الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الأحقاف/(9) من قوله تعالى {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات} الآية 33 إلى قوله تعالى {فاصبر كما صبر أولو العزم} الآية 35

(9) من قوله تعالى {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات} الآية 33 إلى قوله تعالى {فاصبر كما صبر أولو العزم} الآية 35

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الأحقاف

الدَّرس: التَّاسع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [الأحقاف:33-35]

الشيخ : اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، الحمدُ لله، ينكرُ تعالى على الجاحدين للبعثِ كيف يجحدون ويستبعدون البعثَ وهم يرون أنَّ اللهَ خلقَ السَّمواتِ والأرضَ، هذه العوالم العظيمة، القادرُ عليها هو قادرٌ على إحياء الموتى من القبورِ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} ما نالَه إعياءٌ ولا لغوبٌ {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]

خلقَ هذه العوالمَ العظيمةَ وما نالَه مشقَّةٌ سبحانه وتعالى لكمالِ قدرتِه {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [يس:81] {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} الجوابُ: بَلَى إِنَّهُ تعالى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا يعجزُه شيءٌ، وهذا أحدُ أدلَّة البعثِ: خلقُ السَّموات والأرض، كما قالَ تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] فهذا أحدُ الأدلَّةِ الدَّالَّة على قدرته تعالى على البعث وإحياء الموتى من قبورِهم.

ثمَّ قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: واذكرْ {يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} يُعرَضون عليها ويُوقَفون عليها، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ} [الأنعام:27] ويُوبَّخون يُقالُ لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}؟ هذا الَّذي كنتم تنكرونَه {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} نعوذُ بالله من الشِّقوة، نعوذ بالله من الشِّقوة.

ثمَّ توجَّهَ الخطابُ إلى النَّبيِّ تصبيرًا له حثًّا له على الصَّبر {فَاصْبِرْ} اصبرْ على مشاقِّ الدَّعوة، اصبرْ على ما ينالُك من الكفَّار من الأذى بالأقوال والأفعال، اصبرْ كما صبرَ من قبلَك من الرُّسلِ من أولي العزمِ {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}

{وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} لا تستعجلْ العذابَ لهم، بل انتظرْ وهم ينتظرون، قل فانتظروا إنَّا معَكم منتظِرونَ، {كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} بعضُ المفسِّرين يقول: أولي العزمِ من الرُّسلِ كلُّ الرُّسل أولو عزمٍ، فيصير المعنى اصبرْ كما صبرَ من قبلَك {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام:34] والمشهورُ أنَّ أولي العزمِ هم خمسةٌ كما {كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وهم نوحٌ وإبراهيمُ وموسى وعيسى ومحمَّدٌ -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ-، وهذا داخلٌ في الأوَّل {كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}

{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} كأنَّهم يومَ القيامة إذا رأوا اليومَ الَّذي وُعِدُوا به، كأنَّهم لم يلبثوا في هذه الدُّنيا إلَّا ساعةً {وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً}

ثمَّ قالَ تعالى: {بَلَاغٌ} يعني: هذا بلاغٌ، هذه الآياتُ وهذا القرآنُ بلاغٌ وحجَّةٌ على المكذِّبينَ، {بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أي: لا يُهلَكُ، استفهامٌ إنكاريٌّ، لا يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله بالكفرِ والتَّكذيب والمعاصي، وهذا خَتمُ السُّورةِ، خُتِمَتْ بمثل ما بُدِئَتْ به، فقد بُدِئَتْ بذكر خلق السَّموات والأرض وحالِ الكفَّار {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]

 

(تفسيرُ الشَّيخِ السَّعديِّ)

القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِهِ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآيةَ:

هذا استدلالٌ منهُ تعالى على الإعادةِ بعدَ الموتِ بما هوَ أبلغُ منها، وهوَ أنَّهُ الَّذي خلقَ السَّمواتِ والأرضَ على عظمِهما وسعتِهما وإتقانِ خلقِهما مِن دونِ أنْ يكترثَ بذلكَ ولم يعي بخلقِهنَّ فكيفَ تعجزُهُ إعادتُكم بعدَ موتِكم وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

قالَ اللهُ تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} الآياتَ.

