الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الواقعة/(4) من قوله تعالى {فلا أقسم بمواقع النجوم} الآية 75 إلى قوله تعالى {فسبح باسم ربك العظيم} الآية 96

(4) من قوله تعالى {فلا أقسم بمواقع النجوم} الآية 75 إلى قوله تعالى {فسبح باسم ربك العظيم} الآية 96

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الواقعة

الدَّرس: الرَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطَانِ الرَّجيمِ

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:75-96]

– الشيخ : الحمدُ للهِ، {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} هذا عندَ المفسِّرين يقولون المعنى أقسمُ، فــ {لَا} زائدةٌ للتَّأكيدِ، أو أنَّها للرَّدِّ على المكذِّبين {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} اللهُ تعالى يقسمُ بما شاءَ، يقسمُ بالنُّجومِ وبالشَّمسِ والقمرِ وبأشياءٍ كثيرةٍ كما تقدَّم، {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} هذا جوابُ القسمِ، اللهُ أقسمَ بمواقعِ النُّجومِ على أنَّ هذا القرآنَ كريمٌ {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} فيه الخيرُ الكثيرُ والبركةُ والهدى.

{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} هو مثبَتٌ، هذا القرآنُ مثبَتٌ {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وهو اللَّوحُ المحفوظُ كما قالَ تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وقالَ تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} فهذا القرآنُ نفسُه هذا القرآنُ مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} لا يمسُّ الكتابَ المكنونَ إلَّا المطهَّرون، والصَّحيحُ أنَّ المرادَ بالكتابِ هنا هو اللَّوحُ المحفوظُ وهو الَّذي لا يمسُّه إلَّا المطهَّرون، ليسَ المرادُ أنَّ هذا القرآنَ لا يمسُّه إلَّا المطهَّرون، كما استدلَّ كثيرٌ من أهل العلمِ بهذه الآيةِ مثلًا على تحريمِ مسِّ المصحفِ للمُحدِثِ، تحريمُ مسِّ المحدِثِ للمصحفِ، والمطهَّرون هم الملائكةُ، ولم يقلْ سبحانه تعالى: "المتطهِّرون" {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} حظُّ المكذِّبين من القرآنِ هو التَّكذيبُ، وبئسَ الحظُّ، {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}.

قالَ اللهُ: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} يعني: إذا بلغَتِ الرُّوحُ الحلقومَ وهو الحلقُ -حلقُ الإنسانِ- عندَ خروجِ روحِه تبلغُ ذلك المبلغَ عندَ خروجِها {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} أهلُ الميِّتِ حولَه ينظرونَ ولكنَّهم لا يبصرونَ، يقولُ تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} النَّاسُ لا يرونَ الملائكةَ، لكنَّ الميِّتَ يعلمُ بهم، {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني: لو كانَ كما تقولون أنَّه لا بعثَ، فهل تستطيعونَ ردَّ الرُّوحِ ورجعها إلى جسدِها؟ {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

ثمَّ ذكرَ أحوالَ الأمواتِ، ثلاثة: مُقَرَّبِينَ وأصحاب اليمينِ والمكذِّبينَ، وهذه أحوالُ النَّاسِ عندَ الموتِ في القيامةِ الصُّغرى وقد ذكرَ اللهُ القيامةَ الكبرى في أوَّل السُّورة، وذكرَ القيامةَ الصُّغرى وهو الموتُ في آخرِها.

{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وهم السَّابقونَ المذكورونَ في أوَّل السُّورةِ {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} نعيمٌ وجنَّاتٌ وريحانٌ ورزقٌ من الله تعالى ورائحةٌ طيِّبةٌ، {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}

{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} وهذا هو الصِّنفُ الثَّالثُ وهم الأشقياءُ {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} النُّزُلُ: الضِّيافةُ، كما تقدَّمَ، فضيافتُهم وما يُقدَّمُ لهم هو الجحيمُ، النَّار المتَّقدة، نعوذُ بالله من النَّار، {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}.

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} هذا تأكيدٌ لهذه الأخبارِ، إنَّ ما أخبرَ اللهُ به حقُّ يقينٍ لا مريةَ فيه، مثل ما أنَّك تلمسُ هذا الشَّيءَ وتراه بعينِك وتلمسُه بيدِك، أمرٌ يقينيٌّ.

