الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الحديد/(7) من قوله تعالى {ما أصاب من مصيبة في الأرض} الآية 22 إلى قوله تعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} الآية 25
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(7) من قوله تعالى {ما أصاب من مصيبة في الأرض} الآية 22 إلى قوله تعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} الآية 25

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الحديد

الدَّرس: السَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:22-25]

– الشيخ : إلى هنا.

الحمدُ لله، يخبرُ تعالى أنَّه لا تكونُ مصيبةٌ في الأرض ولا في الأنفسِ إلَّا وهي في كتابٍ سابقٍ وهو كتابُ القدرِ، وسمَّاه اللهُ: "أُمَّ الْكِتَابِ" و "اللَّوحَ المحفوظَ"، وكلُّ ما يجري في هذا الوجودِ فإنَّه قد سبقَ به علمُ اللهِ وكتابُهُ، ومن ذلكَ المصائبُ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} يعني: هي مكتوبةٌ قبلَ وجودِها، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}.

{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} كتابةُ الأقدارِ يسيرٌ على اللهِ لكمالِ علمِه وكمالِ قدرتِه سبحانَه وتعالى، لكمالِ علمِه وكمالِ قدرتِه.

ثمَّ بيَّنَ شيئًا من الحكمةِ في إعلامِ العبادِ بذلك {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} إذا علمَ العبدُ أنَّ كلَّ ما يصيبُه وكلَّ ما يقعُ في الأرضِ من الحوادثِ أنَّه قد سبقَ به الكتابُ لم يحزنْ على ما فاتَه؛ لأنَّه يعلمُ أنَّه أمرٌ قد سبقَ، ولا يفرحُ بما حصلَ له؛ لأنَّه يعلمُ أنَّ هذا قد سبقَ به علمُ اللهِ فيؤمنُ بأنَّ ما أصابَه لم يكنْ ليخطئَهُ وما أخطأَه لم يكنْ ليصيبَه، وهذا من ثمراتِ ومقتضياتِ الإيمانِ بالقدرِ، لا يكونُ العبدُ مؤمنًا بالقدرِ حتَّى يؤمنَ بأنَّ ما أصابَه لم يكنْ ليخطئَهُ وما أخطأَه لم يكن ليصيبَه، فما أصابَه فقد سبقَ علمُ اللهِ وكتابُه أنَّه سيصيبُه وما أخطأَه فقد سبقَ في علمِ اللهِ وكتابِه أنَّه يخطئُه ولا يصيبُه، وحينئذٍ لا يحزنُ على فائتٍ ولا يفرحُ بحاضرٍ، لا يفرحُ بحظٍّ، والمقصودُ ألَّا ييْئَسَ اليأسَ الَّذي فيه القنوطُ والتَّحسُّرُ ولا يفرحَ الفرحَ الَّذي فيه الأشرُ والبطرُ، وإلَّا فالإنسانُ مجبولٌ على الأسى على ما يفوتُ وعلى الفرحِ بما يحصلُ له من المحبوبِ، لكن المقصودُ هو التَّحذيرُ من الإفراطِ في اليأسِ أو الإفراطِ في الفرحِ.

{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فيهِ ذمُّ الاختيالِ وهو من صورِ ومن مظاهرِ الكِبرِ إنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ، وكذلكَ الفخرُ والتَّعاظُمُ على النَّاس بما يُؤتَاهُ الإنسانُ فإنْ أُوتِيَ حظًّا عظيمًا فليشكرِ اللهَ ولا يفخرْ على عبادِ اللهِ، وليتواضعْ للهِ ولعبادِ اللهِ.

