الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة سبأ/(10) من قوله تعالى {قل إنما أعظكم بواحدة} الآية 46 إلى قوله تعالى {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} الآية 54
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(10) من قوله تعالى {قل إنما أعظكم بواحدة} الآية 46 إلى قوله تعالى {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} الآية 54

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة سبأ

الدَّرس: العاشر

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ:

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ*قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [سبأ:46-54]

– الشيخ : الله أكبر، لا إله إلا الله. يأمرُ اللهُ نبيَه أنْ يُبَلِّغَ المشركين المكذِّبين -المكذِّبين لَه- ويدعُوهم إلى شيءٍ واحدٍ، {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} ويأمرُهم ويُذكِّرُهُم أنْ يفعلُوا شيئاً {أَنْ تَقُومُوا} هذا هو الشيءُ المطلوبُ {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} يعني: طائِعِين مُطيعِين لله ومُخلصِين لله.

{أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى} يعني: اثنين اثنين {وَفُرَادَى} واحد واحد {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} إذاً المطلوبُ: أنْ يَتَفَكَّرُوا فُرَادَى أو جماعةً، منفردِين أو مجتمعِين، أنْ يَتَفَكَّرُوا في شأنِ محمدٍ.

{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} يعني: سُفَهَاؤهم وجُهَّالُهم والـمُستكبرون رَمَوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بالجنونِ -صلى الله عليه وسلم- {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51] فالله نزَّهَهُ، ولكنْ هنا يَدعوهم إلى التفكُّرِ، يعني: هذا الرسولُ المعروفُ بالخُلُقِ والأمانةِ والسِّيرةِ الحميدةِ، تقولون: أنَّه مجنون! تَفَكَّرُوا: تأمَّلُوا {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} كما يزعُمُ السُّفهاءُ والجُهَّال والضُلَّالُ، ما بِه جِنَّةٌ، ما بهِ جنونٌ.

{إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} مَا هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ {نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} العذابُ الشديدُ هو ما سَيَلْقَونَه إنْ لم يتوبوا، ما سَيَلْقَونَه في الدنيا وفي الآخرة، فاللهُ أرسلَ محمداً -صلى الله عليه وسلم- بشيراً ونذيراً بين يَدَي الساعةِ، بين يَدَي الساعةِ يعني: قبلَ الساعةِ {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}

ثمَّ يأمرُ اللهُ نبيَه أن يقولَ لهمْ ما سألتكمْ على دعوتي ونذَارتي لكمْ ما سألتُكم مِن أجرٍ {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} قلْ لهمْ: الذي طلبتُ منكمْ هو لكمْ إنْ كنتُ سألتُكم أجراً، فما سألتُكم مِن أجرٍ هو لكم {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} كلّ الآية {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ}.

 

– القارئ : {فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}

– الشيخ : {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} لا أطلبُ الأجرَ إلا مِن اللهِ، وهذا هو شَأنُ الرُّسلِ كلِّهم -كلُّ الرسل- هذا سبيلُهم يدعونَ الناسَ؛ نصيحةً لهم، يدعون الناس؛ نُصْحاً لهمْ، وإحسانًا إليهم ورغبةً في نجاتِهم، لا يَطلبون مِن الناس أجرًا، لا يريدون مِن الناسِ نفعاً، هذا سبيلُ الرُّسُلِ كلِّهم.

اقرؤوا سورةَ الشعراء، نجدُ أنَّ هذا المعنى قد ذُكِرَ في قصةِ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109-131-150-164-180] سبحان اللهّ! شيء مُطَّردٌ في شأن الرسل: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ*قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} جاء الحقُّ، وهو ما جاءَ به الرسولُ مِن الهدى ودينِ الحَقِّ، وما جاءَ بِه مِن القرآن، وجاءَ أيضاً ما وُعِدُوا به.

