الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة نوح/(2) من قوله تعالى {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا} الآية 15 إلى قوله تعالى {رب اغفر لي ولوالدي} الآية 28
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) من قوله تعالى {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا} الآية 15 إلى قوله تعالى {رب اغفر لي ولوالدي} الآية 28

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة نوح

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:15-28]

– الشيخ : يقولُ تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} هذا الكلامُ -واللهُ أعلمُ- قد يكونُ مِن تمامِ قولِ نوحٍ -عليهِ السَّلامُ-: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح:13-15]، إلى آخرِهِ، وقد يكونُ كلامًا مستأنفًا، واللهُ أعلمُ.

{كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} وكثيرًا ما يُذكِّرُ اللهُ بخلقِ السَّمواتِ والأرضِ وخلقِ الشَّمسِ والقمرِ {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، فهذه آياتٌ عظيمةٌ مشهودةٌ، فهذه السَّمواتُ السَّبعُ طباقٌ بعضُها فوقَ بعضٍ على سَعَتِها، وكذلك الشَّمسُ والقمرُ آيتانِ من آياتِ اللهِ سخَّرَهما اللهُ للعبادِ دائبين لا يقفانِ إلى أنْ يأتيَ أجلُهما {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، و{كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.

{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}، كما قالَ سبحانَهُ وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ:6-13]، فالشَّمسُ ذاتُ ضوءٍ ووهَجٍ، يعني فيها حرارةٌ ليستْ كنورِ القمرِ، ولهذا سمَّاها اللهُ سراجًا {سِرَاجًا وَهَّاجًا}، {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:12-14]، فهذهِ آياتٌ دالَّةٌ على قدرةِ الرَّبِّ وحكمتِهِ ورحمتِه وسعةِ ملكِه سبحانَه.

ثمَّ يقولُ تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} خلقَ آدمَ من ترابٍ، فاللهُ أنشأَ البشريَّةَ من ترابٍ، وقالَ تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:25]، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} بالموتِ، بالموتِ والقبرِ، يموتونَ فيُدفَنونَ في هذه الأرضِ فيصيرون ترابًا {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} يومَ القيامةِ، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55]، نُخْرِجُكُمْ مرَّةً أُخْرَى كما أخرجَهم من الأرضِ في بدايةِ الخلقِ يخرجُهم من الأرضِ مرَّةً أخرى.

{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} بساطًا واسعًا كما سمَّاها فراشًا، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة:22]، ومهادًا ممهَّدةً، مُهيَّئةً للعيشِ فوقَ ظهرِها، يتصرَّفُ فيها النَّاسُ بالبناءِ عليها وبحفرِها للزِّراعة والبناءِ وغيرِ ذلكَ.

{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} جعلَ منها طرقًا يصلون منها ويتوصَّلون منها إلى نواحي الأرضِ، تجدُ بينَ سلاسلِ الجبالِ يكون هناك طرقٌ يتجاوزُ منها النَّاسُ من ناحيةٍ إلى ناحيةٍ {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}

{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} في هذه الآياتِ يخبرُ تعالى عن عبدِه ورسولِه نوح وشكايتِه لربِّه، يشكو قومَه إلى ربِّه وعصيانهم وتمرُّدِهم عليه وعنادِهم {إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} مكرًا عظيمًا، فسخرُوا من نوحٍ -عليه السَّلامُ- وعاندُوه {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [هود:32]

{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} يوصي بعضُهم بعضًا، أو الكبراءُ يوصونَ الضُّعفاءَ، {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} يعني لقولِ نوحٍ، لا تذروا معبوداتِكم، {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} وهذه كما قالَ ابنُ عبَّاسٍ أسماءُ رجالٍ صالحين من قومِ نوحٍ، فلمَّا ماتُوا أوحى الشَّيطانُ إليهم أنْ اعمدوا إلى مجالسِهم الَّتي كانوا يجلسونَ فيها وانصبُوا لهم فيها أنصابًا وتماثيلَ ففعلُوا فلمَّا هلكَ ذلك الجيلُ وجاءَ الجيلُ الآخرُ أوحى الشَّيطانُ إليهم بأنَّ هذه لها شأنٌ فأوحى إليهم فعبدُوها، وهذه بدايةُ الشِّركِ في الأرضِ سببُه الغلوُّ في الصَّالحين {وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} هذه المعبوداتُ أصنامٌ، تماثيلُ أضلَّتْ كثيرًا من قومِ نوحٍ {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا}

