مكةَ، وأقولُ: من في مكَّةَ ظاهرُ الحديثِ أنَّه يجبُ عليه أن يُحرمَ من مكَّةَ ومن سائرِ الحرمِ، ولا يُحرمُ من الحلِّ، إلّا أن يمرَّ بالحرمِ، فعلى سبيلِ المثالِ: لو أهلَّ يعني خرجَ من خارجِ مكَّةَ وأهلَّ من الشميسي من طريقِ جِدَّةَ، نقولُ: يُجزئُ؛ لأنَّ غايةَ الأمرِ سيمرُّ بالحرمِ فيصبحُ كمن أهلَّ من دونِ الميقاتِ، أمَّا أن يخرجَ من مكَّةَ ولا يُهلُّ بالحجِّ إلَّا بعرفةَ: فلا، فقد تركَ ميقاتَهُ، لم يُحرِمُ فيه ولا قَبلَهُ.
– القارئ: (ويبيتُ بمنى)
– الشيخ: هذا من هديه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فإنَّه باتَ ليلةَ التاسعِ من ذي الحجَّةِ بمنى، ومعنى ذلك أنَّه صلَّى بها الظهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ قصرًا بلا جمعٍ، وهكذا يُسنُّ لسائرِ الناسِ أن يبيتوا بمِنى ويُصلّوا الصلواتِ الخمسِ قصرًا بلا جمعٍ.
– القارئ: (فإذا طلعتِ الشمسُ سارَ إلى عرفةَ، وكلُّها موقفٌ إلا بطنَ عُرَنَة)
– الشيخ: إذا طلعتِ الشمسُ سارَ الحاجُّ إلى عرفةَ أسوةٌ بالنبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فإنَّه لما طلعتِ الشمسُ سارَ إلى عرفةَ، أي قريبًا من عرفةَ، فوجدَ القبّةَ قد ضُربتْ له بِنَمِرةٍ، هكذا جاءَ في حديثِ جابرٍ الطويلِ، قال: فوجدَ القبّةَ قد ضُرِبتْ له بِنَمِرة، فنزلَ بها حتى زالتِ الشمسُ فأمرَ بالقَصْوى، فسارَ إلى عرفةَ حتّى أتى بطنَ عُرنةَ فخطبَ الناسَ بخطبتِه العظيمةِ التي قرَّرَ فيها قواعدَ الإسلامِ وبيّنَ للناسِ مناسكِهَم، وممَّا ذكرَ فيها أنَّه أوصى بالنساءِ خيرًا، ووضعَ كلَّ ربا الجاهليةِ وقال: "أوَّلُ ربًا أضعُهُ ربا عمّي العباس"، ثمَّ بعدَ هذه الخُطبةِ أمرَ بلالًا فأذَّنَ للظهرِ والعصرِ فأقامَ للظهرِ وصلَّى ركعتين، ثمَّ أقامَ فصلّى العصرَ ركعتين جمعًا وقصرًا، ثمَّ سارَ حتّى أتى الموقفَ في مؤخّرِ عرفةَ، شرقي عرفةَ، يقولُ جابرٌ: "وجعلَ بطنَ ناقتِهِ إلى الصخراتِ، وجعلَ حبلَ المشاةِ بين يديه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"
وقولُه: " كلُّها موقفٌ إلَّا بطنَ عُرَنة": لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: "وقفت هاهنا، وعرفةُ كلُّها موقفٌ وارفعوا عن بطنِ عُرَنة"، فهذا نصٌّ على أنَّ عرفةَ كلَّها موقفٌ، وقفَ في أدناها وأقصاها شرقًا وشمالًا وجنوبًا. وعرفةُ حدَّها العلماءُ قديمًا بحدودِها الطبيعيةِ بالجبالِ والوديانِ، وبعدَ تغيّرِ الأحوالِ، وتوفّرِ وسائل كثيرةٍ حدَّدَها وُلاةُ الأمورِ ولا سيَّما هذا العهدُ المتأخّرُ، وضعوا حدودًا وعلاماتٍ بارزةً وواضحةً للناسِ، لأنَّ الناسَ في حاجةٍ إلى معرفةِ حدودِ عرفةَ، والوقوفُ بعرفةَ هو ركنُ الحجِّ الأعظمِ، فلو أخطأَ شخصٌ ووقفَ في مزدلفةَ أو في مكانٍ آخرٍ لم يصحَّ حجُّهُ، فمن فاتَهُ الوقوفُ بعرفةَ فاتَهُ الحجُّ، لقولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "الحجُّ عرفة"، وهذا فيما يظهرُ إجماعٌ، فهو ركنُ الحجِّ الأعظمِ.
– القارئ: (ويُسنُّ: أنْ يجمعَ بها بين الظهرِ والعصرِ)
– الشيخ: ويُسنُّ في عرفةَ أن يجمعَ بينَ الظهرِ والعصرِ أسوةً بالنبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فإنَّه صلّى بها الظهرَ والعصرَ جمعًا وقصرًا، وكان ذلك اليومُ يومَ جمعٍة، وعُرِفَ من سيرتِه في صلاتِه أنَّه لم يصلِّ جمعة، وهذه سنّته فلم يُعلمْ أنَّه صلَّى الجُمُعَةَ في أسفارِهِ، والرّسولُ سافرَ أسفارًا كثيرةً وصادفَ يومَ الجمعةِ مرّاتٍ، لكن في هذا المكانِ قد يُتوهّمُ أنَّه صلَّى الجمعةَ، ولكن يدلُّ على صلاتِهِ تلكَ ليست صلاةَ جمعةٍ: أولًا: أنَّه لم يجهرْ بالقراءةِ، وثانيًا: أنَّه أمرَ المؤذّنَ أن يؤذّنَ للصلاةِ بعدَ الخُطبةِ لا قبلَها، والأذانُ في الجمعةِ يكونُ قبلَ الخُطبةِ، فيُعلمُ قطعًا أنَّ صلاتَه تلكَ ليست صلاةَ جمعةٍ، وهذا معلومٌ من هديهِ وسنّتِهِ في كلِّ أسفارِهِ.
