بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الحشر
الدَّرس: الخامس
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[الحشر:22-24]
– الشيخ : الحمدُ للهِ، تُختَمُ هذهِ السُّورةُ بالآياتِ الثَّلاث، بثلاثِ آياتٍ مشتملةٍ على بعضِ أسماءِ اللهِ الحسنى، وافتُتِحَتْ بالتَّوحيدِ بتوحيدِ اللهِ {هُوَ اللَّهُ} هذا الاسمُ هو الجامعُ لجميعِ معاني الأسماءِ الحسنى والصِّفاتِ العُلا، هو الاسمُ الجامعُ، حتَّى قيلَ: إنَّه الاسمُ الأعظمُ "الله"، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هذا هو التَّوحيدُ، توحيدُ الإلهيَّةِ وهو أصلُ دينِ الإسلامِ دين الرُّسل من أوَّلهم إلى آخرهم "لا إله إلَّا الله" هي كلمةُ التَّوحيدِ.
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} هذا أيضًا صفةٌ واسمٌ، صفةٌ له سبحانه وتعالى واسمٌ من أسمائِه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} هذا اللَّفظُ لا يُطلَقُ إلَّا على الله، هو عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} أيضًا اسمانِ من أسمائِه الحسنى يدلَّان على صفةِ الرَّحمة له سبحانَه وتعالى، واسمُه "الرَّحمنُ" يدلُّ على الرَّحمة العامَّة لجميعِ الخلقِ، و "الرَّحيم" يدلُّ على الرَّحمةِ الخاصَّةِ، وكانَ بالمؤمنين رحيمًا، {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}.
ثمَّ قالَ تعالى: {هُوَ اللَّهُ} هذهِ الآيةُ الثَّانيةُ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ}، {الْمَلِكُ} هو الَّذي له الملكُ ملكُ السَّموات والأرض وما فيهنَّ وما بينهنَّ هو خالقُها ومدبِّرُها كما يشاءُ سبحانَهُ وتعالى.
{الْقُدُّوسُ} يعني: المتقدِّسُ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، الطَّاهرُ عن كلِّ عيبٍ وآفةٍ، {السَّلَامُ} كذلكَ قريبٌ من معناه، أي: السَّالمُ من العيوبِ والآفاتِ والنَّقائصِ، فاسمُه السَّلامُ ومنه السَّلامُ.
{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ}، {الْمُؤْمِنُ} من الأمنِ، يعني: المؤمنُ لعبادِهِ، {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} فهو الَّذي يعطي الأمنَ لمن يشاءُ، وقبلَ معناه المصدِّق للصَّادقين بإظهارِ دلائلِ صدقِهم، {الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ} يعني: القويُّ الغالبُ الَّذي لا يغلبُه شيءٌ، قالَ تعالى: {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]
{الْجَبَّارُ} فيه معنى القوَّة، وهو الَّذي يجبرُ الكسيرَ، يجبرُ قلوبَ المنكسرين ويجبرُ الكسيرَ فهو الجبَّارُ، فيه معنى القوَّة وفيه معنى الجبر، جبرُ الكسرِ {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} يعني: المتعالي عن كلِّ سوءٍ وعن كلِّ نقصٍ، فلهُ {الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:37]، فالتَّكبُّرُ في النَّاس نقصٌ، التَّكبُّرُ في العباد نقصٌ؛ لأنَّ العبدَ إذا تكبَّرَ كانَ متجاوزًا لحدِّه، أمَّا التَّكبُّرُ في حقِّ اللهِ فهو كمالٌ؛ لأنَّه الكبيرُ المتعالي سبحانَه وتعالى.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} "سُبْحَانَ اللَّهِ" تنزيهٌ، هذه كلمةُ تنزيهٍ، إذا قلْتَ: سبحانَ اللهِ، يعني: تنزيهًا لله عن كلِّ إفكٍ وشركٍ ونقصٍ وعيبٍ، تنزيهًا للهِ {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: سبحانَ اللهِ عن شركِ المشركين، سبحانَه على أن يكونَ له شريكٌ، فلا شريكَ له سبحانَه في ربوبيَّتِه وإلهيَّتِه وأسمائِه وصفاتِه، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فمَن هذه أسماؤُه وهذه صفاتُه كيف يكونُ له شريكٌ أو يكونُ له نظيرٌ، فلا كفؤَ له ولا نِدَّ ولا سَمِيَّ.