يعني اليومُ الآخرُ جاءَ كقولِه: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] تعبيرٌ عَن أمرٍ مُسْتَقْبَلٍ بلفظِ الماضي؛ للدَّلالةِ على تَحَقُّقِهِ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [يس:51] {نُفِخَ} المعنى: أنه سَيُنْفَخُ في الصُّورِ، لكن هو أمرٌ مُحقَّقٌ.

{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ*قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} إنِ اهْتَدَيْتُ فذلكَ فضلٌ مِن اللهِ بما أعطاني مِن العلمِ وما أنزلَ عليَّ مِن الوحي {فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}

ثم يُذَكر الله -تعالى- حالَ الـمُكذِّبين حينما يحلُّ بهمُ النَّكَالُ، وما يحصلُ لهم مِن الفَزَعِ والذُّعْرِ الشديدِ {وَلَوْ تَرَى} هذا تصويرٌ للمشهدِ العظيمِ الهائلِ {لَوْ} كقوله {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27] {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] يعني: لرأيتَ أمراً هائلًا وأمراً عظيماً مُفْزِعَاً {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ*وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} {وَقَالُوا آمَنَّا بِه} بعدَ ماذا؟ {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [غافر:84]  لا إله إلا الله {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ}

{وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} هيهات قد فاتَ الفَوْتُ، فاتَ الأمرُ، فلا يُمكن التَّدَاركُ بعدَ نزولِ العذابِ {فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ*وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}

ثم قال: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} ذهبتِ الدنيا بما فيها من الشَّهواتِ، وذهبَ الأمرُ الذي قدْ آثَرُوهُ على ما هُو خيرٌ لهمْ، فآثَرُوا الدنيا على الآخرةِ، وآثروا الكفرَ على الإيمانِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} [البقرة:175]

{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} يعني: أنَّ هذا سنةٌ في المكذِّبين، كما فُعِلَ بالأممِ التي قَصَّ اللهُ علينا أخبارَهم في غيرِ ما سورة، سورةُ هودٍ والأعرافُ والشُّعراء وغيرُها. نعم يا محمد. لا إله إلا الله.

 

 (تفسيرُ السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمن السعدي -رحمَه الله تعالى- في تفسيرِ قولِ الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} الآيات.

أي: أَيْ قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ، الْمُتَصَدِّينَ لِرَدِّ الْحَقِّ وَتَكْذِيبِهِ، وَالْقَدْحِ بِمَنْ جَاءَ بِهِ: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أَيْ: بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، أُشِيرُ عَلَيْكُمْ بِهَا، وَأَنْصَحُ لَكُمْ فِي سُلُوكِهَا، وَهِيَ طَرِيقٌ نَصَفٌ، لَسْتُ أَدْعُوكُمْ بِهَا إِلَى اتِّبَاعِ قَوْلِي، وَلَا إِلَى تَرْكِ قَوْلِكُمْ، مِنْ دُونِ مُوجِبٍ لِذَلِكَ، وَهِيَ: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} أَيْ: تَنْهَضُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَقَصْدٍ لِاتِّبَاعِ الصَّوَابِ، وَإِخْلَاصٍ لِلَّهِ مُجْتَمِعِينَ وَمُتَبَاحِثِينَ فِي ذَلِكَ وَمُتَنَاظِرِينَ، وَفُرَادَى، كُلُّ وَاحِدٍ يُخَاطِبُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، فَإِذَا قُمْتُمْ لِلَّهِ، مَثْنَى وَفُرَادَى، اسْتَعْمَلْتُمْ فِكْرَكُمْ، وَأَجَّلْتُمُوهُ، وَتَدَبَّرْتُمْ أَحْوَالَ رَسُولِكُمْ، هَلْ هُوَ مَجْنُونٌ، فِيهِ صِفَاتُ الْمَجَانِينِ مِنْ كَلَامِهِ، وَهَيْئَتِهِ، وَصِفَتِهِ؟ أَمْ هُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، مُنْذِرٌ لَكُمْ مَا يَضُرُّكُمْ، مِمَّا أَمَامَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ؟

