الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الفتح/(7) من قوله تعالى {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} الآية 27 إلى قوله تعالى {محمد رسول الله} الآية 29

(7) من قوله تعالى {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} الآية 27 إلى قوله تعالى {محمد رسول الله} الآية 29

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الفتح

الدَّرس: السَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:27-29]

– الشيخ : الحمدُ لله، يقولُ تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} هذا خبرٌ من الله، بأنَّ الرُّؤيا الَّتي رآها النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّها متحقِّقةٌ وواقعةٌ كما رآها النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، وذلك أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى قبلَ خروجِه أو بعدَ خروجِه للعمرةِ في السَّنة السَّادسة رأى في المنامِ أنَّه هو وأصحابه قد دخلوا مكَّةَ بأمنٍ وطمأنينةٍ وأنَّهم أدَّوا عمرتَهم، فمنهم الـمُحلِّقُ ومنهم الـمُقصِّرُ، مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ.

رأى في المنام ذلكَ وأخبرَ الصَّحابةَ، حتَّى أنَّهم لما صُدُّوا عن البيتِ قالَ: "أليس قد قلتَ كذا وكذا؟ أليسَ قد أخبرتَنا أنَّنا سندخلُ البيتَ ونطوفُ به؟" فقالَ لهم: (هل قلْتُ لكم: إنَّكم داخلوهُ هذا العامَ؟ وإنَّكم داخلوهُ) فاللهُ يخبر بأنَّ ما رآه النَّبيُّ من ذلك أنَّه واقعٌ ومتحقِّقٌ، فهذا وعدٌ، وعدٌ من الله بأنَّهم سيدخلون المسجدَ الحرامَ ويطوفون بالبيتِ ويؤدُّون عمرةً ويحلِقون ويقصِّرون، وكلُّ ذلك وهم في أمنٍ لا يخافونَ {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}

فكانَ من حكمته وتدبيره الحكيم أنْ قدَّرَ في هذا العامِ أنَّهم لا يدخلون وأنَّه يتمُّ بينهم وبينَ المشركين صلحٌ، وهذا فتحٌ حصلَ به خيرٌ كثيرٌ للإسلام والمسلمين، هذا الصُّلحُ والمتضمِّنُ لوقف القتالِ بينهم وبينَ المشركين، {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} يعني: قبلَ ذلكَ، قبلَ دخولهم مكَّةَ، وقد دخلوها بعدَ ذلك في السَّنة السَّابعة جاؤوا معتمِرينَ فأتمُّوا عمرتَهم حسبَ الاتِّفاقِ الَّذي تمَّ في السَّنة السَّادسة من العامِ الماضي. وصِدقُ هذه الرُّؤيا، صدقُها هو ما تضمَّنَه قولُه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}.

ثمَّ قالَ تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} وهذا تذكيرٌ من اللهِ لعبادِه بأعظمِ نعمةٍ على البشريَّة وهي إرسالُ هذا الرَّسولِ الخاتمِ، خاتم النَّبيِّين -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّمْ على عبدِك… {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} وهو العلمُ النَّافعُ، وأعظمُ ذلك معرفةُ اللهِ تعالى بأسمائِه وصفاتِه وكذلك معرفةُ ما كانَ وما يكونُ من بدءِ الخلقِ ومن أمورِ اليومِ الآخرِ كلُّ هذا من العلمِ.

{وَدِينِ الْحَقِّ} فُسِّرَ بالعملِ الصَّالحِ، فاللهُ أرسلَ رسولَه بالاعتقاداتِ بالعقائدِ الصَّحيحة وبالأعمالِ الصَّالحةِ النَّافعةِ {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} فاللهُ شهدَ بذلك واللهُ أعظمُ شاهدٍ {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}.

ثمَّ قالَ تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} وفي هذا ردٌّ على المشركينَ الَّذين قالوا: "لا تكتبْ رسولَ اللهِ، لو علمْنا أنَّكَ رسولُ اللهِ ما قاتلْناكَ"، فاللهُ بهذا يؤكِّدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ حقًّا، هو رسولُ الله حقًّا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

{وَالَّذِينَ مَعَهُ} مِن المؤمنين {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} يعني: أهلُ شِدَّةٍ وغِلظةٍ على الكفَّار وأهلُ تراحمٍ فيما بينَهم، وهكذا ينبغي للمسلمين أن يكونوا كذلك، أن يكونوا فيما بينَهم متراحِمين، وأن يكونوا أعزَّةً على الكافرين، كما قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] يعني: متواضعين رحماءَ بالمؤمنين {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} يعني: أهلُ عِزَّةٍ وقوَّةٍ وشِدَّةٍ على الكافرين.