– القارئ: (ويقفُ راكبًا عندَ الصخراتِ وجبلِ الرحمةِ)
– الشيخ: يقفُ عندَ الصخراتِ وهي صخراتٌ كبيرةٌ ومعروفةٌ وأظنُّ أنَّها أو شيئًا منها باقية إلى اليومِ، يعني قبلَ وجودِ هذه التغيّراتِ والأليّاتِ التي تزحزحُ هذه الجبالَ، كانت موجودةً وأدركناها ولعلّي في صغري رأيتُها كأنَّها جنوبَ جبلِ إلال؛ اسمٌ لذلك الجبلِ على وزنِ هِلالٍ، ويسمّيهِ من يُسمّيهِ بجبلِ الرّحمةِ، وهذه التّسميةُ لا أعلمُ لها أصلًا.
– القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
قولُه: "عندَ الصخراتِ": وهي صخراتٌ معروفةٌ لا تزالُ حتى الآنَ موجودةً. قولُه: "وجبلُ الرحمةِ": ويقالُ له: جبلُ الدّعاءِ، والمناسبةُ ظاهرةٌ أنَّ هذا المكانَ أعني عرفةَ كلَّها موطن رحمةٍ وموطن دعاءٍ، ولكن لم يكن هذا الاسمُ في عهدِ الرسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- معروفًا لهذا الجبلِ، لكنَّ العلماءَ ـ رحمهم اللهُ ـ جعلوا له هذا الاسمَ "جبلَ الرحمةِ" أو "جبلَ الدعاءِ"، لهذه المناسبةِ، ويُسمَّى أيضًا: "إلال"، وهذا اسمُهُ الأوَّلُ في الجاهليةِ، ويُسمَّى: "جبل عرفة" أو "جبل الموقف".
– الشيخ: فتسميتُهُ بجبلِ الرَّحمةِ ليس عليه دليلٌ، وكما قال الشيخُ: عرفةُ كلُّها موضعُ رحمةٍ، وهذه التسميةُ تُغري الجُّهالَ بصعودِهِ والغلوِّ فيه واعتقادِ أنَّ له خصوصيَّةٌ من بين بقيَّةِ جبالِ عرفةَ، والصحيحُ أنَّه ليس له خصوصيّةٌ، ولا أدري ما تأريخُ هذه التسميةِ، يعني هل هي مأثورةٌ عن الأئمَّةِ مثلًا كالإمامِ مالكٍ وأحمدَ، أو هي عبارةٌ لبعضِ الفقهاءِ المتأخّرينَ، فهذه موضعُ مراجعةٍ.
– القارئ: وقولُه: "ويقفُ راكبًا عندَ الصّخراتِ وجبلِ الرّحمةِ": لم يُبيّنِ المؤلّفُ أين يكونُ اتجاهُهُ، ولكن نقولُ: يكونُ اتجاهُهُ إلى القبلةِ كما في حديثِ جابرٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ في صفةِ حجِّ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-.
– الشيخ: لقولِهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "خيرُ مجالسِكم ما استقبلت به القِبلة"، فما دامَ أنَّه موقفٌ للذكرِ والدعاءِ، فلا ريبَ أنَّ السنَّةَ أن يستقبلَ القِبلةَ.
– القارئ: ولأنَّ كلَّ العباداتِ الأفضلُ أن تستقبلَ فيها القبلةُ، إلَّا ما قامَ الدليلُ على خلافِهِ، كما قال ابنُ مفلحٍ ـ رحمهُ اللهُ ـ في الفروعِ لما ذكرَ عن بعضِ العلماءِ أنَّه يُشرعُ استقبالُ القبلةِ حالَ الوضوءِ، قال: "وهو متوجِّهٌ في كلِّ طاعةٍ إلَّا لدليلٍ"، ولا شكَّ أنَّه في الدعاءِ ينبغي أن يستقبلَ القبلةَ، أمَّا في الوضوءِ وشبهِهِ ففي النَّفسِ من هذا شيءٌ.
– الشيخ: لا، ما في النَّفسِ منه شيءٌ: أنَّه لا يشرعُ فيه استقبالُ القِبلةِ جزمًا، لأنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- توضَّئَ مرَّاتٍ وكان يعلّمُ الناسَ ولم يرشدْهُم لا بقولِهِ ولا بفعلِهِ فيما نُقِلَ عنه عليه الصلاةُ والسلامُ، فنقولُ: لا يُشرعُ تحرّي استقبالَ القِبلةِ في الوضوءِ، فليس من واجباتِهِ ولا من سننِهِ استقبالُ القِبلةِ.
– القارئ:
فيحتاجُ إلى دليلٍ خاصٍّ؛ لأنَّ الظاهرَ من حالِ الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنَّه لا يتعمدُ ذلك.