فَلَوْ قَبِلُوا هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ، وَاسْتَعْمَلُوهَا، لَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَنَّ رَسُولَ -اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْسَ بِمَجْنُونٍ؛ لِأَنَّ هَيْئَاتِهِ لَيْسَتْ كَهَيْئَاتِ الْمَجَانِينِ، فِي خَنْقِهِمْ، وَاخْتِلَاجِهِمْ، وَنَظَرِهِمْ، بَلْ هَيْئَتُهُ أَحْسَنُ الْهَيْئَاتِ، وَحَرَكَاتُهُ أَجَلُّ الْحَرَكَاتِ، وَهُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ، أَدَبًا، وَسَكِينَةً، وَتَوَاضُعًا، وَوَقَارًا، لَا يَكُونُ إِلَّا لِأَرْزَنِ الرِّجَالِ عَقْلًا.

ثُمَّ إِذَا تَأَمَّلُوا كَلَامَهُ الْفَصِيحَ، وَلَفْظَهُ الْمَلِيحَ، وَكَلِمَاتِهِ الَّتِي تَمْلَأُ الْقُلُوبَ أَمْنًا وَإِيمَانًا، وَتُزَكِّي النُّفُوسَ، وَتُطَهِّرُ الْقُلُوبَ، وَتَبْعَثُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَتَحُثُّ عَلَى مَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَتُرْهِبُ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَرَذَائِلِهَا، إِذَا تَكَلَّمَ رَمَقَتْهُ الْعُيُونُ، هَيْبَةً وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا.

فَهَلْ هَذَا يُشْبِهُ هَذَيَانِ الْمَجَانِينِ، وَعَرْبَدَتَهُمْ، وَكَلَامَهُمُ الَّذِي يُشْبِهُ أَحْوَالَهُمْ؟

فَكُلُّ مَنْ تَدَبَّرَ أَحْوَالَهُ وَقَصْدُهُ اسْتِعْلَامُ هَلْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ أَمْ لَا؟ سَوَاءٌ تَفَكَّرَ وَحْدَهُ، أَوْ مَعَهُ غَيْرُهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَنَبِيُّهُ صِدْقًا، خُصُوصًا الْمُخَاطِبِينَ،

– الشيخ : خلاصةُ القولِ: فَكِّروا، فَكِّروا فيما تقولونهَ وفيمَا يُقَالُ عنه، فَكِّروا هلْ هذا يصحُّ في العقولِ أنْ يُقالَ لمثلِ الرسولِ مجنون؟! هذا شيءٌ لا يُعقَلُ، فَكِّروا، والتفكير الصادق يُوصِلُ بتوفيقِ اللهِ إلى معرفةِ الحقيقةِ ومعرفةِ الأمرِ على ما هو عليهِ.

لكن مِن أعظمِ البلاءِ الإعراضُ، مِن أعظمِ البلاءِ الذي يحولُ بينَ الإنسانِ وبينَ معرفةِ الحقِّ هو أن يُعرِضَ ما يُفَكِّر، يُقالُ لَه: تفضلْ اسمعْ. فَيَسُدُّ أُذُنَيْهِ، ما يريد يسمع. اسمعْ، ولهذا يقول الله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7].

 

– القارئ : الَّذِي هُوَ صَاحِبُهُمْ يَعْرِفُونَ أَوَّلَ أَمْرِهِ وَآخِرَهُ.

