الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الحشر/(1) من قوله تعالى {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض} الآية 1 إلى قوله تعالى {ما قطعتم من لينة} الآية 5
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(1) من قوله تعالى {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض} الآية 1 إلى قوله تعالى {ما قطعتم من لينة} الآية 5

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الحشر

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:1-5]

الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله.

هذه سورةُ الحشرِ، سُمِّيَتْ بذلك لقوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} وهي مدنيَّةٌ، أي: نزلَتْ بعدَ الهجرةِ على المصطلحِ المشهورِ.

وافتُتِحَتْ هذه السُّورةُ بالتَّسبيحِ، بالخبرِ عن تسبيحِ العوالمِ السَّماويَّةِ والأرضيَّةِ {سَبَّحَ لِلَّهِ} أن نزَّهَ اللهَ وقدَّسَ اللهَ وأثنى على اللهِ {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فالعوالمُ كلُّها تسبِّحُ بحمدِهِ {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} القويُّ الغالبُ سبحانَهُ وتعالى.

ثمَّ يذكرُ تعالى ما فعلَهُ ببني النَّضيرِ من اليهودِ الَّذين خانوا اللهَ ورسولَه ونكثُوا العهدَ، أخرجَهم {مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}، قالَ اللهُ: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا}، {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} لأنَّهم لديهم قوَّةٌ ومنَعَةٌ وحصونٌ {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} ظنُّوا أنَّ حصونَهم تمنعُهم من نقمةِ اللهِ بهم.

{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أتاهم اللهُ بأن سلَّطَ عليهم رسولَه والمؤمنين، ولعلَّهم ما ظنُّوا أنَّ الرَّسولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يغزوهم ويحاصرُهم {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} ألقى اللهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فغزاهم المسلمون وحاصرُوهم حتَّى اتَّفقوا معَ الرَّسولِ على الجلاء، على أنْ يرحلوا ويأخذوا ما قدروا عليه من أموالِهم، إلَّا ما يتعلَّقُ بالحربِ من السِّلاحِ والكِراعِ.

وصاروا يهدمون بيوتَهم ليأخذوا بعضَ ما فيها من أثاثٍ وأبوابٍ ونحوها {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} تفكَّروا وتذكَّروا واحذروا فإنَّ هذا فعلُ اللهِ بمن عصاهُ {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فإنَّ سنَّةَ اللهِ ماضيةٌ في الكافرين وهي الهلاكُ والدَّمارُ والخزيُ والعارُ في الدُّنيا والآخرةِ {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال:38]

قالَ اللهُ: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ}، {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} وهو الرَّحيلُ من ديارهم، لولا أنَّ اللهَ كتبَ عليهم الرَّحيلَ من ديارِهم {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} بالقتلِ على أيدي المؤمنينَ أو بعذابٍ ينزلُه من السَّماء أو يخسفُ بهم الأرضَ كما يشاءُ {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} لكن اقتضَتْ حكمتُه أن يرحلوا من ديارِهم، {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا…}

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} هذا هو سببُ ما حلَّ بهم أنْ {شَاقُّوا اللَّهَ} عادوا اللهَ وعادوا الرَّسولَ والمؤمنين وآذوهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فعلى النَّاسِ أنْ يحذروا من أسبابِ عذابِ اللهِ من مشاقَّةِ اللهِ ورسولِهِ {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} لما حاصرَهم المسلمون حاصرُوا بني النَّضير حتَّى اضطرُّوهم للجلاءِ كانُوا يراغمونهم فكانوا يقطعون النَّخيلَ، نخل بني النَّضير يقطعونها إرغامًا لهم فكانَ اليهودُ يقولون: كيف؟ هذا إفسادٌ؟! كيف تقطعون النَّخيلَ وهي أشجارٌ مثمرةٌ مفيدةٌ، فردَّ اللهُ عليهم بقوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} ما فعلَه الرَّسولُ والمسلمون من قطعِ أشجارِ اليهودِ هذا بإذنِ اللهِ وحكمِهِ وحينئذٍ ففيه الصَّلاحُ، ولا ريبَ أنَّ إتلافَ أموالِ الكفَّارِ مراغمةً لهم إنَّه خيرٌ وهو من الجهادِ.