ثمَّ قالَ تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} يبخلونَ بما أوجبَ اللهُ عليهم، {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} لم يكتفوا ببخلِهم بل صارُوا دعاةً للبخلِ، البخلُ بما أوجبَ اللهُ من مالٍ أو عملٍ {وَمَنْ يَتَوَلَّ} يعني: يعرضُ عن طاعةِ اللهِ فإنَّ اللهَ غنيٌّ عنهُ {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} لن يضرَّ اللهَ، لن يضرَّ اللهَ شيئًا، إنَّما يضرُّ…، (مَن يطعِ اللهَ ورسولَهُ فقد رشدَ، ومَن يعصِ اللهَ ورسولَهُ لم يضرَّ إلَّا نفسَهُ)، {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} يخبرُ تعالى عن منَّتِهِ على العبادِ بإرسالِ الرُّسلِ وإنزالِ الكتبِ من نوحٍ -عليهِ السَّلامُ- إلى محمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسلَهم بالآياتِ الدَّالَّةِ على ربوبيَّتِهِ وإلهيَّتِهِ وأسمائِه وصفاتِه وبالأدلَّةِ الدَّالَّةِ على صدقِ رسلِهِ، {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} والميزانُ هو العدلُ الَّذي تضمَّنَه القرآنُ، {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أنزلَ اللهُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ من أجلِ أن يقومَ النَّاسُ بالعدلِ، ويجتنبوا الجورَ في الأقوالِ والأعمالِ {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} قالَ العلماءُ: إنَّ الحديدَ كثيرًا ما يُؤخَذُ من الجبالِ، من رؤوسِ الجبالِ، فاللهُ ينزلُه وييسِّرُ أسبابَ إنزالِهِ، والحديدُ كما وصفَه اللهُ {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ولهذا هو آلةُ الحربِ، آلةُ الحروبِ من الحديدِ، {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} منافعُ هذه عامَّةٌ تشملُ كلَّ المنافعِ الَّتي يُستعمَلُ فيها الحديدُ من آلاتِ الحربِ ومن آلاتِ البناءِ وآلاتِ القتالِ وآلاتِ وآلاتِ، كثيرٌ من الأدواتِ والآلاتِ من الحديدِ، وقد ظهرَتْ منافعُ الحديدِ أكثرَ وأكثرَ بظهورِ هذه الحضارةِ وتطوُّرِ الصِّناعة صارَ الآن الحديدُ يُستعمَلُ في أشياء لم يكن مستعمَلًا فيها، انظروا الأبواب الآن الأبوابُ كلُّها من الحديدِ، سواءً كانَتْ على دورٍ مهمَّةٍ لم يُقتصَرْ فيها على الخزائنِ والمستودعاتِ، لا، بل جميعُ أبوابِ النَّاسِ حديدٌ، فهذه كمِّيَّاتٌ تُستخرَجُ من الأرضِ، سبحان الله، {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} كلمةٌ واسعةٌ {وَمَنَافِعُ} هذه الكلمةُ {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} جميعُ المنافعِ الَّتي تحصلُ للنَّاسِ بالحديدِ داخلةٌ في هذا العمومِ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]

ولما كانَ الحديدُ هو الوسيلةُ للقتالِ ندبَ العبادَ إلى نصرةِ اللهِ ورسلِهِ بالجهادِ في سبيل اللهِ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، [والآيةُ الَّتي في هذه السُّورةِ هيَ: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}] اللهُ قويٌّ غالبٌ لا يغلبُه شيءٌ وليسَ بحاجةٍ إلى العبادِ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} نصرةُ اللهِ تكونُ بنصرِ دينِهِ ونصرِ رسلِهِ.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ} الآياتِ:

يقولُ تعالى مخبرًا عن عمومِ قضائِهِ وقدرِهِ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} وهذا شاملٌ لعمومِ المصائبِ الَّتي تصيبُ الخلقَ، مِن خيرٍ وشرٍّ، فكلُّها قد كُتِبَتْ في اللَّوحِ المحفوظِ، صغيرِها وكبيرِها، وهذا أمرٌ عظيمٌ لا تحيطُ بهِ العقولُ، بل تذهلُ عندَهُ أفئدةُ أولي الألبابِ، ولكنَّهُ على اللهِ يسيرٌ، وأخبرَ اللهُ عبادَهُ بذلكَ لأجلِ أنْ تتقرَّرَ هذهِ القاعدةُ عندَهم، ويبنوا عليها ما أصابَهم مِن الخيرِ والشَّرِّ، فلا يأسَوا ويحزنُوا على ما فاتَهم، ممَّا طمحَتْ لهُ أنفسُهم وتشوَّفُوا إليهِ، لعلمِهم أنَّ ذلكَ مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ، لا بدَّ مِن نفوذِهِ ووقوعِهِ، فلا سبيلَ إلى دفعِهِ، ولا يفرحُوا بما آتاهم اللهُ فرحَ بطرٍ وأشَرٍ، لعلمِهم أنَّهم ما أدركُوهُ بحولِهم وقوَّتِهم، وإنَّما أدركُوهُ بفضلِ اللهِ ومَنِّهِ، فيشتغلُوا بشكرِ مَن أولى النِّعمَ ودفعَ النِّقمَ، ولهذا قالَ: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: متكبِّرٍ فظٍّ غليظٍ، معجَبٍ بنفسِهِ، فخورٍ بنعمِ اللهِ، ينسبُها إلى نفسِهِ، وتطغيهِ وتلهيهِ، كما قالَ تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر:49]

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي: يجمعونَ بينَ الأمرَينِ الذَّميمَينِ، اللَّذَيْنِ كلٌّ منهما كافٍ في الشَّرِّ، البخلُ: وهوَ منعُ الحقوقِ الواجبةِ، ويأمرونَ النَّاسَ بذلكَ، فلم يكفِهم بخلُهم، حتَّى أمرُوا النَّاسَ بذلكَ، وحثُّوهم على هذا الخلقِ الذَّميمِ، بقولِهم وفعلِهم، وهذا مِن إعراضِهم عن طاعةِ ربِّهم وتولِّيهم عنها، {وَمَنْ يَتَوَلَّ} عن طاعةِ اللهِ فلا يضرُّ إلَّا نفسَهُ، ولن يضرَّ اللهَ شيئًا، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} الَّذي غناهُ مِن لوازمِ ذاتِهِ، الَّذي لهُ ملكُ السَّمواتِ والأرضِ، وهوَ الَّذي أغنى عبادَهُ وأقناهم، الحميدُ الَّذي لهُ كلُّ اسمٍ حسنٍ، ووصفٍ كاملٍ، وفعلٍ جميلٍ، يستحقُّ أنْ يُحمَدَ عليهِ ويُثنَى ويُعظَّمَ.