وتستقبلُ القبلةَ حتى ولو كان الجبلُ خلفَ ظهرِكَ؛ لأنَّ الكعبةَ أفضلُ من الجبلِ، وعندَ العامّةِ تستقبلُ الجبلَ، ولكن هذا ناتجٌ عن الجهلِ، وعلى طلبةِ العلمِ أن يُبيّنوا للناسِ أنَّ المشروعَ استقبالُ القبلةِ.
مسألة: هل صعودُ الجبلِ مشروعٌ؟
الجوابُ: أمَّا من صعدَهُ تعبُّدًا فصعودُه ممنوعٌ؛ لأنَّه يكونُ بدعةً، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وأمَّا من صعدَهُ تفرّجًا، فهذا جائزٌ ما لم يكن قدوةً يقتدي به الناسُ؛ فيكونُ ممنوعًا، وأمَّا من صعدَهُ إرشادًا للجُهّالِ عمّا يفعلونَه أو يقولونَه فوقَ الجبلِ فصعودُهُ مشروعٌ.
– الشيخ: مشروعٌ؛ لأنَّ فيه دعوةٌ وتعليمٌ وإنكارُ منكرٍ، فصعودُهُ صارَ فيه أحكامٌ: مباحٌ، وحرامٌ بدعةٌ، ومشروعٌ مستحبٌّ.
– القارئ: أو واجبٌ حسبَ الحالِ؛ لأنَّنا نسمعُ أنَّ بعضَ الجهّالِ إذا صعدَ الجبلَ يكتبُ كتاباتٍ، ويضعُ فيه خِرقًا وأشياءً منكرةً، فإذا ذهبَ طالبُ علمٍ يرشدُ الناسَ، ويُبينُ أنَّ هذا ابتداعٌ، وأنَّه لا ينبغي، فنقولُ: إنَّه مشروعٌ، إما وجوبًا، وإما استحبابًا.
– الشيخ: "يقفُ راكبًا": لأنَّ الرسولَ عليه الصلاةُ والسلامُ وقفَ على راحلتِهِ، وكان الناسُ الذينَ يتيسّرُ لهم يقفونَ بعرفةَ على رحالِهم، ولكن هذا على وجهِ الاستحبابِ، الوقوفُ بعرفةَ ليس معناهُ في المصطلحِ الوقوفُ الذي هو ضدُّ القيامِ [القعود]، بل الوقوفُ يعني: التوقّفَ في عرفةَ، أن يكونَ الإنسانُ موجودًا بعرفةَ، فوجودُ الإنسانِ بعرفةَ هو الوقوفُ الفرضُ سواءٌ كان قائمًا أو قاعدًا أو مضّجعًا، فكلُّ من كان هناك في وقتِهِ فهو واقفٌ بعرفةَ، وقولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: "وقفت هاهنا"، ليس معناهُ الوقوفَ ضدَّ القيامِ، بل يريدُ الوقوفَ الذي هو التوقُّفُ.
– مداخلة: ابنُ عثيمين علَّقَ على هذا فقال:
والمرادُ بالوقوفِ: المكثُ لا الوقوف على القدمين، فالقاعدُ يعتبرُ واقفًا… وهل الأفضلُ أن يقفَ راكبًا، أو أن يقفَ غيرَ راكبٍ؟
قال بعضُ العلماءِ: الأفضلُ أن يقفَ راكبًا؛ لأنَّ ذلك فعلُ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وبناءً على هذا يُسنُّ لنا أن نقفَ من بعدِ صلاةِ الظهرِ والعصرِ بعدَ جمعِهِما تقديمًا إلى الغروبِ في السياراتِ فنركبَ ونبقى فيها إلى الانصرافِ، لأنَّ هذا هو الركوبُ، ومنهم من قال: الأفضلُ أن يكونَ ماشيًا لا راكبًا.
– الشيخ: ماشيًا لا تؤدّي، يعني نازلًا لا راكبًا.
– مداخلة: في المقنعِ يقولُ: "راجل".
– الشيخ: يعني هذا أقربُ قليلًا، المقصودُ إذا فُهمَ المعنى فالألفاظُ أمرُها سهلٌ، لكنَّ ركوبَ السياراتِ يُلاحظُ أنَّه ليسَ كالوقوفِ على الرواحلِ، الوقوفُ على الرواحلِ الأغلبُ أنَّه فرادى، كلٌّ على راحلتِهِ ومستقلٌّ بحالِهِ، أمَّا ركوبُ السياراتِ لو ركبَ أصحابُ الحملةِ أو كثيرٌ منهم في السياراتِ يعني ما يحصلُ لهم من الإقبالِ والفراغِ والإقبالِ على الذكرِ، ولهذا يختارُ بعضُ الناسِ أن ينفردَ، فيظهرُ لي أنَّ الركوبَ على السيارةِ ليسَ كالركوبِ على الرَّواحل، فإذا كنتَ منفردًا والسيارةٌ ليس فيها أحدٌ اركبْ والأمرُ طيّبٌ، يعني ممكن تكونُ أفضل من أنَّك خارجُ السيارةِ.