 

(تفسيرُ الشَّيخِ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى-: تفسيرُ سورةِ الحشرِ، وهيَ مدنيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} الآياتِ:

هذهِ السُّورةُ تُسمَّى "سورةُ بني النَّضيرِ" وهم طائفةٌ كبيرةٌ مِن اليهودِ في جانبِ المدينةِ، وقتَ بعثةِ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلمَّا بُعِثَ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهاجرَ إلى المدينةِ،

– الشيخ : ثلاثُ طوائفَ حولَ المدينةِ من اليهودِ: بنو النَّضير هؤلاء، وبنو قَيْنُقَاع، وبنو قريظة، ولما هاجرَ النَّبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- وادعَهم أي: عاهدَهم أي مسالمة ألَّا يحاربوه ولا يعينوا عليه، وكلُّ هؤلاءِ قد نقضُوا العهدَ وصارُوا إلى ما صارُوا إليه من قتلٍ وتشريدٍ.

 

– القارئ : فلمَّا بُعِثَ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهاجرَ إلى المدينةِ، كفرُوا بهِ في جملةِ مَن كفرَ مِن اليهودِ، فلمَّا هاجرَ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينةِ فهادنَ سائرَ طوائفِ اليهودِ الَّذينَ هم جيرانُهُ في المدينةِ، فلمَّا كانَ بعدَ وقعةِ بدرٍ بستَّةِ أشهرٍ أو نحوِها، خرجَ إليهم النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكلَّمَهم أنْ يعينُوهُ في ديَّةِ الكلابيِّينَ الَّذينَ قتلَهم عمروُ بنُ أميَّةَ الضَّمْريُّ، فقالُوا: نفعلُ يا أبا القاسمِ، اجلسْ هاهنا حتَّى نقضيَ حاجتَكَ، فخلا بعضُهم ببعضٍ، وسوَّلَ لهم الشَّيطانُ الشَّقاءَ الَّذي كُتِبَ عليهم، فتآمرُوا بقتلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقالُوا: أيُّكم يأخذُ هذهِ الرَّحى فيصعدُ فيلقيها على رأسِهِ يَشدخُهُ بها؟ فقالَ أشقاهم عمروُ بنُ جِحَاشٍ: أنا، فقالَ لهم سلامُ بنُ مشكمَ: لا تفعلُوا، فواللهِ ليُخْبَرَنَّ بما هممْتُم بهِ، وإنَّهُ لنقضُ العهدِ الَّذي بينَنا وبينَهُ، وجاءَ الوحيُ على الفورِ إليهِ مِن ربِّهِ، بما همُّوا بهِ، فنهضَ مسرعًا، فتوجَّهَ إلى المدينةِ، ولحقَهُ أصحابُهُ، فقالُوا: نهضْتَ ولم نشعرْ بكَ، فأخبرَهم بما همَّتْ يهودُ بهِ.

وبعثَ إليهم رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أنْ اخرجُوا مِن المدينةِ ولا تساكنوني بها، وقد أجَّلْتُكم عشرًا، فمَن وجدْتُ بعدَ ذلكَ بها ضربْتُ عنقَهُ).

فأقامُوا أيَّامًا يتجهَّزونَ، وأرسلَ إليهم المنافقُ عبدُ اللهِ بنُ أبيِّ بنُ سلولٍ: "أن لا تخرجُوا مِن ديارِكم، فإنَّ معي ألفَينِ يدخلونَ معَكم حصنَكم، فيموتونَ دونَكم، وتنصرُكم قريظةُ وحلفاؤُكم مِن غطفانَ".

وطمعَ رئيسُهم حُيَي بنُ أخطبَ فيما قالَ لهُ، وبعثَ إلى رسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولُ: إنَّا لا نخرجُ مِن ديارِنا، فاصنعْ ما بدا لكَ.

فكبَّرَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابُهُ، ونهضُوا إليهم، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ يحملُ اللِّواءَ.

فأقامُوا على حصونِهم يرمونَ بالنَّبْلِ والحجارةِ، واعتزلَتْهم قريظةُ، وخانَهم ابنُ أُبَيٍّ وحلفاؤُهم مِن غطفانَ، فحاصرَهم رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقطعَ نخلَهم وحَرَّقَ. فأرسلُوا إليهِ: نحنُ نخرجُ مِن المدينةِ، فأنزلَهم على أنْ يخرجُوا منها بنفوسِهم، وذراريهم، وأنَّ لهم ما حملَتْ إبلُهم إلَّا السِّلاحَ، وقبضَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأموالَ والسِّلاحَ.