ثمَّ قالَ تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} يعني: بسبب خطيئاتِهم جمع خطيئةٍ وهي الذَّنبُ {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، فقومُ نوحٍ وفرعونَ وقومه أهلكَهم اللهُ بالغرقِ، ولهذا قالَ تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} فماتُوا وهلكُوا عن آخرِهم، وقد فصَّلَ اللهُ صفةَ غرقِهم وأنَّ اللهَ فتحَ أبوابَ السَّماءِ بالماءِ {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12]

وأيضًا يقولُ نوحٌ -عليه السَّلامُ-: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} وهذا فيه دعاءٌ على قومِه لأنَّهم قد أغضبُوه وآذَوه معَ بذلِه الجهدَ العظيمَ في دعوتهم، فلهذا دعا عليهم وقالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} يعني: لا تذرْ منهم أحدًا، وقد قالَ قبلَ ذلكَ: {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}

{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ} يعني: تتركُهم وتبقيهم {يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} والعياذُ باللهِ، وكأنَّه لاحظَ أنَّ ذرِّيَّاتِهم تابعوا آباءَهم على الكفر والضَّلال والفجورِ {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} لم يكنْ في الأجيالِ اللَّاحقةِ خيرٌ بل مضَوا على ما مضى عليه أسلافُهم وآباؤُهم.

ثمَّ ختمَ قولَه عليهِ السَّلامُ بالدُّعاءِ له ووالديه وللمؤمنين قالَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ … وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} يعني: هلاكًا ودمارًا.

 

(تفسيرُ السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ رحمَهُ اللهُ تعالى:

واستدلَّ أيضًا عليهم بخلقِ السَّمواتِ الَّتي هيَ أكبرُ مِن خلقِ النَّاسِ، فقالَ: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} أي: كلُّ سماءٍ فوقَ الأخرى.

{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} لأهلِ الأرضِ {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}.

ففيهِ تنبيهٌ على عظمِ خلقِ هذهِ الأشياءِ، وكثرةِ المنافعِ في الشَّمسِ والقمرِ الدَّالَّةِ على رحمتِهِ وسعةِ إحسانِهِ، فالعظيمُ الرَّحيمُ يَستحقُّ أنْ يُعظَّمَ ويُحَبَّ ويُعبَدَ ويُخافَ ويُرجَى.

{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا} حينَ خلقَ أباكم آدمَ وأنتم في صلبِهِ.

{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} عندَ الموتِ {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} للبعثِ والنُّشورِ، فهوَ الَّذي يملكُ الحياةَ والموتَ والنُّشورَ.

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا} أي: مبسوطةً مهيَّأةً للانتفاعِ بها.

{لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا} فلولا أنَّهُ بسطَها، لما أمكنَ ذلكَ، بل ولا أمكنَهم حرثُها وغرسُها وزرعُها، والبناءُ، والسُّكونُ على ظهرِها.

{قَالَ نُوحٌ} شاكيًا لربِّهِ: إنَّ هذا الكلامَ والوعظَ والتَّذكيرَ ما نجعَ فيهم ولا أفادَ.

{إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} فيما أمرْتُهم بهِ {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا} أي: عصَوا الرَّسولَ النَّاصحَ

– الشيخ : كأنَّ الشَّيخَ جعلَ كلَّ الكلامِ الماضي من قولِ نوحٍ -عليه السَّلام-، من قولِه: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ} إلى قولِه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا}.

– القارئ : أي: عصَوا الرَّسولَ النَّاصحَ الدَّالَّ على الخيرِ، واتَّبعُوا الملأَ والأشرافَ الَّذين لم تزدْهم أموالُهم ولا أولادُهم إلَّا خسارًا أي: هلاكًا وتفويتًا للأرباحِ فكيفَ بمَن انقادَ لهم وأطاعَهم؟!

{وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} أي: مكرًا كبيرًا بليغًا في معاندةِ الحقِّ.