– القارئ: (ويُكثرُ من الدعاءِ، ومما وردَ فيه)
– الشيخ: يقولُ: "يكثرُ من الدعاءِ": لأنَّ الرسولَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لم يزلْ واقفًا بعرفةَ داعيًا ذاكرًا، وقال -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "أفضلُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ، وأفضلُ ما قلتُ والنبيونَ من قبلي لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له"، وهذا الحديثُ وإن كان عامًا، لكن لا شكَّ أنَّ الواقفينَ بعرفةَ لهم منه النّصيبُ الأوفرُ، وهناك ألفاظٌ ذكرَها الشارحُ وغيرُه فما صحَّ منها نقولُ: أنَّه يُسنُّ تحرّيها والدُّعاءُ بها، وما لم يصحَّ نقولُ: الدعاءُ بها جائزٌ من منطلقِ الاستحبابِ العامِّ، فالدّاعي بعرفةَ يدعوا بما وردَ من الأدعيةِ، فالصحيحُ منها تحرّاهُ ودعا به، وما لم يصحَّ يدعوا بما وردَ عن النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- مثل: ربّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً، نسألكُ الهدى والتقى والعفافَ والغنى، اللهمَّ أصلحْ لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وغير ذلك من الأدعيةِ المأثورةِ النبويّة، والأدعيةِ القرآنيةِ مثل: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، هذه أدعيةٌ قرآنيةٌ هي من خيرِ ما يُدعى بها، أو هي خيرُ ما يُدعى به بعرفةَ أو بغيرِ عرفةَ.
– القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
والمهمُّ أنَّه ينبغي للإنسانِ أن يكثرَ من الدعاءِ، ومن الذكرِ، لقولِ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "أفضلُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ، وأفضلُ ما قلتُ أنا والنبيونَ من قبلي: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له"، فإن قالَ قائلٌ: الوقتُ طويلٌ لا سيَّما في أيامِ الصيفِ، وربَّما يلحقُ الإنسانُ مللٌ، لأنَّه لو بقيَ يدعو من صلاةِ الظهرِ والعصرِ المجموعةِ إليها إلى الغروبِ لحقَهُ المللُ، فهل اشتغالُهُ بغيرِ الدعاءِ والذكرِ ممَّا هو مباحٌ جائزٌ؟ الجوابُ: نعم، وربَّما يكونُ مطلوبًا إذا كان وسيلةً للنشاطِ، والإنسانُ بشرٌ يلحقُهُ المللُ.
– الشيخ: الحمدُ للهِ، لا بأسَ، ويمكنُ أن ينامَ، والأوقاتُ تختلفُ فكما قال الشيخُ: في الصيفِ فالوقتُ يكونُ طويلًا من بعدَ الزَّوالِ إلى الغروبِ وقتٌ طويلٌ.
– مداخلة: ويقولُ الشيخُ أيضًا: فلا حرجَ أن يستريحَ إمَّا بنومٍ، أو بقراءةِ قرآنٍ.
– الشيخ: يُنوّعُ، يقرأُ القرآنَ وينوّعُ الذِّكرَ، وينوّعُ الدعاءَ، وينامُ ويشربُ ويأكلُ ويشربُ الشاي.
– مداخلة: ذكرَ الشيخُ ابنُ عثيمينَ مسألةً وهي: هل الأفضلُ أن يدعوَ كلُّ واحدٍ لنفسِهِ، أو أن نجعلَ إمامًا يدعو بنا؟
الجوابُ: الأفضلُ أنَّ كلَّ إنسانٍ يدعو لنفسِهِ، لكن لو جاءَكَ إنسانٌ، وقال: ادعُ اللهَ بنا، ورأيتَ منه التشوفَ إلى أن تدعو وهو يؤمِّنُ فإنَّه لا بأسَ في هذه الحالِ أن تدعوَ تطييبًا لقلبِهِ، وربَّما يكونُ في ذلك خشوعٌ أيضًا، وإذا شعرَ الإنسانُ أنَّ الناسَ كلَّهم يلتفّونَ حولَهُ ويؤمِّنونَ، وربَّما يكونُ بعضُهم قريبَ الخشوعِ فيخشعُ ويبكي فيخشعُ الناسُ، فهذا لا بأسَ به فيما يظهرُ لي.
– الشيخ: على الأصلِ، هو يدعو ونحنُ نؤمّنُ فلا بأسَ، لكنَّ هذا ليس مسنونًا، لكنَّه جائزٌ، وهذا ليسَ دعاءً جماعيًّا، الدعاءُ الجماعيُّ الذي يكونُ بصوتٍ مثل شغل المُطوّفينَ، وحتى وإن كان التأمينُ جماعيًا فلا بأسَ، يعني أقولُ: ليس هذا بسنّةٍ، لكنَّه جائزٌ إذا فُعلَ أحيانًا.
– القارئ: (ومَنْ وقفَ ولو لحظةً من فجرِ يومِ عرفةَ إلى فجرِ يومِ النحرِ وهو أهلٌ لهُ: صحَّ حجُّهُ، وإلا فلا)
– الشيخ: اللهُ أكبر! هذه عبارةٌ تحتها معنى عظيم، يقولُ: من وقفَ بعرفةَ ولو لحظةً، وهي افتراضٌ مسألةُ اللحظةِ، يعني ثانيةً، أو دقيقةً، المهمُّ إذا وقفَ أيَّ قدرٍ من الوقتِ، "وهو أهلٌ": يعني أهلٌ للوقوفِ، ومتى يكونُ أهلًا؟ يعني إذا كان أهلَّ بالحجِّ، يعني أهلَّ بالحجِّ مُحرمًا، من فجرِ يومِ عرفةَ، الآن هو يحدِّدُ الوقتَ، حدَّدنا المكانَ وهو الوقوفُ بعرفةَ، والزمانَ من فجرِ يومِ عرفةَ إلى فجرِ يومِ النحرِ، من وقفَ ولو لحظةً في ذلك الوقتِ وهو أهلٌ للوقوفِ بأن كان محرمًا بالحجِّ.