يُخبِرُ تعالى عن حالِ الكفَّارِ الفظيعةِ عندَ عرضِهم على النَّارِ الَّتي كانُوا يُكذِّبونَ بها وأنَّهم يُوبَّخونَ ويُقالُ لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} فقد حضرْتُموهُ وشاهدْتُموهُ عيانًا؟ {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} فاعترفُوا بذنبِهم وتبيَّنَ كذبُهم {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: عذابًا لازمًا دائمًا كما كانَ كفرُكم صفةً لازمةً.

ثمَّ أمرَ تعالى رسولَهُ أنْ يصبرَ على أذيَّةِ المكذِّبينَ المعادينَ لهُ وأنْ لا يزالُ داعيًا لهم إلى اللهِ وأنْ يقتديَ بصبرِ أولي العزمِ مِن المُرسلينَ ساداتِ الخلقِ أولي العزائمِ والهممِ العاليةِ الَّذينَ عَظُمَ صبرُهم، وتمَّ يقينُهم، فهم أحقُّ الخلقِ بالأسوةِ بهم والقفو لآثارِهم والاهتداءِ بمنارِهم.

فامتثلَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لأمرِ ربِّهِ فصبرَ صبرًا لم يصبرْهُ نبيٌّ قبلَهُ حتَّى رماهُ المعادونَ لهُ عن قوسٍ واحدةٍ، وقامُوا جميعًا بصدِّهِ عن الدَّعوةِ إلى اللهِ وفعلُوا ما يمكِّنُهم مِن المعاداةِ والمحاربةِ، وهوَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لم يزلْ صادعًا بأمرِ اللهِ مقيمًا على جهادِ أعداءِ اللهِ صابرًا على ما ينالُهُ مِن الأذى، حتَّى مكَّنَ اللهُ لهُ في الأرضِ وأظهرَ دينَهُ على سائرِ الأديانِ وأمَّتِهِ على الأممِ، فصلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تسليمًا.

وقولُهُ: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} أي: لهؤلاءِ المكذِّبينَ المستعجِلينَ للعذابِ فإنَّ هذا مِن جهلِهم وحمقِهم فلا يستخفَنَّكَ جهلُهم ولا يحملْكَ ما ترى مِن استعجالِهم على أنْ تدعوَ اللهَ عليهم بذلكَ فإنَّ كلَّ ما هوَ آتٍ قريبٌ، و {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا} في الدُّنيا {إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} فلا يحزنْكَ تمتُّعُهم القليلُ وهم صائرونَ إلى العذابِ الوبيلِ.

{بَلاغٌ} أي: هذهِ الدُّنيا متاعُها وشهوتُها ولذَّاتُها بُلغةٌ منغَّصةٌ ودفعُ وقتٍ حاضرٍ قليلٍ.

وهذا القرآنُ العظيمُ الَّذي بيَّنَّا لكم فيهِ البيانَ التَّامَّ بلاغٌ لكم، وزادٌ إلى الدَّارِ الآخرةِ، ونِعمَ الزَّادُ والبُلغةُ زادٌ يُوصلُ إلى دارِ النَّعيمِ ويعصمُ مِن العذابِ الأليمِ، فهوَ أفضلُ زادٍ يتزوَّدُهُ الخلائقُ وأجلُّ نعمةٍ أنعمَ اللهُ بها عليهم.

{فَهَلْ يُهْلَكُ} بالعقوباتِ {إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الَّذينَ لا خيرَ فيهم وقد خرجُوا عن طاعةِ ربِّهم ولم يقبلوا الحقَّ الَّذي جاءَتْهم بهِ الرُّسلُ.

وأعذرَ اللهُ لهم وأنذرَهم فبعدَ ذلكَ واستمرُّوا على تكذيبِهم وكفرِهم، نسألُ اللهَ العصمةَ.

آخرُ تفسيرِ سورةِ الأحقافِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

انتهى

الشيخ : اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، الحمدُ لله.