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} سبحانَ ربِّي العظيم، سبحانَ ربِّي العظيم، لما نزلَتْ هذه الآيةُ قال الرَّسولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اجعلُوها في ركوعِكم) كما تقدَّمَ نظيرُ هذه الآية في هذه السُّورة {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} فنقولُ: سبحانَ ربِّي العظيم، سبحانَ ربِّي العظيم، سبحانَ ربِّي العظيم.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} الآياتِ:

أقسمَ تعالى بالنُّجومِ ومواقعِها أي: مساقطِها في مغاربِها، وما يُحدِثُ اللهُ في تلكَ الأوقاتِ، مِن الحوادثِ الدَّالَّةِ على عَظمتِهِ وكبريائِهِ وتوحيدِهِ ثمَّ عظَّمَ هذا المقسَمَ بهِ، فقالَ: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} وإنَّما كانَ القسمُ عظيمًا؛ لأنَّ في النُّجومِ وجريانِها، وسقوطِها عندَ مغاربِها، آياتٌ وعِبرٌ لا يمكنُ حصرُها.

وأمَّا المُقسَمُ عليهِ، فهوَ إثباتُ القرآنِ، وأنَّهُ حقٌّ لا ريبَ فيهِ، ولا شكَّ يعتريهِ، وأنَّهُ كريمٌ أي: كثيرُ الخيرِ، غزيرُ العلمِ، فكلُّ خيرٍ وعلمٍ، فإنَّما يُستفادُ مِن كتابِ اللهِ ويُستنبَطُ منهُ.

{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} أي: مستورٍ عن أعينِ الخلقِ، وهذا الكتابُ المكنونُ هوَ اللَّوحُ المحفوظُ أي: إنَّ هذا القرآنَ مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ، مُعظَّمٌ عندَ اللهِ وعندَ ملائكتِهِ في الملأِ الأعلى.

ويُحتمَلُ أنَّ المرادَ بالكتابِ المكنونِ هوَ الكتابُ الَّذي بأيدي الملائكةِ الَّذينَ ينزلُهم اللهُ لوحيهِ ورسالتِهِ، وأنَّ المرادَ بذلكَ أنَّهُ مستورٌ عن الشَّياطينِ، لا قدرةَ لهم على تغييرِهِ، ولا الزِّيادةِ والنَّقصِ منهُ واستراقِهِ.

– الشيخ : المعنى الأوَّلُ أظهرُ للشَّواهد لشواهد القرآنِ كقولِهِ: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22]، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف:4]، القولُ الأوَّلُ أظهرُ أنَّ المرادَ بالكتابِ المكنونِ اللَّوحُ المحفوظُ.

 

– القارئ : {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أي: لا يمسُّ القرآنَ إلَّا الملائكةُ الكرامُ، الَّذين طهَّرَهم اللهُ تعالى مِن الآفاتِ، والذُّنوبِ والعيوبِ، وإذا كانَ لا يمسُّهُ إلَّا المطهَّرونَ، وأنَّ أهلَ الخبثِ والشَّياطينَ لا استطاعةَ لهم ولا يدانِ إلى مسِّهِ، دلَّتِ الآيةُ بتنبيهِها على أنَّهُ لا يجوزُ أنْ يمسَّ القرآنَ إلَّا طاهرٌ، كما وردَ بذلكَ الحديثُ، ولهذا قيلَ أنَّ الآيةَ خبرٌ بمعنى النَّهي أي: لا يمسُّ القرآنَ إلَّا طاهرٌ.

{تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: إنَّ هذا القرآنَ الموصوفَ بتلكَ الصِّفاتِ الجليلةِ هوَ تنزيلُ ربِّ العالمينَ، الَّذي يربِّي عبادَهُ بنعمِهِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، وأجلُّ تربيةٍ ربَّى بها عبادَهُ، إنزالُهُ هذا القرآنَ، الَّذي قد اشتملَ على مصالحِ الدَّارَينِ، ورحمَ اللهُ بهِ العبادَ رحمةً لا يقدرونَ لها شكورًا.