"صحَّ حجُّهُ وإلّا فلا": يعني لم يقفْ إلَّا بعدَ فجرِ يومِ النحرِ لا يصحُّ حجُّه، يعني وقفَ قبلَ فجرِ يومِ عرفةَ لا يصحُّ حجُّهُ، لكن إن وقفَ من فجرِ يومِ عرفةَ إلى فجرِ يومِ النحرِ صحَّ حجُّه، وإلّا فلا، يعني إن لم يقفْ قدرًا من الزمانِ في ذلك الوقتِ يعني في حدودِ أربعٍ وعشرينَ ساعة، إن لم يفعلْ ذلك لم يصحَّ حجُّهُ، وهذا تحتُه مسألةً وهي ما وقتُ الوقوفِ بعرفةَ؟ جمهورُ أهلِ العلمِ على أنَّ الوقوفَ بعرفةَ من الزوالِ، وذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ وهو المشهورُ عن الإمامِ أحمدَ أنَّه من فجرِ يومِ عرفةَ، ولهذا مشى المؤلِّفُ على هذا؛ أنَّه يبدأُ الوقوف. وعلى هذا التقديرِ لو وقفَ إنسانٌ بعرفةَ بعدَ صلاةِ الفجرِ من يومِ عرفةَ وذهبَ ومشى وذهبَ إلى مزدلفةَ أو ذهبَ إلى مكةَ ومن ثمَّ يعودُ إلى مزدلفةَ في الليلِ فإنَّه يصحُّ حجُّهُ، وغايةُ الأمرِ أنَّه يجبُ عليه دمٌ لتركِهِ الوقوفَ إلى غروبِ الشمسِ.
وأصلُ هذا المذهبِ حديثُ عروةَ بنِ المضرّسِ الذي جاءَ إلى النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وهو بالمزدلفة وذكرَ له أنَّه ما تركَ جبلًا وما تركَ مكانًا إلَّا وقفَ فيه، فجاءَ في الحديثِ: "أنَّه من شهدَ صلاتَنا هذه وقد وقفَ بعرفةَ قبلَ ذلك أيَّ ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ فقد تمَّ حجُّهُ وقضى تفثَهُ"، فهذا حُجَّةُ من ذهبَ إلى ذلك.
والأظهرُ عندي واللهُ تعالى أعلمُ: أنَّ هذا الحديثَ مُجملٌ يٌفسّرٌهٌ فعلٌه عليه الصلاةُ والسلامُ، فلم يقفْ هو ومن معه من الصحابةِ، قطعًا أنَّه لم يتقدّمْ أحدٌ إلى عرفةَ قبلَهُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فيفسّر قولُه "من ليلٍ" ليست موضعَ إشكالٍ، "أو نهارٍ" يفسّرُهُ فعلُه عليه الصلاةُ والسلامُ، ولهذا نقولُ: أنَّ الصوابَ أنَّ الوقوفَ بعرفةَ إنَّما يبدأُ وقتُهُ من الزوالِ واللهُ أعلمُ.
– القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
قولُه: "من فجرِ يومِ عرفةَ إلى فجرِ يومِ النحرِ": أفادَنا المؤلّفُ ـ رحمهُ اللهُ ـ أنَّ وقتَ الوقوفِ يبدأُ من فجرِ يومِ عرفةَ، وهذا من مفرداتِ مذهبِ الإمامِ أحمدَ، وجمهورُ العلماءِ على أنَّ وقتَ الوقوفِ يبدأُ من الزوالِ فقط هو روايةٌ عن الإمامِ أحمدَ. وحُجةُ الإمامِ أحمدَ في المشهورِ عنه ـ رحمهُ اللهُ ـ: حديثُ عروةَ بن مضرسٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ أنَّه وافى رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في مزدلفةَ لصلاةِ الصبحِ، وأخبرَهُ ما صنعَ، وأنَّه أتعبَ نفسَهُ وأكلَّ راحلتَه ولم يدعْ جبلًا إلَّا وقفَ عنده، فقالَ له النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "من شهدَ صلاتَنا هذه، ووقفَ معنا حتى ندفعَ، وقد وقفَ قبلَ ذلكَ بعرفةَ ليلًا أو نهارًا فقد تمَّ حجُّه وقضى تفثَهُ"
الشاهدُ قولُه: "ليلًا أو نهارًا"، ولم يقيّدْهُ بما بعدَ الزّوالِ. ومن المعلومِ أنَّ المرادَ بالليلِ هنا ليلةَ العيدِ، لأنَّه وافاهُ في صلاةِ الفجرِ، وأمَّا نهارًا فمنَ المعلومِ أنَّه التاسعُ، وإذا أخذنا بعمومِ الليلِ أخذنا بعمومِ النهارِ، فيكونُ وقتُ الوقوفِ من طلوعِ الفجرِ يومَ عرفةَ، وخصَّهُ بطلوعِ الفجرِ؛ لأنَّ اليومَ الشرعيَّ يبتدئُ من طلوعِ الفجرِ. وحجَّةُ الجمهورِ أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لم يقفْ قبلَ الزوالِ، وقال: "خذوا عنّي مناسككم"، وعليه فيُحملُ قولُه لعروةَ بن مضرّسٍ "وقد وقفَ قبلَ ذلك بعرفةَ ليلًا أو نهارًا" على كونِه مطلقًا يقيَّدُ بفعلِ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، كما أنَّ قولَه: "فقدْ تمَّ حجُّهُ" مقيدٌ بما إذا فعلَ ما بقيَ من أركانِ الحجِّ وواجباتِه، فصارَ الحديثُ ليسَ على ظاهرِهِ وإطلاقِهِ وهذا قويٌّ جدًا.
