الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة النجم/(4) من قوله تعالى {أفرأيت الذي تولى} الآية 33 إلى قوله تعالى {فاسجدوا لله واعبدوا} الآية 62
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(4) من قوله تعالى {أفرأيت الذي تولى} الآية 33 إلى قوله تعالى {فاسجدوا لله واعبدوا} الآية 62

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  النَّجم

الدَّرس: الرَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:33-62]

– الشيخ : أنتَ سجدْتَ؟

– القارئ : لا، ما سجدْتُ

– الشيخ : أستغفرُ اللهَ، أستغفرُ اللهَ، يُعَجِّبُ اللهُ سبحانه وتعالى من بعضِ جهلةِ المشركين وطواغيتِهم الَّذين يُضِلُّون ويصدُّون عن سبيلِ اللهِ، فأحدُ المشركينَ قالَ لبعضِ مَن أسلمَ أو أرادَ أنْ يُسلِمَ: "لا تفعلْ وأعطيكَ كذا وكذا"

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى}، {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} عليهما السَّلامُ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} مِن الوعيدِ على مَن ضلَّ وأضلَّ وكذَّبَ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}.

قالَ اللهُ مبيِّنًا لما في صحفِ موسى وإبراهيمَ: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هذا وما بعدَه من الآياتِ هو الَّذي في صحفِ موسى وإبراهيمَ {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فلا يحملُ أحدٌ وزرَ أحدٍ، وهذا كأنَّه من نوعِ الَّذين قالُوا للَّذين آمنُوا {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}، كذلكَ ليسَ للإنسانِ إلَّا ما عملَ فلا يستحقُّ إلَّا ثوابَ عملِه، ليسَ لأحدٍ ثوابُ عملِ غيرِهِ، ليسَ لأحدٍ ثوابُ عملِ غيرِهِ إلَّا أنْ يجعلَه له بأن يعملَ العملَ متبرّعًا له كمَن يحجُّ عن غيره، أو يؤدِّي دينًا عن غيرِه، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} سعيُ الإنسانِ سوف يراهُ {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6]، فكلٌّ سيرى ما عملَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7-8]. {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}.

{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} إليه تنتهي الأمورُ، فينتهي إليهِ علمُ كلِّ شيءٍ، وينتهي إليه قدرةُ القادرين فهو.. فليس فوقَ قدرتِهِ شيءٌ، وليسَ فوقَ علمِه شيءٌ، وليسَ فوقَ عزَّتِهِ شيءٌ، وإليه يُرجَعُ العبادُ، وإلى اللهِ المصيرُ، وإليه تُرجَعُ الأمورُ، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} إليهِ يُرجَعُ الأمرُ كلُّه {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} فهوَ المتصرِّفُ في هذا الوجودِ والمتصرِّفُ في العبادِ، فما يفعلونَه هو أقدرَهم عليهِ.

وهو خالقُ أسبابِ الضَّحكِ والبكاءِ، {أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} يُحيي ويُميتُ سبحانَه وتعالى {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} كما قالَ تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:36-37] فهوَ خالقُ هذا الإنسانَ بنوعيه -الذَّكر والأنثى-، {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}.

{وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى وهي نشأةُ الدَّارِ الآخرةِ، الَّتي تكونُ بالبعث، ببعثِ النَّاس من القبورِ، هذه النَّشأةُ، يقولُ تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة:57-62]، فهما نشأتانِ: النَّشأةُ الأولى الَّتي ظهرَتْ على هذهِ الأرضِ، والنَّشأةُ الأخرى هي نشأةُ الدَّارِ الآخرةِ {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى}

{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} هو الَّذي يُغني ويُعطي ويمنعُ ويُقني ويُمَلِّكُ من يشاءُ ما شاءَ، فكلُّ ما بالعبادِ وكلُّ ما عندَ العبادِ، كلُّه من تدبيرِه ومن عطائِه سبحانَه وتعالى، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}.

