الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الشورى/(10) من قوله تعالى {استجيبوا لربكم} الآية 47 إلى قوله تعالى {صراط الله الذي له ما في السماوات} الآية 53
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(10) من قوله تعالى {استجيبوا لربكم} الآية 47 إلى قوله تعالى {صراط الله الذي له ما في السماوات} الآية 53

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الشُّورى

الدَّرس: العاشر

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:47-53]

الشيخ : لا إله إلَّا الله، الحمدُ للهِ {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} أمرٌ من اللهِ للنَّاس كلِّهم أن يستجيبوا له بالإيمانِ به وبرسوله وباتباعِه صلَّى الله عليه وسلَّم {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} أجيبوا أجيبوا دعوتَه، فالنَّاسُ منهم من استجابَ وأَنَابَ، وآمنَ واتَّبعَ الرسولَ وأطاعَ، ومنهم من أعرضَ ولم يستجبْ، وهذا المعنى يأتي في القرآن كثيراً، وهذه عادةُ الأممِ إذا جاء الرسولُ يصيرون فريقين: منهم من يستجيبُ -وهم القليلُ- ومنهم من يُعرضُ ويستكبرُ.

{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} ولتأكيد الأمرِ بالاستجابة يذكرُهم اللهُ باليوم العظيمِ الَّذي أمامَهم {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} يومٌ، يومٌ عظيمٌ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} وفي ذلك اليومِ لا ملجأَ ولا مفرَّ، لا إله إلَّا الله.

{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} قال اللهُ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا} يعني: ولم يستجيبوا، فلن يضرُّوا اللهَ شيئاً، وما أنتَ بمسؤولٍ عنهم، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} ما عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}

{وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} يذكر الله هذه الحالة من حالات الإنسان، أنه إن مسه من الله رحمة وخير فرح وبطر وأشر، وإن أصابته مصيبة كفر بنعمة الله، {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ}

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هو خالقُها ومدبِّرُها فله الملكُ وله الحكمُ وهو المعبودُ بحقٍّ، لا ربَّ غيرُه، ولا إلهَ سواه {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ} هذا من جملةِ خلقِه ما يشاءُ، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ومن ذلك خلقُه للنَّسلِ والذُّريَّةِ كيفَ شاءَ، فهذا يعطيه بناتٌ محضٌ، بناتٌ فقط ليس فيهنَّ ذكرٌ، ومنهم من يعطيه أبناءٌ ذكورٌ لا إِنَاثًا معهم، ومنهم من يعطيه من النوعين {يُزَوِّجُهُمْ} يعني: ينوِّعهم، يجعلُهم نوعين: ذكوراً وإِنَاثًا، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} فهذا راجعٌ إلى تدبيرِه تعالى وحكمته، مثلَ ما أنَّه يبسطُ الرِّزقَ لمن يشاءُ ويقدرُ، ويرفعُ ويخفضُ كذلك في أمرِ الذُّريَّةِ.

{وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} لا يأتيه نسلٌ أصلاً، سبحانَ اللهِ، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} اللهُ يتكلَّمُ بما شاءَ، ويُكلِّمُ مَن شاءَ، هذه عقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ اللهَ يتكلَّمُ بمشيئةٍ، وهذا هو الكمالُ، هذا هو الكمالُ، فمن يتكلَّمُ أكملُ ممَّن لا يتكلَّمُ.

وقد ضلَّ الَّذين زعمُوا أنَّ تعالى لا يتكلَّمُ ولا تقومُ به صفةُ الكلامِ، لا إله إلَّا الله، وقد اضطربَت الأمَّةُ والفرقُ في هذه المسألةِ، وهدى اللهُ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ للحقِّ الَّذي دلَّ عليهِ كتابُ اللهِ وسنَّةُ رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وأجمعَ على ذلك سلفُ الأمَّةِ، سبحان الله.

اللهُ يتكلَّمُ، لكنَّه أخبَر بأنَّه لا يكلِّمُ بشراً كفاحاً يعني: بلا واسطةٍ وبلا حجابٍ، بل إنَّما يكلِّمُ من شاءَ من وراء حجابٍ، كما كلَّمَ موسى، كلَّمَ موسى من غير رؤيةٍ، ولهذا قالَ موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} فكلَّمَ موسى مباشرةً، يعني: منه إليه لا بواسطةٍ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]

{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} وهذا حالُ جميعِ الرسلِ، يرسلُ إليهم رسوله من الملائكةِ بما شاءَ من الوحي، {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}

ثمَّ قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} كما أوحى إلى من تقدَّمَ من الرسلِ، كما قالَ تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] كذلك أوحى له.