قالَ اللهُ تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ…} الآياتِ:

يقولُ تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} وهيَ الأدلَّةُ والشَّواهدُ والعلاماتُ الدَّالَّةُ على صدقِ ما جاؤُوا بهِ وحقيَّتِهِ.

{وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} وهوَ اسمُ جنسٍ يشملُ سائرَ الكتبِ الَّتي أنزلَها اللهُ لهدايةِ الخلقِ وإرشادِهم، إلى ما ينفعُهم في دينِهم ودنياهم، {وَالْمِيزَانَ} وهوَ العدلُ في الأقوالِ والأفعالِ، والدِّينُ الَّذي جاءَتْ بهِ الرُّسلُ، كلُّهُ عدلٌ وقسطٌ في الأوامرِ والنَّواهي وفي معاملاتِ الخلقِ، وفي الجناياتِ والقصاصِ والحدودِ والمواريثِ وغيرِ ذلكَ، وذلكَ {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} قيامًا بدينِ اللهِ، وتحصيلًا لمصالحِهم الَّتي لا يمكنُ حصرُها وعدُّها، وهذا دليلٌ على أنَّ الرُّسلَ متَّفقونَ في قاعدةِ الشَّرعِ، وهوَ القيامُ بالقِسطِ، وإن اختلفَتْ أنواعُ العدلِ، بحسبِ الأزمنةِ والأحوالِ، {وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} مِن آلاتِ الحربِ كالسِّلاحِ والدُّروعِ وغيرِ ذلكَ.

{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وهوَ ما يُشاهَدُ مِن نفعِهِ في أنواعِ الصِّناعاتِ والحِرفِ، والأواني

– الشيخ : كانَتْ من آلاتِ الحربِ الَّتي تُصنَعُ من الحديدِ: الدُّروعُ، وهي نسجٌ بأشياءٍ من الحديدِ، حِلَقٌ يُربَطُ بعضُها ببعضٍ، وقد نوَّهَ اللهُ بذلك وأنَّ ذلك من صناعةِ داودَ -عليه السَّلامُ-: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:10-11] يعني: دروعٌ سابغةٌ لأبدانِ الفرسانِ {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ:10-11]، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80]، فهذا ممَّا يُنتفَعُ فيهِ بالحديدِ.

 

– القارئ : {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وهوَ ما يُشاهَدُ مِن نفعِهِ في أنواعِ الصِّناعاتِ والحِرفِ، والأواني وآلاتِ الحرثِ، حتَّى إنَّهُ قلَّ أنْ يُوجَدَ شيءٌ إلَّا وهوَ يحتاجُ إلى الحديدِ.

{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أي: ليقيمَ تعالى سوقَ الامتحانِ بما أنزلَهُ مِن الكتابِ والحديدِ، فيتبيَّنَ مَن ينصرُهُ وينصرُ رسلَهُ في حالِ الغيبِ، الَّتي ينفعُ فيها الإيمانُ قبلَ الشَّهادةِ، الَّتي لا فائدةَ بوجودِ الإيمانِ فيها، لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ ضروريًّا.

{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: لا يُعجزُهُ شيءٌ، ولا يفوتُهُ هاربٌ، ومِن قوَّتِهِ وعزَّتِهِ أنْ أنزلَ الحديدَ الَّذي منهُ الآلاتُ القويَّةُ، ومِن قوَّتِهِ وعزَّتِهِ أنَّهُ قادرٌ على الانتصارِ مِن أعدائِهِ، ولكنَّهُ يبتلي أولياءَهُ بأعدائِهِ، ليعلمَ مَن ينصرُهُ بالغيبِ، وقرنَ تعالى في هذا الموضعِ بينَ الكتابِ والحديدِ، لأنَّ بهذينِ الأمرَينِ ينصرُ اللهُ دينَهُ، ويعلي كلمتَهُ بالكتابِ الَّذي فيهِ الحجَّةُ والبرهانُ والسَّيفُ النَّاصرُ بإذنِ اللهِ، وكلاهما قيامُهُ بالعدلِ والقسطِ، الَّذي يُستدَلُّ بهِ على حكمةِ الباري وكمالِهِ، وكمالِ شريعتِهِ الَّتي شرعَها على ألسنةِ رسلِهِ.

ولمَّا ذكرَ نبوَّةَ الأنبياءِ عمومًا ذكرَ مِن خواصِّهم النَّبيَّينِ الكريمَينِ نوحًا وإبراهيمَ

– الشيخ : إلى آخرِهِ.