ولا شكَّ أنَّ هذا القولَ أحوطُ من القولِ بأنَّ النهارَ في هذا الحديثِ يشملُ ما قبلَ الزوالِ.
– الشيخ: يعني لا بدَّ من مراعاةِ سياقِ الكلامِ، الرسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بيّنَ بفعلِهِ وقتَ الوقوفِ وهو من الزوالِ، فقولُهُ لعروةَ يُفسّرُهُ فعلُهُ عليه الصلاةُ والسلامُ، فالصوابُ: ما ذهبَ إليه الجمهورُ، وهو روايةٌ عن الإمامِ أحمدَ.
– مداخلة: قال البليهي:
وعن أحمدَ: أوَّلُ وقتَ الوقوفِ من الزوالِ، واختيارُ الشيخِ تقيّ الدينِ ابنِ تيميةَ رحمهُ اللهُ.
– الشيخ: خلص، هذه الروايةُ الثانيةُ، أحسنتَ جزاكَ اللهُ خيرًا.
– القارئ: وهناك دليلٌ أوردَهُ الشيخُ البليهيُّ قال:
وعن عبدِ الرحمنَ ابنِ يعمرَ أنَّ ناسًا من أهلِ نجدٍ أتوا رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وهو واقفٌ بعرفةَ فسألوه، "فأمرَ مناديًا ينادي: الحجُّ عرفةُ، من جاءَ ليلةَ جمعٍ قبلَ طلوعِ الفجرِ فقد أدركَ" رواهُ أهلُ السننِ، والإمامُ أحمدُ، وابنُ ماجهَ، وابنُ حِبَّانَ، والبيهقيُّ، ورمزَ له السيوطيُّ بالصحّةِ.
– الشيخ: هذا دليلٌ للمسألةِ الآتيةِ، وهي مسألةُ الليلِ، وأنَّ من وقفَ بالليلِ بعرفةَ أجزأه بأيِّ ساعةٍ، يعني من أدركَ عرفةَ من أوّلِ المغربِ، أو بعدَ العشاءِ، إلى ما قُبيلَ الفجرِ، فالحديثُ الذي ذكرتُهُ دليلٌ على أنَّ الوقوفَ بالليلِ يجزئُ بأيِّ ساعةٍ.
– مداخلة: الصورةُ التي ذكرتُموها وهي لمن وقفَ قبلَ الزوالِ وانصرفَ قبلَ الزوالِ؟
– الشيخ: على القولِ الصحيحِ لا يصحُّ حجُّهُ، وهذا يصلحُ للناسِ الذين والعياذُ باللهِ يتصرّفونَ على هواهُم في المناسكِ، يأتي ويمرُّ بعرفةَ بعد الفجرِ ويذهبُ ويذبحُ هديًا، ويقولُ: يذبحُ عن تركِ الوقوفِ إلى الغروبِ وعن المبيتِ بمزدلفةَ، المهمُّ أنَّه أدَّى ركنَ الحجِّ الأعظمَ، وقفَ بعرفةَ ويمكنُ الذهابُ إلى بلادِهِ، هذا تلاعبٌ بعبادةِ اللهِ وأحكامِهِ.
– القارئ: (ومن وقفَ نهارًا، ودفعَ قبلَ الغروبِ، ولم يَعُد قبلَهُ: فعليهِ دمٌ)
– الشيخ: من وقفَ نهارًا بعد الفجرِ، أو وقفَ الضُّحى، أو وقفَ بعدَ الظهرِ، ودفعَ قبلَ غروبِ الشمسِ، ولم يعد إليه فعليه دمٌ لأنَّه تركَ واجبًا، فإنَّ من واجباتِ الحجِّ على ما ذكروا وهو الصحيحُ: الوقوفُ إلى الغروبِ، من وقفَ نهارًا عليه أن يقفَ إلى الغروبِ، فمن دفعَ قبلَ الغروبِ ولم يعد، فمعنى ذلك لو أنَّه وقفَ بعد الظهرِ ثمَّ دفعَ، وبعد ذلك بُيّنَ له أنَّه غَلِطَ أو تندَّمَ ورجعَ قبلَ الغروبِ فلا شيءَ عليه، لكنَّه إذا دفعَ قبلَ الغروبِ ولم يعدْ إليه قبلَ الغروبِ. إذًا: لو لم يعدْ إلَّا بالليلِ يعني عادَ بعدَ المغربِ لم يجزئْهُ لأنَّه فاتَه الوقوفُ الواجبُ وهو الوقوفُ بعرفةَ إلى الغروبِ، فالوقوفُ إلى الغروبِ واجبٌ وهذا حقٌ يؤكدُّهُ أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ وقفَ بالناسِ كلّهم ولم يُرخّصْ لأحدٍ مع حاجةِ الناسِ إلى الدفعِ بالنهارِ لأنَّ ذلكَ أيسرَ عليهم، بل وقفَ حتى غربتِ الشمسُ وذهبتِ الصُّفرةُ، حتى أنَّ بعضَ أهلِ العلمِ قالوا: الوقوفُ إلى الغروبِ ركنٌ.