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} والروحُ الَّذي أوحاه اللهُ إليه، هو ذلك العلمُ، الَّذي تضمَّنَه الكتابُ والحكمةُ {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فالسُّنَّةُ وحيٌ كذلك كالقرآن، كلاهما وحيٌ من اللهِ {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}

{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} الرَّسولُ قبلَ أن يأتيَه الوحي ما كان يدري شيئاً، فجاءَ بهذا القرآنِ العظيمِ الَّذي تحدَّى اللهُ به الثقلَينِ -الجن والإنس-، فجاءَ به النبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} فهذا القرآنُ نورٌ يهدي به اللهُ من شاءَ من العبادِ، {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ} {فَآمِنُوا بِاللَّهِ}

يقولُ تعالى في الآيةِ الأخرى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن:8] هذا معناه الإيمانُ باللهِ ورسولِه وكتابِه، باللهِ ورسولِه وكتابِه.

{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الرسولُ لما جاءَه القرآنُ، لما أنزلَ اللهُ عليه الوحيَ، اهتدى به، وصار يهدي به، يهدي إلى الصِّراطِ المستقيمِ، وذلكَ بالدَّعوة إلى الله، يدعو الله، وهذه هي الدَّعوةُ إلى الصِّراطِ المستقيمِ، يدعو إلى دين اللهِ، يدعو إلى عبادة اللهِ وحدَه لا شريكَ له، هذا هو الصِّراطُ المستقيمُ، يدعو إلى طاعة اللهِ، إلى امتثال أوامره تعالى.

{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهذا الصِّراطُ هو صراطُ اللهِ، هو دينُه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:163] وهذا الصِّراطُ هو صراطُ اللهِ الَّذي شرعَه لعباده، هو دينُ اللهِ الَّذي لا يُقبَلُ من أحدٍ ديناً سواه، وهم صراط الـمُنعَم عليهم {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] كما في سورةِ الفاتحةِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]

هذا الصِّراطُ هو الَّذي يدعو إليه الرسولُ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} فهذا الصِّراطُ الَّذي في كل ركعة نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هو صراطُ اللهِ، هو الصِّراطُ الَّذي يدعو إليه الرسولُ -عليه الصلاة والسلام-، هو صراطُ الـمُنعَمِ عليهم.

{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} تنتهي الأمورُ كلُّها إليه، تصيرُ الأمورُ إلى الله، {إِلَى اللَّهِ} تقديمُ الجارِّ والمجرورِ يدلُّ على الحصرِ، {إِلَى اللَّهِ} لا إلى غيرِه تنتهي الأمورُ، فإليه المنتهى وإليه المصيرُ {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] إليك المرجعُ والمآبُ.

ويُلاحَظُ أنَّ السورةَ -سبحان الله- خُتِمَتْ بمثل ما بُدِئَتْ به، فبدأتْ بذكرِ الوحي وذكرِ القرآنِ وذكرِ ملكِ الله للسمواتِ والأرضِ، تأمَّلوا الآياتِ الأولى من هذه السورةِ {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى:1-4] إلى قولِه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} [الشورى:7]

مع الآياتِ في آخرها تماماً، ففي تناسب بينَ آخرِ السورةِ وأوَّلِها.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ رحمَهُ اللهُ تعالى في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ}

يأمرُ تعالى عبادَهُ بالاستجابةِ لهُ، بامتثالِ ما أمرَ بهِ، واجتنابِ ما نهى عنهُ، وبالمبادرةِ بذلكَ وعدمِ التَّسويفِ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْم} القيامةِ الَّذي إذا جاءَ لا يمكنُ ردُّهُ واستدراكُ الفائتِ، وليسَ للعبدِ في ذلكَ اليومِ ملجأٌ يلجأُ إليهِ، فيفوتُ ربَّهُ، ويهربُ منهُ.

بل قد أحاطَتْ الملائكةُ بالخليقةِ مِن خلفِهم، ونُودوا {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] وليسَ للعبدِ في ذلكَ اليومِ نكيرٌ لما اقترفَهُ وأجرمَهُ، بل لو أنكرَ لشهدَتْ عليهِ جوارحُهُ.

