بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة المعارج
الدَّرس: الثَّالث
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيمِ
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) [المعارج:36-44]
– الشيخ : لا إله إلا الله {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ} الخطابُ للنَّبي صلى الله عليه وسلم ما لهم؟! أيُّ شيءٍ جعلَهُم هكذا؟ {مُهْطِعين} مُسرعين {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} ما بالهم؟! وما الذي حصل لهم؟! {قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} والعزين جمعُ عِزَى وهي الجماعةُ، جماعاتٌ مُتفرِّقين {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} هم يَدَّعون ذلك، يقولون: لو كانَ هناك بعثٌ ونشورٌ كنا في الجنة {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل:62] وهذا مِن جهلِهم وغرورِهم، أمعً هذا الكفر والتكذيب يطمعونَ في جنة؟! ولهذا قالَ تعالى في الآية الأخرى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}.
{كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} ففي هذا احتجاجٌ عليهم في إنكارِهم للبعث، يُذكِّرهُم تعالى أنه خلقَهُم مِن ماذا؟ مِن ترابٍ ثم خلقَهم مِن نُطَفٍ، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] بلى سبحانه وتعالى، الذي خلق الناس مِن ترابٍ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5] والآيات في هذا المعنى كثيرة، الاستدلالُ بالنشأةِ الأولى على النَّشأةِ الاخرى {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}.
قال الله: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ} تقدَّم نظيرُ هذا وأنَّ "لا" هذه يقولون: ليسَتْ للنفي، بل هِي للتأكيد، والمعنى أُقسمُ بربِّ المشارق، أُقسمُ بربِّ المشارق، وقال في آية أخرى:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17] وفي آية ثالثة: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل:9] قال المفسرون: إنَّ هذا يرجعُ إلى أن هناك مَشرق الشمس في الشتاء ومشرِقُها في الصيف، فهما مَشرقان، والمشرقُ والمغربُ اسمٌ عامٌّ فبهذا الاعتبارِ وردَ ذِكرُ اسمِ المشرق والمغرب هكذا: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28]
وأما ذِكرُ المشارق فباعتبارِ مشرقِ الشمسِ كلَّ يوم، يقولُ أهل العلم بذلك: إنَّ للشمسِ مشرق.، في كلِّ يوم لها مشرق غير مشرِقها بالأمس، يعرفُ ذلك من يُتابع طلوعَ الشمس وغروبَها، فمشرقُها اليوم غيرُ مشرقِها أمس، ومغربُها اليوم غيرُ مغربها أمس، فلهذا ذُكرتِ المشارق بلفظ الجمعِ. {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} أي: نأتيَ بخيرٍ منهم كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]
{إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} اتركهم -وهذا أسلوبُ تهديد- اتركْهُم {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} يَخوضُوا بالباطلِ والكلامِ الباطل والاعتقاداتِ الباطلة {وَيَلْعَبُوا} اتركْهُم في هذه الدنيا يخوضونَ بالباطلِ ويلعبونَ ويَلْهُون {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] وكلُّ عملٍ لا خيرَ فيه فهو لَعِبٌ وضياعٌ {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} حتى يُلاقوا يومَ موتِهم، أو حتى يُلاقوا اليومَ الموعودَ وهو يومُ القيامة.
{حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} وهذا يُفسِّرُ قوله: {يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} هذا تفسيرٌ لليومِ الذي يُوعدون بأنَّه اليوم الذي يَخرجونَ فيهِ مِنَ الْأَجْدَاثِ أي: القبور، يخرجون مُسرعين كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق:44] {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ} إلى شيءٍ عَلَمٍ منصوبٍ يُسرعون إليهِ ويَقصدونَهُ، فهم يخرجون وذلك حين يُدعون إلى المحشر {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:42،41] يخرجون مِن القبور مُسرعين {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} مِن الذُّعْرِ والخَوف {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ .. ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} هذا هو اليوم، ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يخرجون فيه مُسرعين مِن القبور، هو اليوم الموعود {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}.
(تفسيرُ السعدي)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعدي رحمَه الله تعالى في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيات:
يقول تعالى مُبَيِّنًا اغْتِرَارَ الْكَافِرِينَ: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} أَيْ: مُسْرِعِينَ. {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} أَيْ: قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً وَجَمَاعَاتٍ مُتَنَوِّعَةً، كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَا لَدَيْهِ فَرِحٌ.
{أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} أَيُّ سَبَبٍ أَطْمَعُهُمْ، وَهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوا سِوَى الْكُفْرِ، وَالْجُحُودِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: {كَلَّا} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ بِأَمَانِيهِمْ وَلَا إِدْرَاكِ مَا يَشْتَهُونَ بِقُوَّتِهِمْ.
{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} أَيْ: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، فَهُمْ ضُعَفَاءُ، لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا.
{فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ} الآيات.
هَذَا إِقْسَامٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ،
– الشيخ : لا، هو إقسامٌ بنفسِه، الله يُقسِمُ بنفسِهِ بربوبيتِهِ للمَشَارقِ وَالْمَغَارِبِ {فَلا أُقْسِمُ}، كأنَّ هذا فيهِ وَهْمٌ مِن الشيخ، ليسَ لفظُ الآيةِ: "فلا أُقسمُ بالمشارق"، بل: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ}، {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} ظاهر؟
– الطلاب: نعم
– القارئ : هَذَا إِقْسَامٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ عَلَى الْبَعْثِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى تَبْدِيلِ أَمْثَالِهِمْ، وَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61]
{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أَيْ: مَا أَحَدٌ يَسْبِقُنَا وَيَفُوتُنَا وَيُعْجِزُنَا إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُعِيدَهُ، فَإِذَا تَقَرَّرَ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ، وَعَدَمِ انْقِيَادِهِمْ لِآيَاتِ اللَّهِ.
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} أَيْ: يَخُوضُوا بِالْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ، وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَيَلْعَبُوا بِدِينِهِمْ، وَيَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا، وَيَتَمَتَّعُوا {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ فِيهِ مِنَ النَّكَالِ وَالْوَبَالِ مَا هُوَ عَاقِبَةُ خَوْضِهِمْ وَلَعِبِهِمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْخَلْقِ حِينَ يُلَاقُونَ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، فَقَالَ: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} أَيِ: الْقُبُورُ، {سِرَاعًا} مُجِيبِينَ لِدَعْوَةِ الدَّاعِي، مُهْطِعِينَ إِلَيْهَا {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}
– الشيخ : مثلُ الآياتِ في سورة القمر: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8،7]
– القارئ : أي: كأنَّهم إلى عَلَمٍ يَؤُمُّونَ وَيَقْصِدُونَ فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِاسْتِعْصَاءِ لِلدَّاعِي، وَلا الِالْتِوَاءِ عَنْ نِدَاءِ الْمُنَادِي، بَلْ يَأْتُونَ أَذِلَّاءَ مَقْهُورِينَ لِلْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} وَذَلِكَ أَنَّ الذِّلَّةَ وَالْقَلَقَ قَدْ مَلَكَ قُلُوبَهُمْ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ، فَخَشَعَتْ مِنْهُمُ الْأَبْصَارُ، وَسَكَنَتْ مِنْهُمُ الْحَرَكَاتُ، وَانْقَطَعَتِ الْأَصْوَاتُ.
فَهَذِهِ الْحَالُ وَالْمَآلُ، هُوَ يَوْمُهُمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ وَلَا بُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَمَّ تفسيرُ سورةِ المعارجِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
– الشيخ : بارك الله بك، نعم