ثمَّ قالَ تعالى في الآيةِ الثَّالثةِ: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} فُسِّرَ {الْخَالِقُ} بالمقدِّرِ، هو الَّذي قدَّرَ الأقدارَ وجعلَ لكلِّ شيءٍ قدرًا سبحانه وتعالى، وهو الَّذي يبرزُ الشَّيءَ إلى الوجودِ فهو قدَّرَ الأقدارَ وأوجدَ ما شاءَ ممَّا قدَّرَه سبحانَه وتعالى، وإذا أوجدَ شيئًا أوجدَه على وِفقِ التَّقديرِ، مطابقٌ لتقديره، فالخالقُ…، من معنى الخلق: التَّقدير.
و{الْبَارِئُ} بمعنى: الموجِد للشَّيء كما قدَّرَه، {الْمُصَوِّرُ} يعني: جاعلُ الصُّورِ في المخلوقاتِ، هو الَّذي يصوِّرُ العبادَ كما قالَ تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6] هذا الإنسانُ في بطنِ أمِّه يخلقُ اللهُ جسدَه ويصوِّرُه كيفَ شاءَ، ويَخرجُ النَّاس على صورٍ لا تُحصَى فلكلِّ فردٍ صورةٍ لا يشركُه فيها آخرُ فلا تجدُ اثنين على صورةٍ واحدةٍ من كلِّ وجهٍ، يكونُ بينَهما تشابهٌ لكن التَّطابُق لا، لا يتطابقانِ، ولهذا اجتمعَا تميِّزُ بينَ الشَّخصين، تميِّزُ بينهما.
{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} كلمةٌ جامعةٌ، فبعدَما ذكرَ اللهُ جملةً من أسمائِه قالَ: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فجميعُ أسمائِهِ تعالى حسنى كلُّها دالَّةٌ على الكمال، كلُّ اسمٍ من أسمائه دالٌّ على صفةٍ من صفاتِ الكمالِ {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فخُتِمَتِ السُّورةُ بمثلِ ما بُدِئَتْ به، بُدِئَتْ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحشر:1]، وخُتِمَتْ: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} الآياتِ:
هذهِ الآياتُ الكريماتُ قد اشتملَتْ على كثيرٍ مِن أسماءِ اللهِ الحسنى وأوصافِهِ العلى، عظيمةِ الشَّأنِ، وبديعةِ البرهانِ، فأخبرَ أنَّهُ اللهُ المألوهُ المعبودُ الَّذي لا إلهَ إلَّا هوَ
– الشيخ : "اللهُ" معناه الإلهُ، "اللهُ"، "اللهُ" هذا الاسمُ معناه الإلهُ، يقولُ أهلُ اللُّغةِ والتَّفسيرِ: "اللهُ" أصلُها الإلهُ فحُذِفَتِ الهمزةُ وأُدغِمَتِ اللَّامُ معَ التَّفخير "اللهُ" مشتقٌّ مِن أَلَهَ أي: عبَدَ، فهو الإلهُ أي: المعبودٌ، فهو إلهٌ بمعنى مألوهٌ ككتاب بمعنى مكتوب، ولهذا كانَ مدارُ الأسماءِ الحسنى على هذا الاسمِ، وجميعُ آياتِ الذِّكر ترجعُ إلى هذا الاسمِ، سبحانَ اللهِ، الحمدُ للهِ، ولا إله إلَّا الله، واللهُ أكبرُ، كلُّها فيها "اللهُ، اللهُ، اللهُ"، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ، فكلُّ كلماتِ الذِّكرِ متضمِّنةٌ لهذا الاسمِ.
– القارئ : المألوهُ المعبودُ الَّذي لا إلهَ إلَّا هوَ، وذلكَ لكمالِهِ العظيمِ، وإحسانِهِ الشَّاملِ، وتدبيرِهِ العامِّ، وكلُّ إلهٍ غيرُهُ فإنَّهُ باطلٌ لا يستحقُّ مِن العبادةِ مثقالَ ذرَّةٍ؛ لأنَّهُ فقيرٌ عاجزٌ ناقصٌ لا يملكُ لنفسِهِ ولا لغيرِهِ شيئًا، ثمَّ وصفَ نفسَهُ بعمومِ العلمِ الشَّاملِ، لما غابَ عن الخلقِ وما يشاهدونَهُ، وبعمومِ رحمتِهِ الَّتي وسعَتْ كلَّ شيءٍ ووصلَتْ إلى كلِّ حيٍّ.