– القارئ: (ومن وقفَ ليلًا فقط: فلا)
– الشيخ: نفرضُ أنَّ إنسانًا جاءً متأخرًا ووقفَ بعدَ المغربِ ثمَّ دفعَ: فلا شيءَ عليه؛ لأنَّ وقوفَهُ في الليلِ، ومن وقفَ ليلًا فلا.
– مداخلة: الشيخُ ابنُ عثيمينَ تعقَّبَ هذا الكلامَ مذهبيًا ورجّحَ قال:
وقولُه: "ولم يَعُد قبلَهُ": ظاهرُهُ أنَّه لو عادَ بعدَ الغروبِ فعليه دمٌ، مع أنَّ ما بعدَ الغروبِ وقتٌ للوقوفِ، وهذا أحدُ القولينِ في المذهبِ، لكن فيه شيءٌ من مخالفةِ القواعدِ؛ لأنَّه إذا عادَ بعدَ الغروبِ فقد عادَ في وقتِ الوقوفِ، فمُقتضى القياسِ أنَّه لا شيءَ عليه، كما لو عادَ قبلَ الغروبِ، والمشهورُ من المذهبِ طردُ هذه المسألةِ، أي: أنَّ من رجعَ قبلَ أن يطلعَ الفجرُ فليسَ عليه شيءٌ؛ لأنَّه رجعَ في وقتِ الوقوفِ.
– الشيخ: كلامُ الشيخِ فيه تأمُّلٌ، يعني من وقفَ نهارًا عليه أن يبقى، فإذا رجعَ قبلَ الغروبِ يعني صحَّح الخطأ ووقفَ حتى غربتِ الشمسُ كما وقفَ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، أمَّا أنَّه دفعَ ورجعَ في الليلِ هذا فيه تأمُّلٌ.
القارئ: ذكرَ الشيخُ البليهي:
وقوله: "ولم يَعُدْ قبلَهُ فعليهِ دمٌ وحجّه صحيحٌ": وهو قولُ الجماهيرِ من العلماءِ خلافًا لمالكٍ، وعلى الصحيحِ من المذهبِ: إن عادَ إلى عرفةَ ليلًا أو نهارًا فلا شيءَ عليه وهو قولُ الشافعيِّ، وعندَ أبي حنيفةَ: من دفعَ قبلَ الغروبِ لزمَهُ دمٌ، ولا يسقطُ الدمُ برجوعِهِ، ومن أدلّةِ وجوبِ الدمِ: ما روى مالكٌ في الموطّأ والشافعيُّ والبيهقيُّ عن ابنِ عباسٍ أنَّه قال: من نسيَ من نُسُكِهِ شيئًا أو تركَهُ فليُهرقْ دمًا، وذكرَ ابنُ هبيرةَ في الإفصاحِ وابنُ رشدٍ في بدايةِ المجتهدِ عن مالكٍ أنَّ من دفعَ قبلَ الغروبِ ولم يَعُدْ إلى عرفةَ فاتَهُ الحجُّ، ودليلُنا على صحّةِ حجِّ من دفعَ قبلَ الغروبِ حديثُ عروةَ بن مضرّسٍ وتقدَّمَ ذكرُهُ قريبًا.
– مداخلة: الآن بالنسبةِ ليومِ عرفةَ ويومِ النحرِ هذا ألَا يبطلُ القولَ بمسألةِ اختلافِ المطالعِ في إثباتِ رؤيةِ هلالِ شهرِ شوالَ ودخولِ عيدِ الفطرِ؟ يعني أليسَ يومُ عرفةَ واحدٌ في كلِّ مكانٍ، أم أنَّه يختلفُ؟
– الشيخ: لا، حسبَ رؤيتِهِ، يومُ عرفةَ في سائرِ بلادِ المسلمينَ القولُ فيه كالقولِ في شأنِ رمضانَ.
الأسئلة:
س1: هل يُجزئُ للمحلِّ أن يُحرمَ يومَ عرفةَ من عرفةَ؟
ج: نعم، إذا كان ابتدأَ، يعني أنشأَ الحجَّ بعرفةَ نعم يمكنُ، لكن الذي كان مقيمًا بمكةَ لا، لا يذهبُ إلى عرفةَ إلَّا بإحرامٍ، يُحرمُ بمكةَ أو من سائرِ الحرمِ كما تقدّمَ.