{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} هذا دأبُهم التَّعبُّدُ للهِ بالصَّلاة، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} محافظين على الصَّلوات الخمسِ، متنفِّلين بأنواعِ الصَّلوات صلاة التَّطوُّع، {رُكَّعًا سُجَّدًا … سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} والمحافظةُ على الصَّلاة وإكثارُ العبادة يظهرُ أثرُها على وجهِ العبدِ بهاءً وحسنًا واستنارةً، وليسَ المرادُ أثرَ السُّجودِ الَّذي يكون على الجبهةِ، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا … سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.

{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} هذه، أي: صفتُهم هذه في التَّوراة أنَّهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى آخره، وصفتُهم في الإنجيل: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فالصَّحابةُ هم أوَّلُ جيلٍ حملَ هذا الدِّينَ، هم أوَّلُ جيلٍ قبلَ هذا الدِّينَ وحملَه وبلَّغَه، ثمَّ تفرَّعَ عنهم الصَّالحون من التَّابعين، تفرَّعَ عنهم التَّابعون كما قالَ تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]

{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} فاللهُ يضربُ لهم مثلًا كأن مثلَهم بالزَّرعِ الَّذي نبتَ وأثمرَ وأنتجَ فروعًا واستقامَ على سوقه {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} من حسنِه وقوَّتِه وكثرةِ ثمرتِه.

{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} واستدلَّ بعضُ أهلِ العلمِ بهذه الآية على كفرِ الرَّافضةِ الَّذين يبغضون الصَّحابةَ، فالرَّافضةُ يبغضون الصَّحابةَ ويتغيَّظون منهم {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ: قالَ اللهُ تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} الآياتَ.

قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: يقولُ تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} وذلكَ أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى في المدينةِ رؤيا أخبرَ بها أصحابَهُ، أنَّهم سيدخلونَ مكَّةَ ويطوفونَ بالبيتِ، فلمَّا جرى يومُ الحديبيةِ ما جرى، ورجعُوا مِن غيرِ دخولٍ لمكَّةَ، كثرَ في ذلكَ الكلامُ منهم، حتَّى إنَّهم قالُوا ذلكَ لرسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

– الشيخ : يعني قالها بعضُهم، قالَ بعضُهم للنَّبيِّ: "أليسَ قد قلْتَ لنا كذا وكذا وأنَّا داخلون المسجدَ الحرامَ وطائفون بالبيتِ؟" فردَّ عليهم: (هل قلْتُ لكم في هذا العامِ؟)

 

القارئ : حتَّى إنَّهم قالُوا ذلكَ لرسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ألم تخبرْنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطوفُ بهِ؟ فقالَ: (أخبرْتُكم أنَّهُ العامَ؟) قالُوا: "لا"، قالَ: (فإنَّكم ستأتونَهُ وتطوفونَ بهِ).

قالَ اللهُ هنا: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} أي: لا بدَّ مِن وقوعِها وصدقِها، ولا يقدحُ في ذلكَ تأخُّرُ تأويلِها، {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} أي: في هذهِ الحالِ الـمُقتضيةِ لتعظيمِ هذا البيتِ الحرامِ، وأدائِكم للنُّسكِ، وتكميلِهِ بالحلقِ والتَّقصيرِ، وعدمِ الخوفِ، {فَعَلِمَ} مِن المصلحةِ والمنافعِ {مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} الدُّخولِ بتلكَ الصِّفةِ {فَتْحًا قَرِيبًا}.

ولمَّا كانَتْ هذهِ الواقعةُ ممَّا تشوَّشَتْ بها قلوبُ بعضِ المؤمنينَ، وخفيَتْ عليهم حكمتُها، فبيَّنَ تعالى حكمتَها ومنفعتَها، وهكذا سائرُ أحكامِهِ الشَّرعيَّةِ، فإنَّها كلُّها هدىً ورحمةٌ.

أخبرَ بحكمٍ عامٍّ فقالَ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} الَّذي هوَ العلمُ النَّافعُ، الَّذي يهدي مِن الضَّلالةِ، ويبيِّنُ طرقَ الخيرِ والشَّرِّ.

{وَدِينِ الْحَقِّ} أي: الدِّينِ الموصوفِ بالحقِّ، وهوَ العدلُ والإحسانُ والرَّحمةُ. وهوَ كلُّ عملٍ صالحٍ مُزَكٍّ للقلوبِ، مُطهِّرٍ للنُّفوسِ، مُرَبٍّ للأخلاقِ، مُعْلٍ للأقدارِ.