{وَقَالُوا} لهم داعينَ إلى الشِّركِ مزيِّنينَ لهُ: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} فدعوهم إلى التعصُّبِ على ما هم عليهِ مِن الشِّركِ، وألَّا يَدَعوا ما عليهِ آباؤُهم الأقدمونَ، ثمَّ عيَّنُوا آلهتَهم فقالُوا: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} وهذهِ أسماءُ رجالٍ صالحينَ لَمَّا ماتُوا زيَّنَ الشَّيطانُ لقومِهم أنْ يصوِّرُوا صورَهم لينشطُوا -بزعمِهم- على الطَّاعةِ إذا رأَوها، ثمَّ طالَ الأمدُ، وجاءَ غيرُ أولئكَ فقالَ لهم الشَّيطانُ: إنَّ أسلافَكم يعبدونَهم، ويتوسَّلونَ بهم، وبهم يُسقَونَ المطرَ، فعبدُوهم، ولهذا أوصى رؤساؤُهم للتَّابعينَ لهم ألَّا يَدَعوا عبادةَ هذهِ الأصنامِ.

{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} أي: وقد أضلَّ الكبارُ والرُّؤساءُ بدعوتِهِم كثيرًا مِن الخلقِ، {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالًا} أي: لو كانَ ضلالُهم عندَ دعوتي إيَّاهم بحقٍّ، لكانَ مصلحةً، ولكنْ لا يزيدونَ بدعوةِ الرُّؤساءِ إلَّا ضلالًا أي: فلم يبقَ محلٌّ لنجاحِهم وصلاحِهم، ولهذا ذكرَ اللهُ عذابَهم وعقوبتَهم الدُّنيويَّةَ والأخرويَّةَ.

فقالَ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} في اليمِّ الَّذي أحاطَ بهم {فَأُدْخِلُوا نَارًا} فذهبَتْ أجسادُهم في الغرقِ وأرواحُهم للنَّارِ والحرقِ، وهذا كلُّهُ بسببِ خطيئاتِهم، الَّتي أتاهم نبيُّهم نوحٌ ينذرُهم عنها، ويخبرُهم بشؤمِها ومغبَّتِها، فرفضُوا ما قالَ، حتَّى حلَّ بهم النَّكالُ، {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} يَنصرونَهم حينَ نزلَ بهم الأمرُ الأمرُّ، ولا أحدَ يقدرُ يعارضُ القضاءَ والقدرَ.

{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} يدورُ على وجهِ الأرضِ، وذكرَ السَّببَ في ذلكَ فقالَ: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} أي: بقاؤُهم مفسدةٌ محضةٌ، لهم ولغيرِهم، وإنَّما قالَ نوحٌ ذلكَ، لأنَّهُ معَ كثرةِ مخالطتِهِ إيَّاهم، ومزاولتِهِ لأخلاقِهم، علمَ بذلكَ نتيجةَ أعمالِهم، فلهذا استجابَ اللهُ لهُ دعوتَهُ فأغرقَهم أجمعينَ ونجَا نوحًا ومَن معَهُ مِن المؤمنينَ.

– الشيخ : يمكن: نجَّى نوحًا

– القارئ : ونجَّى نوحًا ومَن معَهُ مِن المؤمنينَ

{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} خصَّ المذكورينَ لتأكُّدِ حقِّهم وتقديمِ بِرِّهم، ثمَّ عمَّمَ الدُّعاءَ، فقالَ: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا} أي: خسارًا ودمارًا وهلاكًا.

تمَّ تفسيرُ سورةِ نوحٍ، والحمدُ للهِ.

– الشيخ : اللَّهمَّ صلِّ وسلِّمْ على عبدِك ورسولِك وعلى سائرِ الأنبياءِ.

– طالب: هل كانَ والدا نوحٍ مسلمَينِ؟

– الشيخ : هو الأصلُ، أقولُ: هو الظَّاهرُ واللهُ أعلمُ، بخلافِ إبراهيمَ لأنَّا علمْنا أنَّ إبراهيمَ أنَّ أباه كانَ عدوًّا للهِ {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114]، ولهذا اختلفَ المفسِّرونَ في قولِ إبراهيمَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [إبراهيم:40-41]، صارَ للمفسِّرين فيها اختلافٌ؛ لأنَّ والدَهُ.. أو يكونُ هذا من الاستغفارِ الَّذي وعدَ به أباهُ.