{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} الشِّعْرَى: نجمٌ يعظِّمُهُ ويعبدُهُ المشركون، فاللهُ هو ربُّ هذا المعبودِ، وهو ربُّ كلِّ شيءٍ، {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} فهو أحقُّ بالعبادةِ، فالشِّعْرَى مخلوقةٌ، نجمٌ مخلوقٌ واللهُ هو الخالقُ، فمَن الأحقُّ بالعبادةِ؟ هو الخالقُ، الخالقُ هو الأحقُّ بالعبادةِ، والمشركون الَّذين ضلُّوا واتَّبعُوا أهواءَهم واتَّبعُوا الشَّيطانَ يعبدون من هو مثلهم مخلوقٌ، واللهُ تعالى يقول: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191] إلى آخرِ السُّورة.

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} الآياتِ:

يقولُ تعالى: {أَفَرَأَيْتَ} قبحَ حالةِ مَن أُمِرَ بعبادةِ ربِّهِ وتوحيدِهِ، فتولَّى عن ذلكَ وأعرضَ عنهُ؟

فإنْ سمحَتْ نفسُهُ ببعضِ الشَّيءِ، القليلِ، فإنَّهُ لا يستمرُّ عليهِ، بل يَبخلُ ويكدى ويمنعُ.

فإنَّ الإحسانَ ليسَ سجيَّةً لهُ وطبعًا، بل طبعُهُ التُّولِّي عن الطَّاعةِ، وعدمُ الثُّبوتِ على فعلِ المعروفِ، ومعَ هذا، فهوَ يزكِّي نفسَهُ، وينزلُها غيرَ منزلتِها الَّتي أنزلَها اللهُ بها.

{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} الغيبَ ويخبرُ بهِ، أم هوَ متقوِّلٌ على اللهِ، متجرِّئٌ عليهِ جامعٌ بينَ المحذورَينِ -الإساءةِ والتَّزكيةِ-.

كما هوَ الواقعُ، لأنَّهُ قد عُلِمَ أنَّهُ ليسَ عندَهُ علمٌ مِن الغيبِ، وأنَّهُ لو قُدِّرَ أنَّهُ ادَّعى ذلكَ فالإخباراتُ القاطعةُ عن علمِ الغيبِ الَّتي على يدِ النَّبيِّ المعصومِ، تدلُّ على نقيضِ قولِهِ، وذلكَ دليلٌ على بطلانِهِ.

{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ} هذا المدَّعي {بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أي: قامَ بجميعِ ما ابتلاهُ اللهُ بهِ، وأمرَهُ بهِ مِن الشَّرائعِ وأصولِ الدِّينِ وفروعِهِ، وفي تلكَ الصُّحفِ أحكامٌ كثيرةٌ مِن أهمِّها ما ذكرَهُ اللهُ بقولِهِ: {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} أي: كلُّ عاملٍ لهُ

– الشيخ : هذا من جنسِ قولِه تعالى لما ذكرَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:14-19]، يعني: هذه المعاني موجودةٌ في الكتابين، في صحفِ موسى وإبراهيمَ.

 

– القارئ : أي: كلُّ عاملٍ لهُ عملُهُ الحسنُ والسَّيِّئُ، فليسَ لهُ مِن عملٍ غيرُهُ وسعيهم شيءٌ، ولا يتحمَّلُ أحدٌ عن أحدٍ ذنبًا.

{وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} في الآخرةِ فيميزُ حسنَهُ مِن سيِّئِهِ، {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى} أي: المستكمِلِ لجميعِ العملِ الخالصِ الحسنِ بالحسنى، والسَّيِّئِ الخالصِ بالسُّوأى، والمشوبِ بحسبِهِ، جزاءٌ تقرُّ بعدلِهِ وإحسانِهِ الخليقةُ كلُّها، وتحمدُ اللهَ عليهِ، حتَّى إنَّ أهلَ النَّارِ ليدخلونَ النَّارَ، وإنَّ قلوبَهم مملوءةٌ مِن حمدِ ربِّهم، والإقرارُ لهُ بكمالِ الحكمةِ ومقتُ أنفسِهم، وأنَّهم الَّذين أوصلُوا أنفسَهم وأوردُوها شرَّ المواردِ، وقد استَدلَّ بقولِهِ تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} مَن يرى أنَّ القربَ لا يجوزُ إهداؤُها للأحياءِ ولا للأمواتِ قالُوا لأنَّ اللهَ قالَ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ مَا سَعَى} فوصولُ سعيِ غيرِهِ إليهِ منافٍ لذلكَ، وفي هذا الاستدلالِ نظرٌ، فإنَّ الآيةَ إنَّما تدلُّ على أنَّهُ ليسَ للإنسانِ إلَّا ما سعى بنفسِهِ، وهذا حقٌّ لا خلافَ فيهِ، وليسَ فيها ما يدلُّ على أنَّهُ لا ينتفعُ بسعيِ غيرِهِ إذا أهداهُ ذلكَ الغيرُ لهُ، كما أنَّهُ ليسَ للإنسانِ مِن المالِ إلَّا ما هوَ في ملكِهِ وتحتَ يدِهِ، ولا يلزمُ مِن ذلكَ، أنْ لا يملكَ ما وهبَهُ الغيرُ لهُ مِن مالِهِ الَّذي يملكُهُ.

وقولُهُ: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} أي: إليهِ تنتهي الأمورُ، وإليهِ تصيرُ الأشياءُ والخلائقُ بالبعثِ والنُّشورِ، وإلى اللهِ المُنتهَى في كلِّ حالٍ، فإليهِ ينتهي العلمُ والحكمُ، والرَّحمةُ وسائرُ الكمالاتِ.

{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} أي: هوَ الَّذي أوجدَ أسبابَ الضَّحكِ والبكاءِ، وهوَ الخيرُ والشَّرُّ، والفرحُ والسُّرورُ والهمُّ والحزنُ، وهوَ سبحانَهُ لهُ الحكمةُ البالغةُ في ذلكَ.

{وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أي: هوَ المنفرِدُ بالإيجادِ والإعدامِ، والَّذي أوجدَ الخلقَ وأمَرَهم ونهاهم، سيعيدُهم بعدَ موتِهم، ويجازيهم بتلكَ الأعمالِ الَّتي عملُوها في دارِ الدُّنيا.

{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} فسَّرَهما بقولِهِ: {الذَّكَرَ وَالأنْثَى} وهذا اسمُ جنسٍ شاملٌ لجميعِ الحيواناتِ، ناطقِها وبهيمِها، فهوَ المنفرِدُ بخلقِها، {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} وهذا مِن أعظمِ الأدلَّةِ على كمالِ قدرتِهِ وانفرادِهِ بالعزَّةِ العظيمةِ، حيثُ أوجدَ تلكَ الحيواناتِ، صغيرَها وكبيرَها مِن نطفةٍ ضعيفةٍ مِن ماءٍ مهينٍ، ثمَّ نمَّاها وكمَّلَها، حتَّى بلغَتْ ما بلغَتْ، ثمَّ صارَ الآدميُّ منها إمَّا إلى أرفعِ المقاماتِ في أعلى عِلِّيينَ، وإمَّا إلى أدنى الحالاتِ في أسفلِ سافلينَ.

ولهذا استَدلَّ بالبداءةِ على الإعادةِ، فقالَ: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى} فيعيدُ العبادَ مِن الأجداثِ، ويجمعُهم ليومِ الميقاتِ، ويجازيهم على الحسناتِ والسَّيِّئاتِ.