وكانَتْ بنو النَّضيرِ خالصةً لرسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنوائبِهِ ومصالحِ المسلمينَ، ولم يُخَمِّسْها، لأنَّ اللهَ أفاءَها عليهِ، ولم يُوجِفْ المسلمونَ عليها بخيلٍ ولا ركابٍ، وأجلاهم إلى خيبرَ وفيهم حُييُّ بنُ أخطبَ كبيرُهم، واستولى على أرضِهم وديارِهم، وقبضَ السِّلاحَ، فوجدَ مِن السِّلاحِ خمسينَ درعًا، وخمسينَ بيضةً، وثلاثمائةٍ وأربعينَ سيفًا، هذا حاصلُ قصَّتِهم كما ذكرَها أهلُ السِّيرِ.

فافتتحَ تعالى هذهِ السُّورةَ بالإخبارِ أنَّ جميعَ مَن في السَّمواتِ والأرضِ تسبِّحُ بحمدِ ربِّها، وتنزِّهُهُ عمَّا لا يليقُ بجلالِهِ، وتعبدُهُ وتخضعُ لعظمتِهِ لأنَّهُ العزيزُ الَّذي قد قهرَ كلَّ شيءٍ، فلا يمتنعُ عليهِ شيءٌ، ولا يستعصي عليهِ عسيرٌ الحكيمُ في خلقِهِ وأمرِهِ، فلا يخلقُ شيئًا عبثًا، ولا يَشْرَعُ ما لا مصلحةَ فيهِ، ولا يفعلُ إلَّا ما هوَ مقتضى حكمتِهِ.

ومِن ذلكَ، نصرُ اللهِ لرسولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الَّذينَ كفرُوا مِن أهلِ الكتابِ مِن بني النَّضيرِ حينَ غدرُوا برسولِهِ فأخرجَهم مِن ديارِهم وأوطانِهم الَّتي أَلِفُوها وأحبُّوها.

وكانَ إخراجُهم منها أوَّلَ حشرٍ وجلاءٍ كتبَهُ اللهُ عليهم على يدِ رسولِهِ محمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فجلَوا إلى خيبرَ، ودلَّتِ الآيةُ الكريمةُ أنَّ لهم حشرًا وجلاءً غيرَ هذا، فقد وقعَ حينَ أجلاهم النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن خيبرٍ، ثمَّ عمرُ -رضيَ اللهُ عنهُ- أخرجَ بقيَّتَهم منها.

{مَا ظَنَنْتُمْ} أيُّها المسلمونَ {أَنْ يَخْرُجُوا} مِن ديارِهم، لحصانتِها، ومنعتِها، وعزِّهم فيها.

{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} فأُعجِبُوا بها وغرَّتْهم، وحسبُوا أنَّهم لا يُنالونَ بها، ولا يقدرُ عليها أحدٌ، وَقَدَرُ اللهِ تعالى وراءَ ذلكَ كلِّهِ، لا تُغني عنهُ الحصونُ والقِلاعُ، ولا تُجدي فيهم القوَّةُ والدِّفاعُ.

ولهذا قالَ: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي: مِن الأمرِ والبابِ، الَّذي لم يخطرْ ببالِهم أنْ يُؤْتَوْا منهُ، وهوَ أنَّهُ تعالى {قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} وهوَ الخوفُ الشَّديدُ، الَّذي هوَ جندُ اللهِ الأكبرُ، الَّذي لا ينفعُ معَهُ عددٌ ولا عدَّةٌ، ولا قوَّةٌ ولا شدَّةٌ، فالأمرُ الَّذي يحتسبونَهُ ويظنُّونَ أنَّ الخللَ يدخلُ عليهم منهُ إنْ دخلَ هوَ الحصونَ الَّتي تحصَّنُوا بها، واطمأنَّتْ نفوسُهم إليها، ومَن وثقَ بغيرِ اللهِ فهوَ مخذولٌ، ومَن ركنَ إلى غيرِ اللهِ كانَ وبالٌ عليه ، فأتاهم أمرٌ سماويٌّ نزلَ على قلوبِهم، الَّتي هيَ محلُّ الثَّباتِ والصَّبرِ، أو الخورِ والضَّعفِ، فأزالَ اللهُ قوَّتَها وشدَّتَها، وأورثَها ضعفًا وخورًا وجبنًا، ، فصارَ ذلكَ عونًا عليهم، ولهذا قالَ: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} وذلكَ أنَّهم صالحُوا النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، على أنَّ لهم ما حملَتِ الإبلُ.