ثمَّ كرَّرَ ذِكرَ عمومِ إلهيَّتِهِ وانفرادِهِ بها، وأنَّهُ المالكُ لجميعِ الممالكِ، فالعالمُ العلويُّ والسُّفليُّ وأهلُهُ، الجميعُ مماليكُ للهِ، فقراءُ مُدَبَّرونَ.
{الْقُدُّوسُ السَّلامُ} أي: المُقدَّسُ السَّالمُ مِن كلِّ عيبٍ وآفةٍ ونقصٍ، المعظَّمُ الممجَّدُ، لأنَّ القدوسَ يدلُّ على التَّنزيهِ عن كلِّ نقصٍ، والتَّعظيمِ للهِ في أوصافِهِ وجلالِهِ.
{الْمُؤْمِنُ} أي: المصدِّقُ لرسلِهِ وأنبيائِهِ بما جاؤُوا بهِ، بالآياتِ البيِّناتِ، والبراهينِ القاطعاتِ، والحججِ الواضحاتِ.
{الْعَزِيزُ} الَّذي لا يُغالَبُ ولا يُمانَعُ، بل قد قهرَ كلَّ شيءٍ، وخضعَ لهُ كلُّ شيءٍ، {الْجَبَّارُ} الَّذي قهرَ جميعَ العبادِ، وأذعنَ لهُ سائرُ الخلقِ، الَّذي يجبرُ الكسيرَ، ويُغني الفقيرَ، {الْمُتَكَبِّرِ} الَّذي لهُ الكبرياءُ والعظمةُ، المتنزِّهُ عن جميعِ العيوبِ والظُّلمِ والجورِ.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وهذا تنزيهٌ عامٌّ عن كلِّ ما وصفَهُ بهِ مَن أشركَ بهِ وعاندَهُ.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} لجميعِ المخلوقاتِ {الْبَارِئُ} للمبروءاتِ {الْمُصَوِّرُ} للمصوَّراتِ، وهذهِ الأسماءُ متعلِّقةٌ بالخلقِ والتَّدبيرِ والتَّقديرِ، وأنَّ ذلكَ كلَّهُ قد انفردَ اللهُ بهِ، لم يشاركْهُ فيهِ مشارِكٌ.
– الشيخ : {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} هذا أسلوبٌ يفيدُ الحصرَ، هو الخالقُ وحدَه، هو البارئُ وحدَه، هو المصوِّرُ وحدَه، كلُّ هذه الجملِ تفيدُ الحصرَ.
– القارئ : {لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي: لهُ الأسماءُ الكثيرةُ جدًّا، الَّتي لا يحصيها ولا يعلمُها أحدٌ إلَّا اللهُ هوَ، ومعَ ذلكَ، فكلُّها حسنى أي: صفاتُ كمالٍ، بل تدلُّ على أكملِ الصِّفاتِ وأعظمِها، لا نقصَ في شيءٍ
– الشيخ : أسماءُ اللهِ كثيرةٌ منها ما أعلمَنا به ومنها ما استأثرَ بعلمِه كما في الحديثِ المعروفِ: (أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ) فله أسماءُ لا يعلمُها غيرُه، ولهُ أسماءُ أنزلَها فيما شاءَ من كتبِه، وله أسماءُ علَّمَها من شاءَ من عبادِه، فله الأسماءُ الحسنى ما علمْنا منها وما لم نعلمْ.
– القارئ : لا نقصَ في شيءٍ منها بوجهٍ مِن الوجوهِ، ومِن حسنِها أنَّ اللهَ يحبُّها، ويحبُّ مَن يحبُّها، ويحبُّ مِن عبادِهِ أنْ يدعوهُ ويسألُوهُ بها.
ومِن كمالِهِ، وأنَّ لهُ الأسماءَ الحُسنى والصِّفاتِ العليا، أنَّ جميعَ مَن في السَّمواتِ والأرضِ مفتقرونَ إليهِ على الدَّوامِ، يسبِّحونَ بحمدِهِ، ويسألونَهُ حوائجَهم، فيعطيهم مِن فضلِهِ وكرمِهِ ما تقتضيهِ رحمتُهُ وحكمتُهُ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الَّذي لا يريدُ شيئًا إلَّا ويكونُ، ولا يكونُ شيئًا إلَّا لحكمةٍ ومصلحةٍ.
تمَّ تفسيرُ سورةِ الحشرِ، والحمدُ للهِ وحدَهُ. انتهى
– الشيخ : أحسنْتَ