وهذهِ الآيةُ ونحوها، فيها ذمُّ الأملِ، والأمرُ بانتهازِ الفرصةِ في كلِّ عملٍ يعرضُ للعبدِ، فإنَّ للتَّأخيرِ آفاتٌ

الشيخ : نسألُ اللهَ العافيةَ، التسويفُ التسويفُ من أعظمِ الأدواءِ والمصائب وأسبابِ الحرمان! التسويف! بادرْ، بادرْ في كلِّ عملٍ صالحٍ بادرْ إليهِ، لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله، ما أعظمَ التفريطَ! لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، اللَّهمَّ غفراً، اللَّهمَّ غفراً، اللَّهمَّ غفراً، سبحان الله العظيم، لا إله إلَّا الله.

(اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ مرضكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ..) إلى آخره، المهمُّ المبادرةُ، الحياةُ، هذه الحياةُ، المبادرةُ بالأعمال الصَّالحةِ، (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالحةِ، فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ..) الحديث

 

القارئ : {فَإِنْ أَعْرَضُوا} عمَّا جئتَهم بهِ بعدَ البيانِ التَّامِّ {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تحفظُ أعمالَهم وتُسأَلُ عنها، {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} فإذا أدَّيْتَ ما عليكَ، فقد وجبَ أجرُكَ على اللهِ، سواءٌ استجابُوا أم أعرضُوا، وحسابُهم على اللهِ الَّذي يَحفظُ عليهم صغيرَ أعمالِهم

الشيخ : {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} [الغاشية:21-24]

 {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ}

 – القارئ : الَّذي يَحفظُ عليهم صغيرَ أعمالِهم وكبيرَها

الشيخ : يا اللهُ، يا اللهُ

القارئ : وظاهرَها وباطنَها.

ثمَّ ذكرَ تعالى حالةَ الإنسانِ، وأنَّهُ إذا أذاقَهُ اللهُ رحمةً، مِن صحَّةِ بدنٍ، ورزقٍ رغدٍ، وجاهٍ ونحوِهِ {فَرِحَ بِهَا} أي: فرحَ فرحاً مقصوراً عليها، لا يتعدَّاها، ويلزمُ مِن ذلكَ طمأنينتُهُ بها، وإعراضُهُ عن المنعمِ.

{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي: مرضٌ أو فقرٌ، أو نحوُهما {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ} أي: طبيعتُهُ كفرانُ النِّعمةِ السَّابقةِ، والتَّسخُّطِ لما أصابَهُ مِن السَّيِّئةِ.

قالَ اللهُ تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} الآياتَ.

هذهِ الآيةُ فيها الإخبارُ عن سعةِ ملكِهِ تعالى، ونفوذِ تصرُّفِهِ في الملكِ في الخلقِ لما يشاءُ، والتَّدبيرُ لجميعِ الأمورِ، حتَّى إنَّ تدبيرَهُ تعالى، مِن عمومِهِ، أنَّهُ يتناولُ المخلوقةَ عن الأسبابِ الَّتي يباشرُها العبادُ، فإنَّ النِّكاحَ مِن الأسبابِ لولادةِ الأولادِ، فاللهُ تعالى هوَ الَّذي يعطيهم مِن الأولادِ ما يشاءُ.

فمِن الخلقِ مَن يهبُ لهُ إناثاً، ومنهم مَن يهبُ لهُ ذكوراً، ومنهم مَن يزوِّجُهُ، أي: يجمعُ لهُ ذكوراً وإناثاً، ومنهم مَن يجعلُهُ عقيماً لا يُولَدُ لهُ.

{إِنَّهُ عَلِيمٌ} بكلِّ شيءٍ {قَدِيرٌ} على كلِّ شيءٍ، فيتصرَّفُ بعلمِهِ وإتقانِهِ الأشياءَ، وبقدرتِهِ في مخلوقاتِهِ.

قالَ اللهُ تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} الآياتَ.