وَثَمَّ مَانِعٌ لِلنُّفُوسِ آخَرُ عَنِ اتِّبَاعِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ أَنَّهُ يَأْخُذُ أَمْوَالَ مَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُ، وَيَأْخُذُ أُجْرَةً عَلَى دَعْوَتِهِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ -تَعَالَى- نَزَاهَةَ رَسُولِهِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أَيْ: عَلَى اتِّبَاعِكُمْ لِلْحَقِّ

– الشيخ : يعني: هذا على تقديرِ أنه ما سألَهم، هو ما سألَهم، هو ما سألَهم أجرًا، لكن يقولُ: ما سألتُكم، إنْ كنتُ سألتُكم شيئاً فهو لكمْ. ما سألتُكم يعني: الذي سألتُكم إيَّاه مِن أجرٍ فهو لكمْ، معناهُ: أني لا أطلب على دعوتي ونِذَارتي أجرًا.

 

– القارئ : {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أَيْ: عَلَى اتِّبَاعِكُمْ لِلْحَقِّ {فَهُوَ لَكُمْ} أيْ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَجْرَ -عَلَى التَّقْدِيرِ- أَنَّهُ لَكُمْ،

– الشيخ : لا، على تقديرِ أني سألتُكم أجراً، على تقديرِ، هذا شيءٌ مُقَدَّرٌ، ولَّا هو ما سألَهم أجراً ولا أخذَ أجراً، هذا معنى على التقديرِ، على الفَرَضِ، فَرَض {قُلْ مَا سَأَلتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} يعني: على فرضِ أني سألتُ فهو لكمْ.

 

– القارئ : {إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ: مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِمَا أَدْعُو إِلَيْهِ، فَلَوْ كُنْتُ كَاذِبًا، لَأَخَذَنِي بِعُقُوبَتِهِ، وَشَهِيدٌ أَيْضًا عَلَى أَعْمَالِكُمْ، سَيَحْفَظُهَا عَلَيْكُمْ، ثُمَّ يُجَازِيكُمْ بِهَا.

وَلَمَّا بَيَّنَ الْبَرَاهِينَ الدَّالَّةَ عَلَى صِحَّةِ الْحَقِّ، وَبُطْلَانِ الْبَاطِلِ، أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ هَذِهِ سُنَّتُهُ وَعَادَتُهُ أَنْ يَقْذِفَ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ مِنَ الْحَقِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَرَدَّ بِهِ أَقْوَالَ الْمُكَذِّبِينَ، مَا كَانَ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَآيَةً لِلْمُتَأَمِّلِينَ.

فَإِنَّكَ كَمَا تَرَى كَيْفَ اضْمَحَلَّتْ أَقْوَالُ الْمُكَذِّبِينَ، وَتَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ وَعِنَادُهُمْ، وَظَهَرَ الْحَقُّ وَسَطَعَ، وَبَطَلَ الْبَاطِلُ وَانْقَمَعَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ بَيَانِ عَلامِ الْغُيُوبِ الَّذِي يَعْلَمُ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ الْقُلُوبُ مِنَ الْوَسَاوِسِ وَالشُّبَهِ، وَيَعْلَمُ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، وَيَدْفَعُهُ مِنَ الْحُجَجِ فَيُعْلِمُ بِهَا عِبَادَهُ، وَيُبَيِّنُهَا لَهُمْ.

وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} أَيْ: ظَهَرَ وَبَانَ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ، وَظَهَرَ سُلْطَانُهُ، {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أَيِ: اضْمَحَلَّ وَبَطَلَ أَمْرُهُ، وَذَهَبَ سُلْطَانُهُ، فَلَا يُبْدِئُ وَلَا يُعِيدُ.

وَلَمَّا تَبَيَّنَ الْحَقُّ بِمَا دَعَا إِلَيْهِ الرَّسُولُ، وَكَانَ الْمُكَذِّبُونَ لَهُ، يَرْمُونَهُ بِالضَّلَالِ، أَخْبَرَهُمْ بِالْحَقِّ، وَوَضَّحَهُ لَهُمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ عَجْزَهُمْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَمْيَهُمْ لَهُ بِالضَّلَالِ، لَيْسَ بِضَائِرِ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَا دَافِعِ مَا جَاءَ بِهِ.