وممَّا يجبُ عليهم أنْ يقومُوا بهِ ويعلنُوهُ ويدعوا إليهِ ويصدعُوا بهِ، ولهذا قالَ: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} أي: أفبهذا الكتابِ العظيمِ والذِّكرِ الحكيمِ أنتم تدهنونَ أي: تختفونَ وتدلِّسونَ خوفًا مِن الخلقِ وعارِهم وألسنتِهم؟ هذا لا ينبغي ولا يليقُ، إنَّما يليقُ أنْ يداهنَ بالحديثِ الَّذي لا يثقُ صاحبُهُ منهُ.

وأمَّا القرآنُ الكريمُ، فهوَ الحقُّ الَّذي لا يغالِبُ بهِ مغالِبٌ إلا غَلَبَ، ولا يصولُ بهِ صائلٌ إلَّا كانَ العالي على غيرِهِ، وهوَ الَّذي لا يُداهَنُ بهِ ولا يُختَفَى، بل يُصدَعُ به ويُعلَنُ.

وقولُهُ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي: تجعلونَ مقابلَةَ منَّةِ اللهِ عليكم بالرِّزقِ التَّكذيبَ والكفرَ لنعمةِ اللهِ، فتقولونَ: مُطِرْنا بنوءِ كذا وكذا، وتضيفونَ النِّعمةَ لغيرِ مُسديها وموليها، فهلَّا شكرْتُم اللهَ تعالى على إحسانِهِ، إذْ أنزلَهُ اللهُ إليكم ليزيدَكم مِن فضلِهِ، فإنَّ التَّكذيبَ والكفرَ داعٍ لرفعِ النِّعمِ وحلولِ النِّقمِ.

{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} الآياتِ:

أي: فهلَّا إذا بلغَتِ الرُّوحُ الحلقومَ، وأنتم تنظرونَ المحتضَرَ في هذهِ الحالةِ، والحالُ أنَّا نحنُ أقربُ إليهِ منكم بعلمِنا وملائكتِنا، ولكنْ لا تبصرونَ.

{فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي: فهلَّا إذا كنْتُم تزعمونَ، أنَّكم غيرُ مبعوثينَ ولا محاسَبينَ ومجزيينَ.

تُرجعونَ الرُّوحِ إلى بدنِها {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وأنتم تقرُّونَ أنَّكم عاجزونَ عن ردِّها إلى موضعِها، فحينئذٍ إمَّا أنْ تقرُّوا بالحقِّ الَّذي جاءَكم بهِ محمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإمَّا أنْ تعاندُوا وتُعلَمَ حالُكم وسوءُ مآلِكم.

قالَ اللهُ تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} الآياتِ:

ذكرَ اللهُ تعالى أحوالَ الطَّوائفِ الثَّلاثِ: المقرَّبينَ، وأصحابَ اليمينِ، والمكذِّبينَ الضَّالِّينَ، في أوَّلِ السُّورةِ في دارِ القرارِ.

ثمَّ ذكرَ أحوالَهم في آخرِها عندَ الاحتضارِ والموتِ، فقالَ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي: إذا كانَ الميِّتُ مِن المقرَّبينَ إلى اللهِ المتقرِّبينَ إليهِ بأداءِ الواجباتِ والمستحبَّاتِ، وتركِ المحرَّماتِ والمكروهاتِ وفضولِ المباحاتِ.

{فَـ} لهم {رَوْحٌ} أي: راحةٌ وطمأنينةٌ، وسرورٌ وبهجةٌ، ونعيمُ القلبِ والرُّوحِ، {وَرَيْحَانٌ} وهوَ اسمٌ جامعٌ لكلِّ لذَّةٍ بدنيَّةٍ، مِن أنواعِ المآكلِ والمشاربِ وغيرِهما، وقيلَ: الرَّيحانُ هوَ الطِّيبُ المعروفُ، فيكونُ مِن بابِ التَّعبيرِ بنوعِ الشَّيءِ عن جنسِهِ العامِّ.

{وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} جامعةٌ للأمرَينِ كليهما، فيها ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أذنٌ سمعَتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، فيُبشَّرُ المقربونَ عندَ الاحتضارِ بهذهِ البشارةِ، الَّتي تكادُ تطيرُ منها الأرواحُ فرحًا وسرورًا.

كما قالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30-32]

وقد فُسِّرَ قولُهُ تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} أنَّ هذهِ البشارةَ المذكورةَ، هيَ البشرى في الحياةِ الدُّنيا.