– مداخلة: ما هو الدليلُ أنَّه لا يُجزئُهُ إلَّا أنْ يُحرمَ من مكةَ؟ وأليس بالقصدِ يجمع … ولو أنَّه أحرمَ من عرفةَ نقولُ له أنَّه تركَ واجبًا؟
– الشيخ: حديثُ: "حتى أهلُ مكةَ من مكةَ"، وكلمةُ يجمعُ: هذه عبارةٌ فقهيةٌ، ومن أحرمَ من غيرِ مكةَ نقولُ له: تركتَ واجبًا، هذا الذي عندنا، وكأنَّ الشيخَ محمَّدًا رحمهُ اللهُ سهَّلَ فيه، وإن كان يقولُ: ينبغي ألّا يحرمَ إلَّا من مكةَ، فظاهرُ الحديثِ: "حتى أهلُ مكةَ من مكةَ"، فنقولُ: ميقاتُ أهلِ مكةَ هي مكةُ أو سائرُ الحرمِ فالحكمُ واحدٌ، أمَّا أن يخرجَ ويحرمَ بعرفةَ فلا، وذكرتُ لكم ما إن أحرمَ من شميسي أو من جدَّة، خرجَ وأحرمَ من هناك فإنَّه يجزئُهُ لأنَّه سيمرُّ بمكةَ، كمن أحرمَ من دونِ الميقاتِ، ولو أنشأَ النيةَ بعرفةَ فإنَّه يصحُّ.
………………………………………..
س2: هل المطلوبُ شرعًا في عرفةَ الجمعُ بين جزءٍ من الليلِ مع جزءٍ من النهارِ؟
ج: المقصودُ أنَّه يقفُ بعرفةَ إلى الغروبِ كما فعلَ الرسولُ والصحابةُ كلُّهم رضي اللهُ عنهم.
………………………………………..
س3: يوجدُ رجلٌ من أهلِ مكةَ ينفي أنَّ قرنَ الثعالبِ بطريقِ السيلِ، بل يقولُ: أنَّ قرنَ الثعالبِ بمنى، فما هو الصحيحُ في ذلك؟
ج: واللهِ لا أدري، قرنُ الثعالبِ اسمه: قرنُ المنازلِ، "ولأهلِ نجدٍ قرنٌ"، قال العلماءُ: المرادُ قرنُ المنازلِ، فإن كان هو قرنُ الثعالبِ فذاك، وإلَّا فيصبحُ هناك اثنين، وأنا لا أدري هل هما واحدٌ أم اثنانِ.
………………………………………..
س4: ما حكمُ المبيتِ في العزيزيةِ أيامَ التشريقِ؟
ج: من لم يجدْ له منزلًا في مِنى فيجزئُ أن ينزلَ في العزيزيةِ أو غيرِها، وأقولُ أيضًا: الذي ليس له مخيّمٌ أو منزلٌ، فإنَّه لا يلزمُهُ أن ينامَ على الرصيفِ والطرقاتِ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
………………………………………..
س5: هل تُضاعَفُ الأعمالُ الصالحةُ في الحرمِ أم الصلاةُ فقط؟
ج: المضاعفةُ المقدّرةُ خاصَّةٌ بالصلاةِ، أمَّا المضاعفةُ العامَّةُ فالعبادةُ في الحرمِ أفضلُ منها في غيرِ الحرمِ، لكن لا نقولُ أنَّ تسبيحَه بمئةِ ألفِ تسبيحةٍ، أو صيامُ يومٍ في مكةَ يعدلُ صيامَ مئةِ ألفِ يومٍ، هذا التقديرُ جاءَ في الصلاةِ.
………………………………………..
س6: هل الحرمُ البلدُ أم المسجدُ؟
ج: الحرمُ اسمٌ للمكانِ الذي حرّمَ اللهُ فيه ما حرّمَ من تنفيرِ الصيدِ، من تحريمِ التقاطِ اللقطةِ، الحرمُ اسمٌ واسعٌ، وكأنَّ السائلَ يقولُ: فضيلةُ الصلاةِ المقدّرةِ بمئةِ ألفِ صلاةٍ مثلًا هل هذا التفضيلُ لسائرِ الحرمِ أم أنَّ هذا خاصٌّ بالمسجدِ، هذه هي المسألةُ التي اختلفَ فيها الناسُ، فجمهورُ أهلِ العلمِ يقولونَ: أنَّ هذا التفضيلَ شاملٌ لكلِّ الحرمِ، والقولُ الآخرُ: أنَّ هذا التفضيلَ المقدّرَ المتعلّقَ بالصلاةِ خاصٌّ بالمسجدِ وهذا هو الصحيحُ عندي، وإذا أردتَ فضيلةَ الصلاةِ فصلّي في المسجدِ، والموازنةُ بين المسجدِ ومسجدِ الرسولِ أو سائرِ المساجدِ، وليستِ الموازنةُ بين العزيزيةِ ومسجدِ الرسولِ.
………………………………………..
س7: المرورُ بالمروحيةِ على عرفةَ هل يُجزئُ ذلك قياسًا على السعي والطوافِ……؟
ج: إذا جاءَنا واحدٌ من العسكريين ليسألَنا سوفَ نُجيبُه إ ن شاءَ اللهُ.
………………………………………..
س8: أنا مقيمٌ وأعملُ في مكةَ وحججتُ ولم أطفْ طوافَ الوداعِ، فطُلبتُ بإمامةِ مسجدٍ في مدينةٍ بمسافةِ ثلاثينَ كيلو متر خارجَ الحرمِ لمدةِ أسبوعين، فلمّا رجعتُ إلى مكةَ طفتُ طوافَ الوداعِ، هل فعلي صحيحٌ؟
ج: المعروفُ أنَّ الوداعَ على الآفاقيين لا على المقيمينَ بمكةَ، وأهلُ مكةَ ليسَ عليهم وداعٌ، وأنت مقيمٌ في مكةَ، وسفرُكَ هذا عارضٌ، فأرجو أنَّ ما فعلتَه مجزئٌ أو أنَّه لا وداعَ عليكَ أصلًا.