فنقضُوا لذلكَ كثيرًا مِن سقوفِهِم، الَّتي استحسنُوها، وسلَّطُوا المؤمنينَ بسببِ بغيِهم على إخرابِ ديارِهم وهدمِ حصونِهم، فهم الَّذينَ جَنَوا على أنفسِهم، وصارُوا مِن أكبرِ عونٍ عليها، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ} أي: البصائرِ النَّافذةِ، والعقولِ الكاملةِ، فإنَّ في هذا مُعتبَرًا يُعرَفُ بهِ صُنعُ اللهِ تعالى في المعاندينَ للحقِّ، المتَّبعينَ لأهوائِهم، الَّذين لم تنفعْهم عزَّتُهم، ولا منعَتْهم قوَّتُهم، ولا حصَّنَتْهم حصونُهم، حينَ جاءَهم أمرُ اللهِ، ووصلَ إليهم النَّكالُ بذنوبِهم، والعبرةُ بعمومِ اللَّفظِ لا بخصوصِ السَّببِ، فإنَّ هذهِ الآيةَ تدلُّ على الأمرِ بالاعتبارِ، وهوَ اعتبارُ النَّظيرِ بنظيرِهِ، وقياسُ الشَّيءِ على ما يشابهُهُ، والتَّفكُّرُ فيما تضمَّنَتْهُ الأحكامُ مِن المعاني والحكمِ الَّتي هيَ محلُّ العقلِ والفكرةِ، وبذلكَ يكملُ العقلُ، وتتنوَّرُ البصيرةُ ويزدادُ الإيمانُ، ويحصلُ الفهمُ الحقيقيُّ، ثمَّ أخبرَ تعالى أنَّ هؤلاءِ اليهودَ لم يصبْهم جميعُ ما يستحقُّونَ مِن العقوبةِ، وأنَّ اللهَ خفَّفَ عنهم.

ولولا أنَّهُ كتبَ عليهم الجلاءَ الَّذي أصابَهم وقضاهُ عليهم وقدَّرَهُ بقدرِهِ الَّذي لا يُبدَّلُ ولا يُغيَّرُ، لكانَ لهم شأنٌ آخرُ مِن عذابِ الدُّنيا ونكالِها، ولكنَّهم -وإنْ فاتَهم العذابُ الشَّديدُ الدُّنيويُّ- فإنَّ لهم في الآخرةِ عذابَ النَّارِ، الَّذي لا يمكنُ أنْ يعلمَ شِدَّتَهُ إلَّا اللهُ، فلا يخطرُ ببالِهم أنَّ عقوبتَهم قد انقضَتْ وفرغَتْ ولم يبقَ لهم منها بقيَّةٌ، فما أعدَّ اللهُ لهم مِن العذابِ في الآخرةِ أعظمُ وأطمُّ.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وعادَوهما وحاربُوهما، وسعَوا في معصيتِهما.

وهذهِ عادتُهُ وسنَّتُهُ فيمن شاقَّهُ {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}

ولَمَّا لامَ بنو النَّضيرِ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمسلمينَ في قطعِ النَّخيلِ والأشجارِ، وزعمُوا أنَّ ذلكَ مِن الفسادِ، وتوصَّلُوا بذلكَ إلى الطَّعْنِ بالمسلمينَ، أخبرَ تعالى أنَّ قطعَ النَّخيلِ إنْ قطعُوهُ أو إبقاءَهم إيَّاهُ إنْ أبقَوهُ، إنَّهُ بإذنِهِ تعالى، وأمرِهِ {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} حيثُ سلَّطَكم على قطعِ نخلِهم، وتحريقِها، ليكونَ ذلكَ نكالًا لهم، وخزيًا في الدُّنيا، وذلًّا يُعرَفُ بهِ عجزُهم التَّامُّ، الَّذي ما قدرُوا على استنقاذِ نخلِهم، الَّذي هوَ مادَّةُ قُوْتِهِم. واللِّينةُ: تشملُ سائرَ النَّخيلِ على أصحِّ الاحتمالاتِ وأولاها، فهذهِ حالُ بني النَّضيرِ، وكيفَ عاقبَهم اللهُ في الدُّنيا.

ثمَّ ذكرَ مَن انتقلَتْ إليهِ أموالُهم وأمتعتُهم

– الشيخ : إلى آخرِهِ.