الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة المزمل/(2) من قوله تعالى {يوم ترجف الأرض} الآية 14 إلى قوله تعالى {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} الآية 20
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) من قوله تعالى {يوم ترجف الأرض} الآية 14 إلى قوله تعالى {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} الآية 20

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة المزمل

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرَّجيمِ

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:14-20]

– الشيخ : اللهُ أكبرُ.

يذكِّرُ اللهُ سبحانَه وتعالى باليومِ العظيمِ يوم القيامةِ، {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} ترتجفُ وتتحرَّكُ تضطربُ بعدَ أنْ كانَتْ مستقرَّةً، والجبالُ راسيةٌ وصلبةٌ، تصيرُ هذه الجبالُ {كَثِيبًا مَهِيلًا} يعني: ككثبانِ الرَّملِ، وكما جاءَ في الآياتِ الأخرى أنَّها تصيرُ كالعهنِ المنفوشِ، بل تصيرُ هباءً وسرابًا {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20]، {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:5-6] سبحانَ الله!

ثمَّ يمتنُّ سبحانَه وتعالى على العبادِ بإرسالِ ذلك الرَّسول الخاتِم خاتِم النَّبيِّين محمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّ اللهَ أرسلَه كما أرسلَ من قبل الرُّسلَ، ومنهم مَن أرسلَه إلى فرعونَ وهو موسى وهارون -عليهما السَّلامُ- {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} وفي هذا تحذيرٌ للمشركين الَّذين كذَّبُوا الرَّسولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، تحذيرٌ لهم أنْ يأخذَهم اللهُ كما أخذَ فرعونَ وقومَه {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا}.

ثمَّ يُذكِّرُ ببعضِ أحوالِ القيامةِ، يومَ تكونُ له الأحوالُ العظيمةُ الَّتي تشيبُ لها الوِلدانُ {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} تنشقُّ بعدَ أنْ كانَتْ محكَمةً تنفطرُ وقد صرَّحَ اللهُ بذلكَ في الآياتِ الأخرى، {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} يعني: هذا الأمرُ أمرٌ محقَّقٌ ووعدٌ صادقٌ لا بدَّ أنْ يكونَ {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا}.

ثمَّ ينبِّهُ إلى أنَّ ما أخبرَ به من ذلك إنَّما هو تذكرةٌ للعبادِ، تذكرةٌ {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} يتذكَّرُ بها أولو العقولِ السَّليمةِ والفِطرِ المستقيمةِ، والعقلاءُ الَّذين يعونَ ما يُقالُ لهم وما يُنبَّهون عليهِ، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} فالطَّريقُ مُيسَّرٌ والسَّبيلُ قائمةٌ، سبيلُ اللهِ هي صراطُه المستقيمُ، فاللهُ قد أوضحَ الطَّريقَ، أوضحَ السَّبيلَ إليه، الموصِلَ إلى السَّعادةِ {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}.

ثمَّ قالَ تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} كأنَّ هذا -واللهُ أعلمُ- متَّصلٌ بما في أوَّلِ السُّورةِ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2]، {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} فهذه ثلاثةُ أوقاتٍ {تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} أقلَّ من ثلثِ اللَّيلِ {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} كذلكَ يقومون كقيامِكَ {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ}، {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} اللهُ سبحانَه وتعالى هو الَّذي قدَّرَ الأوقاتَ والأزمانَ، قدَّرَ اللَّيلَ والنَّهارَ، وجعلَ لها مقاديرَ مختلفةً {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الحديد:6]، فتارةً يطولُ اللَّيلُ فيقصرُ النَّهارُ، وتارةً يطولُ النَّهارُ فيقصرُ اللَّيلُ.

{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} اقرؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ في صلاتِكم باللَّيلِ {َاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} اللهُ علمَ أنَّكم أصنافٌ مِن النَّاسِ، وأنَّه ستكونُ أعذار تمنعُ الإنسانَ من القيام بهذه الفضائلِ {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فهؤلاءِ وهؤلاءِ وهؤلاءِ لا يتيسَّرُ لهم أنْ يقوموا كغيرهم من الأصحَّاءِ المقيمين لكنَّ الرَّسولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولُ: (إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ كُتِبَ ما كانَ يعملُ صحيحًا مقيمًا).