{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي: أغنى العبادَ بتيسيرِ أمرِ معاشِهم مِن التِّجاراتِ وأنواعِ المكاسبِ، مِن الحِرفِ وغيرِها، {وَأَقْنَى} أي: أفادَ عبادَهُ مِن الأموالِ بجميعِ أنواعِها، ما يصيرونَ بهِ مقتنينَ لها، ومالكينَ لكثيرٍ مِن الأعيانِ، وهذا مِن نعمِهِ تعالى أنْ أخبرَهم أنَّ جميعَ النِّعمِ منهُ، وهذا يوجبُ للعبادِ أنْ يشكرُوهُ، ويعبدُوهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ.

{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} وهيَ النَّجمُ المعروفُ بالشِّعرى العَبورِ، المسمَّاةِ بالـمِرْزَمِ

الشيخ : الـمِرْزَم اسمٌ معروفٌ عندَ العامَّةِ، مِرزم

القارئ : وخصَّها اللهُ بالذِّكرِ، وإنْ كانَ ربُّ كلِّ شيءٍ، لأنَّ هذا النَّجمَ ممَّا عُبِدَ في الجاهليَّةِ، فأخبرَ تعالى أنَّ جنسَ ما يعبدُهُ المشركونَ مربوبٌ مدبَّرٌ مخلوقٌ، فكيفَ يُتَّخَذُ إلهًا معَ اللهِ!!

{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى} وهم قومُ هودٍ -عليهِ السَّلامُ-، حينَ كذَّبُوا هودًا فأهلكَهم اللهُ بريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ.

{وَثَمُودَ} قومَ صالحٍ -عليهِ السَّلامُ-، أرسلَهُ اللهُ إلى ثمودَ فكذَّبُوهُ، فبعثَ اللهُ إليهم النَّاقةَ آيةً، فعقرُوها وكذَّبُوهُ، فأهلكَهم اللهُ تعالى، {فَمَا أَبْقَى} منهم أحدًا، بل أبادَهم اللهُ عن آخرِهم.

{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} مِن هؤلاءِ الأممِ، فأهلكَهم اللهُ وأغرقَهم في اليمِّ.

{وَالْمُؤْتَفِكَةَ} وهم قومُ لوطٍ -عليهِ السَّلامُ- {أَهْوَى} أي: أصابَهم اللهُ بعذابٍ ما عذَّبَ بهِ أحدًا مِن العالمينَ، قلبَ أسفلَ ديارِهم أعلاها، وأمطرَ عليهم حجارةً مِن سجيلٍ.

ولهذا قالَ: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} أي: غَشيَها مِن العذابِ الأليمِ الوخيمِ {مَا غَشَّى} أي: شيءٌ عظيمٌ لا يمكنُ وصفُهُ.

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} أي: فبأيِّ نِعَمِ اللهِ وفضلِهِ تشكُّ أيُّها الإنسانُ؟ فإنَّ نعمَ اللهِ ظاهرةٌ لا تَقبلُ الشَّكَّ بوجهٍ مِن الوجوهِ، فما بالعبادِ مِن نعمةٍ إلَّا منهُ تعالى، ولا يدفعُ النِّقمَ إلَّا هوَ.

{هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى} أي: هذا الرَّسولُ القُرشيُّ الهاشميُّ محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، ليسَ بِبِدْعٍ مِن الرُّسلِ، بل قد تقدَّمَهُ مِن الرُّسلِ السَّابقينَ، ودعَوا إلى ما دعا إليهِ، فلأيِّ شيءٍ تُنكَرُ رسالتُهُ؟

الشيخ : {مِنَ النُّذُرِ الأولَى} يعني: من جنسِ النُّذرِ، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] فهوَ أحدُ رسلِ اللهِ ولكنَّه أفضلُهم وخاتمُهم -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ-.