{لِيُظْهِرَهُ} بما بعثَهُ اللهُ بهِ {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} بالحجَّةِ والبرهانِ، ويكونُ داعيًا لإخضاعِهم بالسَّيفِ والسِّنانِ.

قالَ اللهُ تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} الآيةَ.

يخبرُ تعالى عن رسولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابِهِ مِن المهاجرينَ والأنصارِ، أنَّهم بأكملِ الصِّفاتِ، وأجلِّ الأحوالِ، وأنَّهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} أي: جادُّونَ ومجتهدونَ في عداوتِهم، وساعونَ في ذلكَ بغايةِ جهدِهم، فلم يرَوا منهم إلَّا الغِلظةَ والشِّدَّةَ، فلذلكَ ذَلَّ أعداؤُهم لهم وانكسرُوا، وقهرَهم المسلمونَ.

{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أيْ: متحابُّونَ متراحمونَ متعاطفونَ، كالجسدِ الواحدِ، يُحبُّ أحدُهم لأخيهِ ما يحبُّ لنفسِهِ، هذهِ معاملتُهم معَ الخلقِ، وأمَّا معاملتُهم معَ الخالقِ فإنَّكَ {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} أي: وصفُهم كثرةُ الصَّلاةِ، الَّتي أجلُّ أركانِها الرُّكوعُ والسُّجودُ.

{يَبْتَغُونَ} بتلكَ العبادةِ {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} أي: هذا مقصودُهم بلوغُ رضا ربِّهم، والوصولُ إلى ثوابِهِ.

{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} أي: قد أثَّرَتِ العبادةُ -مِن كثرتِها وحسنِها- في وجوهِهم، حتَّى استنارَتْ، لَمَّا استنارَتْ بالصَّلاةِ بواطنُهم، استنارَتْ بالجلالِ ظواهرُهم.

{ذَلِكَ} المذكورُ {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} أي: هذا وصفُهم الَّذي وصفَهم اللهُ بهِ، مذكورٌ بالتَّوراةِ هكذا.

وأمَّا مثلُهم في الإنجيلِ بوصفٍ آخرَ، وأنَّهم في كمالِهم وتعاونِهم {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} أي: أخرجَ فِرَاخَهُ، فوازرَتْهُ فراخُهُ في الشَّبابِ والاستواءِ.

{فَاسْتَغْلَظَ} ذلكَ الزَّرعُ، أي: قويَ وغلظَ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} جمعُ ساقٍ، {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} مِن كمالِهِ واستوائِهِ، وحسنِهِ واعتدالِهِ، كذلكَ الصَّحابةُ -رضيَ اللهُ عنهم- هم كالزَّرعِ في نفعِهم للخلقِ واحتياجِ النَّاسِ إليهم، فقوَّةُ إيمانِهم وأعمالِهم بمنزلةِ قوَّةِ عروقِ الزَّرعِ وسوقِهِ، وكونُ الصَّغيرِ والمتأخِّرِ إسلامُهُ قد لحقَ الكبيرَ السَّابقَ ووازرَهُ وعاونَهُ على ما هوَ عليهِ، مِن إقامةِ دينِ اللهِ والدَّعوةِ إليهِ، كالَّذي أخرجَ شطأَهُ، فآزرَهُ فاستغلظَ، ولهذا قالَ: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} حينَ يرونَ اجتماعَهم وشدَّتَهم على دينِهم، وحينَ يتصادمونَ معَهم في معاركِ النِّزالِ، ومعامعِ القتالِ.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فالصَّحابةُ -رضيَ اللهُ عنهم- الَّذينَ جمعُوا بينَ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ، قد جمعَ اللهُ لهم بينَ المغفرةِ، الَّتي مِن لوازمِها وقايةُ شرورِ الدُّنيا والآخرةِ، والأجرُ العظيمُ في الدُّنيا والآخرةِ.

وَلْنسقْ قصَّةَ الحديبيةِ بطولِها، كما ساقَها الإمامُ شمسُ الدِّينِ ابنُ القيِّمِ في "الهديِّ النَّبويِّ" فإنَّ فيها إعانةٌ على فهمِ هذهِ السُّورةِ، وتكلُّمٍ على معانيها وأسرارِها، قالَ -رحمَهُ اللهُ تعالى-

الشيخ : إلى هنا، قفْ على هذا، اللهُ المستعانُ.