وقولُهُ: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} وهم الَّذين أدَّوا الواجباتِ وتركُوا المحرَّماتِ، وإنْ حصلَ منهم التَّقصيرُ في بعضِ الحقوقِ الَّتي لا تُخِلُّ بتوحيدِهم وإيمانِهم، فـيُقالُ لأحدِهم: {فسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي: سلامٌ حاصلٌ لكَ مِن إخوانِكَ أصحابِ اليمينِ أي: يسلِّمونَ عليهِ ويحيُّونَهُ عندَ وصولِهِ إليهم ولقائِهم لهُ، أو يُقالُ لهُ: سلامٌ لكَ مِن الآفاتِ والبليَّاتِ والعذابِ، لأنَّكَ مِن أصحابِ اليمينِ، الَّذين سَلِمُوا مِن الذُّنوبِ الموبقاتِ.

{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} أي: الَّذينَ كذَّبُوا بالحقِّ وضلُّوا عن الهدى.

{فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي: ضيافتُهم يومَ قدومِهم على ربِّهم تصليةُ الجحيمِ الَّتي تحيطُ بهم، وتصلُ إلى أفئدتِهم، وإذا استغاثُوا مِن شدَّةِ العطشِ والظَّمأِ {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]

{إِنَّ هَذَا} الَّذي ذكرَهُ اللهُ تعالى، مِن جزاءِ العبادِ بأعمالِهم، خيرِها وشرِّها، وتفاصيلِ ذلكَ {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي: الَّذي لا شكَّ فيهِ ولا مِريةَ، بل هوَ الحقُّ الثَّابتُ الَّذي لا بدَّ مِن وقوعِهِ، وقد أشهدَ اللهُ عبادَهُ الأدلَّةَ القواطعَ على ذلكَ، حتَّى صارَ عندَ أولي الألبابِ كأنَّهم ذائقونَ لهُ مشاهدونَ لحقيقتِهِ فحمدُوا اللهَ تعالى على ما خصَّهم بهِ مِن هذهِ النِّعمةِ العظيمةِ، والمنحةِ الجسيمةِ.

ولهذا قالَ تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} فسبحانَ ربِّنا العظيمِ، وتعالى وتنزَّهَ عمَّا يقولُ الظَّالمونَ والجاحدونَ علوًّا كبيرًا.

والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيهِ.

تمَّ تفسيرُ سورةِ الواقعةِ.  انتهى

– طالب: أحسنَ اللهُ إليكم شيخَنا ورضيَ اللهُ عنكم إذا فسَّرْنا قولَه تعالى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} بالمرادِ به أنَّ القرآنَ مكتوبٌ في اللَّوح محفوظٌ، ألا يكون فيه شبهةٌ للأشاعرة أنَّ كلامَ اللهِ قديمٌ؟

الشيخ : لا، هم ما يقولون.. اللَّوحُ المحفوظُ قديمٌ؟ هل اللَّوحُ المحفوظُ قديمٌ؟

– طالب: لا، ليس بقديمٍ

الشيخ : أيش المعنى القديم بالمصطلح عندَهم؟ القديمُ هو الَّذي لا بدايةَ له، واللَّوحُ المحفوظُ مخلوقٌ، وإذا كانَ المكتوبُ في اللَّوحِ المحفوظِ فهو قديمٌ قدمًا نسبيًّا لا قدمًا مطلقًا، يعني كلامُهم من أبعدِ الأقوالِ عن العقل والشَّرع، يقولون: "إنَّ كلامَ اللهِ معنىً نفسيٌّ"، إنَّهم بهذا يشبِّهون اللهَ بالأخرسِ -تعالى اللهُ- يعني أنَّ قولَهم يقتضي أنَّ اللهَ أخرسُ، يكونُ في نفسِه المعاني ولا يُسمَعُ له ولا يتكلَّمُ بمشيئةٍ.

– طالب: وكيف يكونُ الكلامُ بمشيئةٍ في هذه الحالةِ إذا كانَ كلُّه في اللَّوحِ المحفوظِ؟

الشيخ : يتكلَّمُ به.. هذا ما يمنعُ أنَّه يتكلَّمُ به عندَ إنزالِه، ما يمنعُ، اللَّوحُ المحفوظُ شاملٌ لكلِّ ما سيكونُ من أفعالِ الرَّبِّ وأفعالِ العبادِ.