 

القارئ : وبأيِّ حجَّةٍ تبطلُ دعوتُهُ؟

أليسَتْ أخلاقُهُ أعلى أخلاقِ الرُّسلِ الكرامِ، أليسَتْ دعوتُهُ إلى كلِّ خيرٍ والنَّهي عن كلِّ شرٍّ؟ ألم يأتِ بالقرآنِ الكريمِ الَّذي لا يأتيهِ الباطلُ مِن بينِ يديهِ ولا مِن خلفِهِ، تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميدٍ؟ ألم يُهلكِ اللهُ مَن كذَّبَ مَن قبلَهُ مِن الرُّسلِ الكرامِ؟ فما الَّذي يمنعُ العذابَ عن المكذِّبينَ لمحمَّدٍ سيِّدِ المرسلينَ، وإمامِ المتَّقينَ، وقائدِ الغُرِّ المحجَّلينَ؟

{أَزِفَتِ الآزِفَةُ} أي: قربَتِ القيامةُ، ودنا وقتُها، وبانَتْ علاماتُها. {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي: إذا أتَتِ القيامةُ وجاءَهم العذابُ الموعودُ بهِ.

ثمَّ توعَّدَ المنكرينَ لرسالةِ الرَّسولِ محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ-، المكذِّبينَ لِما جاءَ بهِ مِن القرآنِ الكريمِ، فقالَ: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ}؟ أي: أفمِن هذا الحديثِ الَّذي هوَ خيرُ الكلامِ وأفضلُهُ وأشرفُهُ تتعجَّبونَ، وتجعلونَهُ مِن الأمورِ المخالفةِ للعادةِ الخارقةِ للأمورِ والحقائقِ المعروفةِ؟ هذا مِن جهلِهم وضلالِهم وعنادِهم، وإلَّا فهوَ الحديثُ الَّذي إذا حدَّثَ صدقَ، وإذا قالَ قولًا فهوَ القولُ الفصلُ الَّذي ليسَ بالهزلِ، وهوَ القرآنُ العظيمُ، الَّذي لو أُنزِلَ على جبلٍ لرأيْتَهُ خاشعًا متصدِّعًا مِن خشيةِ اللهِ، الَّذي يزيدُ ذوي الأحلامِ رأيًا وعقلًا وتسديدًا وثباتًا، وإيمانًا ويقينًا بل الَّذي ينبغي العجبُ مِن عقلِ مَن تعجَّبَ منهُ، وسفهِهِ وضلالِهِ.

{وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} أي: تستعجلون الضحك والاستهزاء به، مع أن الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس، وتلين له القلوب، وتبكي له العيون، سماعا لأمره ونهيه، وإصغاء لوعده ووعيده، والتفاتا لأخباره الحسنة الصادقة.

{وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} أي: غافلونَ عنهُ، لاهونَ عن تدبُّرِهِ، وهذا مِن قلَّةِ عقولِكم وأديانِكم فلو عبدْتُم اللهَ وطلبْتُم رضاهُ في جميعِ الأحوالِ لما كنْتُم بهذهِ المثابةِ الَّتي يأنفُ منها أولو الألبابِ، ولهذا قالَ تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} الأمرُ بالسُّجودِ للهِ خصوصًا، يدلُّ على فضلِهِ وأنَّهُ سرُّ العبادةِ ولبُّها، فإنَّ روحَها الخشوعُ للهِ والخضوعُ لهُ، والسُّجودُ هوَ أعظمُ حالةٍ يخضعُ بها العبدُ فإنَّهُ يخضعُ قلبُهُ وبدنُهُ، ويجعلُ أشرفَ أعضائِهِ على الأرضِ المهينةِ موضعَ وطءِ الأقدامِ. ثمَّ أمرَ بالعبادةِ عمومًا، الشَّاملةِ لجميعِ ما يحبُّهُ اللهُ ويرضاهُ مِن الأعمالِ والأقوالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ.

تمَّ تفسيرُ سورةِ النَّجمِ، والحمدُ للهِ. انتهى

الشيخ : باركَ اللهُ بكَ، اللهُ المستعانُ، لا إله إلَّا الله.