ثمَّ أكَّدَ الأمرَ بالصَّلاةِ وقراءةِ القرآنِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} مُدَّخَرٌ، مَن فعلَ خيرًا وقدَّمَ خيرًا من عبادةٍ من صلاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ يجدُ ذلكَ عندَ اللهِ يجد أجرَه موفورًا {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} فينبغي للعبدِ كذلك ألَّا يغفلَ عن الاستغفارِ وأنَّه مهما تعبَّدَ للهِ فإنَّه معرَّضٌ للخطأِ والنِّسيانِ والتَّقصيرِ {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فالاستغفارُ علاجٌ من أدواءِ الذُّنوبِ واللهُ تعالى غفورٌ رحيمٌ، غفورٌ لمن تابَ وأنابَ إليهِ وصدقَ في الرُّجوعِ إليهِ، ورحيمٌ يثيبُ العاملينَ ويزيدُهم من فضلِهِ.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ المؤلِّفُ رحمَهُ اللهُ تعالى:

وذلكَ {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ} مِن الهولِ العظيمِ

– الشيخ : "وذلك" إشارةً إلى قولِه تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12-13]، يقولُ الشَّيخُ: هذه الآيةُ مرتبطةٌ بما قبلَها، إنَّ هذا الوعيدَ يكونُ {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ}، "وذلكَ {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ}".

 

– القارئ : {وَكَانَتِ الْجِبَالُ} الرَّاسياتُ الصُّمُّ الصِّلابُ {كَثِيبًا مَهِيلا} أي: بمنزلةِ الرَّملِ المُنهالِ المُنتثِرِ، ثمَّ إنَّها تُبَسُّ بعدَ ذلكَ، فتكونُ كالهباءِ المنثورِ.

قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا…} الآياتِ:

يقولُ تعالى: احمدُوا ربَّكم على إرسالِ هذا النَّبيِّ الأمِّيِّ العربيِّ البشيرِ النَّذيرِ، الشَّاهدِ على الأمَّةِ بأعمالِهم، واشكرُوهُ وقومُوا بهذهِ النِّعمةِ الجليلةِ، وإيَّاكم أنْ تكفرُوا، فتعصوا رسولَكم، فتكونُوا كفرعونَ حينَ أرسلَ اللهُ إليهِ موسى بنَ عمرانَ، فدعاهُ إلى اللهِ، وأمرَهُ بالتَّوحيدِ، فلم يصدِّقْهُ، بل عصاهُ، فأخذَهُ اللهُ أخذًا وبيلًا أي: شديدًا بليغًا.

قالَ اللهُ تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ} الآياتِ:

أي: فكيفَ يحصلُ لكم الفكاكُ والنَّجاةُ مِن يومِ القيامةِ، اليومُ المهيلُ أمرُهُ العظيمُ خطرُهُ، الَّذي يشيبُ الولدانَ، وتذوبُ لهُ الجماداتُ العظامُ، فتتفطَّرُ بهِ السَّماءُ وتنتثرُ نجومُها {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا} أي: لا بدَّ مِن وقوعِهِ، ولا حائلَ دونَهُ.

قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} الآيةَ:

أي: إنَّ هذهِ الموعظةَ الَّتي نبَّأَ اللهُ بها مِن أحوالِ يومِ القيامةِ وأهوالِها، تذكرةٌ يتذكَّرُ بها المتَّقونَ، وينزجرُ بها المؤمنونَ، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} أي: طريقًا موصِلًا إليهِ، وذلكَ باتِّباعِ شرعِهِ، فإنَّهُ قد أبانَهُ كلَّ البيانِ، وأوضحَهُ غايةَ الإيضاحِ، وفي هذا دليلٌ على أنَّ اللهَ تعالى أقدرَ العبادَ على أفعالِهم، ومكَّنَهم منها، لا كما يقولُهُ الجبريَّةُ: إنَّ أفعالَهم تقعُ بغيرِ مشيئتِهم، فإنَّ هذا خلافُ النَّقلِ والعقلِ.

قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} الآيةَ:

ذكرَ اللهُ في أوَّلِ هذهِ السُّورةِ

– الشيخ : يعني: قولُ الجبريَّةِ مناقِضٌ للعقل والشَّرع والحسِّ، فمن الأمرِ المحسوسِ المعقولِ إنَّ الإنسانَ يفعلُ بإرادةٍ فيفعلُ إذا شاءَ ويتركُ إذا شاءَ، ولكنَّه مشيئتُه محكومةٌ بمشيئةِ اللهِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ففي الآيةِ الرَّدُّ على الطَّائفتينِ الجبريَّة والقدريَّة.

 

– القارئ : ذكرَ اللهُ في أوَّلِ هذهِ السُّورةِ أنَّهُ أمرَ رسولَهُ بقيامِ نصفِ اللَّيلِ أو ثلثِهِ أو ثلثيهِ، والأصلُ أنَّ أمَّتَهُ أسوةٌ لهُ في الأحكامِ، وذكرَ في هذا الموضعِ، أنَّهُ امتثلَ ذلكَ هوَ وطائفةٌ معَهُ مِن المؤمنينَ.

ولمَّا كانَ تحريرُ الوقتِ المأمورِ بهِ مشقَّةٌ على النَّاسِ، أخبرَ أنَّهُ سهَّلَ عليهم في ذلكَ غايةَ التَّسهيلِ فقالَ: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي: يعلمُ مقاديرَهما وما يُمضي ويُبقي منهما.

{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي: لن تعرفُوا مقدارَهُ مِن غيرِ زيادةٍ ولا نقصٍ، لكونِ ذلكَ يستدعي انتباهًا وعناءً زائدًا {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي: فخفَّفَ عنكم، وأمرَكم بما تيسَّرَ عليكم، سواءٌ زادَ على المقدَّرِ أو نقصَ، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}

– الشيخ : وقد يسَّرَ اللهُ في هذه الأعصارِ وسائلَ يعرفُ بها الإنسانُ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهار بدقَّةٍ، سبحان الله، وهذا من تعليمِه، ليسَ من فعلِ الإنسانِ مستقلًّا بهِ، هذا هو الَّذي خلقَ الأسبابَ والموادَّ والعقولَ الَّتي ابتكرَتْ هذه الأسبابَ مثل السَّاعات، الآن يحسبونَ النَّاس الأوقاتَ كما يقولون بالثَّواني، الَّتي هي جزءٌ من ستين جزءًا من الدَّقيقة، واستغنى النَّاسُ بهذه الآلاتِ عن مراعاةِ العلاماتِ الكونيَّة الأخرى كالنُّجومِ، كان النَّاسُ يعرفون اللَّيلَ بالنَّظرِ إلى السَّماء ويعرفون منازلَ النُّجومِ ويعرفون ما مضى من اللَّيل وما بقيَ وقرب الصُّبح وبعده، والكلُّ من عطاءِ اللهِ تعالى، الكلُّ من اللهِ.

 

– القارئ : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أي: ممَّا تعرفونَ وممَّا لا يشقُّ عليكم، ولهذا كانَ المصلِّي باللَّيلِ مأمورًا بالصَّلاةِ ما دامَ نشيطًا، فإذا فترَ أو كسلَ أو نعسَ فليسترحْ؛ ليأتيَ الصَّلاةَ بطمأنينةٍ وراحةٍ.

ثمَّ ذكرَ بعضَ الأسبابِ المناسبةِ للتَّخفيفِ، فقالَ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} يشقُّ عليهم صلاةُ نصفِ اللَّيلِ أو ثلثيهِ أو ثلثِهِ، فليصلِّ المريضُ ما يسهلُ عليهِ، ولا يكونُ أيضًا مأمورًا بالصَّلاةِ قائمًا عندَ مشقَّةِ ذلكَ، بل لو شقَّتْ عليهِ الصَّلاةُ النَّافلةُ، فلهُ تركُها ولهُ أجرُ ما كانَ يعملُ صحيحًا.

{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي: وعلمَ أنَّ منكم مسافرينَ يسافرونَ للتِّجارةِ، ليستغنوا عن الخلقِ، ويتكفَّفُوا عنهم أي: فالمسافرُ، حالُهُ تناسبُ التَّخفيفَ، ولهذا خفَّفَ عنهُ في صلاةِ الفرضِ، فأُبيحَ لهُ جمعُ الصَّلاتَينِ في وقتٍ واحدٍ، وقصرُ الصَّلاةِ الرُّباعيَّةِ.

{وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فذكرَ تعالى تخفيفَيْنِ: تخفيفًا للصَّحيحِ المقيمِ، يراعي فيهِ نشاطَهُ مِن غيرِ أنْ يكلِّفَ عليهِ تحريرَ الوقتِ، بل يتحرَّى الصَّلاةَ الفاضلةَ، وهيَ ثلثُ اللَّيلِ بعدَ نصفِهِ الأوَّلِ.

وتخفيفًا للمريضِ أو المسافرِ، سواءً كانَ سفرُهُ للتِّجارةِ، أو لعبادةٍ مِن جهادٍ، أو حجٍّ، أو عمرةٍ، أو ذلكَ، فإنَّهُ أيضًا يراعي ما لا يكلِّفُهُ، فللهِ الحمدُ والثَّناءُ، الَّذي ما جعلَ علينا في الدِّينِ مِن حرجٍ، بل سهَّلَ شرعَهُ، وراعى أحوالَ عبادِهِ ومصالحَ دينِهم وأبدانِهم ودنياهم.

ثمَّ أمرَ العبادَ بعبادتَينِ، هما أمُّ العباداتِ وعمادُها: إقامةُ الصَّلاةِ، الَّتي لا يستقيمُ الدِّينُ إلَّا بها، وإيتاءُ الزَّكاةِ الَّتي هيَ برهانُ الإيمانِ، وبها تحصلُ المواساةُ للفقراءِ والمساكينَ، فقالَ:

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} بأركانِها، وشروطِها، وجميعِ مكمِّلاتِها، {وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي: خالصًا لوجهِ اللهِ، مِن نيَّةٍ صادقةٍ، وتثبيتٍ مِن النَّفسِ، ومالٍ طيِّبٍ، ويدخلُ في هذا الصَّدقةُ الواجبةُ والمستحبَّةُ.

ثمَّ حثَّ على عمومِ الخيرِ وأفعالِهِ فقالَ: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} الحسنةُ بعشرِ أمثالِها، إلى سبعمائةِ ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ.

وليعلمَ أنَّ مثقالَ ذرَّةٍ في هذهِ الدَّارِ مِن الخيرِ، يقابلُهُ أضعافُ أضعافِ الدُّنيا وما عليها في دارِ النَّعيمِ المقيمِ مِن اللَّذَّاتِ والشَّهواتِ، وأنَّ الخيرَ والبرَّ في هذهِ الدُّنيا مادَّةُ الخيرِ والبرِّ في دارِ القرارِ، وبذرُهُ وأصلُهُ وأساسُهُ، فوا أسفاهُ على أوقاتٍ مضَتْ في الغَفَلاتِ، ووا حسرتاهُ على أزمانٍ تقضَّتْ في غيرِ الأعمالِ الصَّالحاتِ، ووا غوثاهُ مِن قلوبٍ لم يُؤثِّرْ فيها وعظُ بارئِها، ولم ينجعْ فيها تشويقُ مَنْ هوَ أرحمُ بها مِن نفسِها.

فلكَ اللَّهمَّ الحمدُ، وإليكَ المُشتكَى، وبكَ المستغاثُ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بكَ.

{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي الأمرِ بالاستغفارِ بعدَ الحثِّ على أفعالِ الطَّاعةِ والخيرِ، فائدةٌ كبيرةٌ، وذلكَ أنَّ العبدَ ما يخلو مِن التَّقصيرِ فيما أُمِرَ بهِ، إمَّا أنْ لا يفعلَهُ أصلًا أو يفعلَهُ على وجهٍ ناقصٍ، فأُمِرَ بترقيعِ ذلكَ بالاستغفارِ، فإنَّ العبدَ يُذنِبُ آناءَ اللَّيلِ والنَّهارِ، فمتى لم يَتَغَمَّدْهُ اللهُ برحمتِهِ ومغفرتِهِ، فإنَّهُ هالكٌ. تمَّ تفسيرُ سورةِ المزملِ، والحمدُ للهِ.

انتهى.