لمَّا قالَ المكذِّبونَ لرسلِ اللهِ، الكافرونَ باللهِ: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} من كِبْرِهم وتجبُّرِهم، ردَّ اللهُ عليهم بهذهِ الآيةِ الكريمةِ، وأنَّ تكليمَهُ تعالى لا يكونُ إلَّا لخواصِ خلقِهِ، للأنبياءِ والمُرسلينَ، وصفوتِهِ مِن العالمينَ، وأنَّهُ يكونُ على أحدِ هذهِ الأوجهِ:

إمَّا أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ وَحْيًا بأنْ يلقيَ الوحيَ في قلبِ الرَّسولِ، مِن غيرِ إرسالِ ملكٍ، ولا مخاطبةٍ منه مشفاهةً.

{أَوْ} يكلِّمَهُ منهُ شفاهاً، لكنْ {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} كما حصلَ لموسى بنِ عمرانَ، كليمِ الرَّحمنِ.

{أَوْ} يكلِّمُهُ اللهُ بواسطةِ الرَّسولِ الملكيِّ، فـ {يُرْسِلَ رَسُولا} كجبريلَ أو غيرِهِ مِن الملائكةِ.

{فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ} أي: بإذنِ ربِّهِ، لا بمجرَّدِ هواهُ، {إِنَّهُ} تعالى عليُّ الذَّاتِ، عليُّ الأوصافِ، عظيمُها، عليُّ الأفعالِ، قد قهرَ كلَّ شيءٍ، ودانَتْ لهُ المخلوقاتُ. حكيمٌ في وضعِهِ كلَّ شيءٍ في موضعِهِ، مِن المخلوقاتِ والشَّرائعِ، {وَكَذَلِكَ} حينَ أوحيْنا إلى الرُّسلِ قبلَكَ {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} وهوَ هذا القرآنُ الكريمُ، سمَّاهُ روحاً، لأنَّ الرُّوحَ يحيا بهِ الجسدُ، والقرآنُ تحيا بهِ القلوبُ والأرواحُ، وتحيا بهِ مصالحُ الدُّنيا والدِّينِ، لـما فيهِ مِن الخيرِ الكثيرِ والعلمِ الغزيرِ.

وهوَ محضُ منَّةِ اللهِ على رسولِهِ وعبادِهِ المؤمنينَ، مِن غيرِ سببٍ منهم، ولهذا قالَ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي} أي: قبلَ نزولِهِ عليكَ {مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ} أي: ليسَ عندَكَ علمٌ بأخبارِ الكتبِ السَّابقةِ، ولا إيمانٌ وعملٌ بالشَّرائعِ الإلهيَّةِ، بل كنْتَ أمِّيَّاً لا تخطُّ ولا تقرأُ، فجاءَكَ هذا الكتابُ الَّذي {جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} يستضيئونَ بهِ في ظلماتِ الكفرِ والبدعِ، والأهواءِ الـمرديةِ، ويعرفونَ بهِ الحقائقَ، ويهتدونَ بهِ إلى الصِّراطِ المستقيمِ.

{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: تبيِّنُهُ لهم وتوضِّحُهُ، وتنيرُهُ وترغِّبُهم فيهِ، وتنهاهم عن ضدِّهِ، وترهِّبُهم منهُ، ثمَّ فسَّرَ الصِّراطَ المستقيمَ فقالَ: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ}

أي: الصِّراطُ الَّذي نصبَهُ اللهُ لعبادِهِ، وأخبرَهم أنَّه مُوصِلٌ إليهِ وإلى دارِ كرامتِهِ

الشيخ : يا اللهُ، نسألُ اللهَ الهدايةَ، لا حولَ ولا قوَّة إلَّا بالله

القارئ : {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} أي: ترجعُ جميعُ أمورِ الخيرِ والشَّرِّ، فيجازي كُلَّاً بحسبِ عملِهِ، إنْ خيراً فخيرٌ، وإنْ شرَّاً فشرٌّ.

تمَّ تفسيرُ سورةِ الشُّورى، والحمدُ للهِ أوَّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، على تيسيرِهِ وتسهيلِهِ.

انتهى.

– طالب: {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ} أي: بإذنِ ربِّه، ثمَّ قالَ: "يكلِّمُه اللهُ بواسطةِ الرسولِ الملكيِّ فـ {يُرْسِلَ رَسُولا} كجبريلَ أو غيره من الملائكة". هل يدلُّ يا شيخ قولُ – الشيخ : "كجبريلَ أو غيره.." أن ليسَ مختصَّاً بجبريل؟

الشيخ : ممكن .