وَأَنَّهُ إِنْ ضَلَّ -وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ فِي الْمُجَادَلَةِ- فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَى نَفْسِهِ، أَيْ: ضَلَالُهُ قَاصِرٌ عَلَى نَفْسِهِ، غَيْرُ مُتَعَدٍّ إِلَى غَيْرِهِ.

{وَإِنِ اهْتَدَيْتُ} فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِي وَحَوْلِي وَقُوَّتِي، وَإِنَّمَا هِدَايَتِي {بِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فَهُوَ مَادَّةُ هِدَايَتِي، كَمَا هُوَ مَادَّةُ هِدَايَةِ غَيْرِي. {إِنَّ رَبِّي سَمِيعٌ} لِلْأَقْوَالِ وَالْأَصْوَاتِ كُلِّهَا، {قَرِيبٌ} مِمَّنْ دَعَاهُ وَسَأَلَهُ وَعَبَدَهُ.

قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} الآيات.

يقول تعالى: {وَلَوْ تَرَى} أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَمَنْ قَامَ مَقَامَكَ، حَالَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ، {إِذْ فَزِعُوا} حِينَ رَأَوُا الْعَذَابَ، وَمَا أَخْبَرَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَمَا كَذَّبُوا بِهِ، لَرَأَيْتَ أَمْرًا هَائِلًا وَمَنْظَرًا مُفْظِعًا، وَحَالَةً مُنْكَرَةً، وَشِدَّةً شَدِيدَةً، وَذَلِكَ حِينَ يَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ. فلا فواتَ عَنْهُ وَلَيْسَ لَهُمْ عَنْهُ مَهْرَبٌ، {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} أَيْ: لَيْسَ بَعِيدًا عَنْ مَحَلِّ الْعَذَابِ، بَلْ يُؤْخَذُونَ، ثُمَّ يُقْذَفُونَ فِي النَّارِ.

{وَقَالُوا} فِي تِلْكَ الْحَالِ: {آمَنَّا} بِاللَّهِ وَصَدَّقْنَا مَا {بِهِ} كَذَّبْنَا {وَ} لَكِنْ {أَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} أَيْ: تَنَاوُلُ الْإِيمَانِ {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَصَارَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَالَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

فَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَقْتَ الْإِمْكَانِ، لَكَانَ إِيمَانُهُمْ مَقْبُولًا وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ أَيْ: يَرْمُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ بِقَذْفِهِمُ الْبَاطِلَ، لِيَدْحَضُوا بِهِ الْحَقَّ، وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا لَا سَبِيلَ لِلرَّامِي، مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ إِلَى إِصَابَةِ الْغَرَضِ، فَكَذَلِكَ الْبَاطِلُ، مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَغْلِبَ الْحَقَّ أَوْ يَدْفَعَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ صَوْلَةٌ، وَقْتَ غَفْلَةِ الْحَقِّ عَنْهُ، فَإِذَا بَرَزَ الْحَقُّ، وَقَاوَمَ الْبَاطِلَ قَمَعَهُ.

{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْخَدَمِ، وَالْجُنُودِ، قَدِ انْفَرَدُوا بِأَعْمَالِهِمْ، وَجَاءُوا فُرَادَى كَمَا خُلِقُوا وَتَرَكُوا مَا خَوَّلُوا، وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنَ قَبْلُ} أي: من الْأُمَمِ السَّابِقِينَ حِينَ جَاءَهُمُ الْهَلَاكُ، {حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}، إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ أَيْ: مُحْدَثِ الرِّيبَةِ وَقَلَقِ الْقَلْبِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَلَمْ يُعْتَبُوا حِينَ اسْتَعْتَبُوا.

تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ سَبَأٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَالْفَضْلُ، وَمِنْهُ الْعَوْنُ، وَعَلَيْهِ التَّوَكُّلُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.

انتهى.