الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة المدثر/(2) مراجعة قوله تعالى {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} الآية 31 إلى قوله تعالى {وما يذكرون إلا أن يشاء الله} الآية 56
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) مراجعة قوله تعالى {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} الآية 31 إلى قوله تعالى {وما يذكرون إلا أن يشاء الله} الآية 56

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة المدثر

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر:31-56]

– الشيخ : الله أكبر، لا إله إلا الله

ذكر الله أن على النار خُزَّانٌ تسعةَ عشر، وهمْ ملائكةٌ كما قال في الآية الأخرى: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] فهم مُوكَّلون بالنارِ وبأهلِها يُعذِّبُونَهم ويُوَبِّخُونَهُم، {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ} [الزمر:71]، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]

يقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} وهي تسعةَ عشرَ {إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} فيها ابتلاءٌ للكفارِ، يقولون: لماذا كانَتْ خزنةُ جهنَّمَ هكذا تسعةَ عشر؟ يعني ما صاروا عشرين؟ ليش ما…، ويقولُ بعضُ طواغيت المشركين: "أيش تسعةَ عشر أنا أقومُ بدفع كذا وكذا وأنتَ يا فلان تقومُ بدفعِ كذا، أيش تسعة عشر؟ يعني أمرهم سهل، التخلُّصُ منهم سهلٌ"، كما يُذكَرُ هذا في بعض الآثار عندَ المفسرين أنَّ الكفارَ صاروا يسخرونَ ويَستخفون بالملائكة.

{وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} وكأنَّ هذا أيضا مذكورٌ في الكتبِ السابقة، فإذا جاء القرآن بما يطابقُ ما عندهم صارَ ذلك سببًا لاستيقانِهِم، {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} "مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بجعلِ الملائكةِ تسعةَ عشر؟" فجعلُهم بهذا العددِ لله في ذلكَ حِكَمٌ ذكرها في الآياتِ.

قال الله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بحكمتِهِ وعدلِهِ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بحكمتِهِ وفضلِهِ، فالأمرُ كله إليه سبحانه وتعالى، وهو يفعلُ ما يفعلُ سبحانه وتعالى لِحِكَمٍ بالغةٍ وهو الحكيم العليم في شرعِهِ وفي قدره، له الحكمةُ البالغة.

{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} للهِ خَلْقٌ كثيرٌ لا يُحصيهم إلا اللهُ، فكمْ في السماء مِن الملائكة! وكمْ في الأرض مِن المخلوقاتِ المتنوعة! وكلُّهم مِلكُ الله، وكلُّهم في قبضتِهِ، وكلُّهم خاضعون لعظمتِهِ، مطيعون لأمرِهِ.

ثم قال تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} "كلَّا" هذه كلمةُ يقول المفسرون: إنها كلمةُ زجرٍ ورَدْع {كَلَّا} يعني: ليسَ الأمر كما تقولون أو تظنُّون أيُّها الكافرون {وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} هذا من الأقسام، يُقسِمُ الله بما شاء مِن خلقه، فأقسمَ بالشمس والقمر وبالليل والنهار وبالسماء والأرض، كما هو في سورٍ عديدةٍ، وهذا منه، {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} فهذه ثلاثة أقسام، قسمٌ بالقمرِ وبالليلِ وبالصبحِ {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ}.

قال الله: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} يعني: ما جاء به الرسولُ، وهذا الرسولُ النذيرُ أرسلَهُ الله بشيرًا ونذيرًا، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الحج:49] وقال: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} {يتقدَّمُ} بالإيمان والطاعة أو {يَتَأَخَّرُ} بالكفرِ والمعصية، فالإيمانُ والتقوى تقدُّمٌ وظَفَرٌ ونصرٌ، والكفر هذا تأخرٌ، كما في الآية الأخرى {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:27-29]، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}.

{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} كُلُّ نَفْسٍ مرهونةٌ بكَسْبِها، فهو لها، عملُ كلُّ عاملٍ لا يتعدَّاهُ إلى غيره، {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} مقصورةٌ عليه لا يتعدَّاها إلى غيرِها، في الآيةِ الأخرى {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]  لا يُزادُ في سيئاتِه ولا يُنقَصُ من حسناتِهِ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ} فأصحابُ اليمين تُضاعَفُ لهم الحسنات، والله تعالى يضاعفُ للمؤمنين الحسنات لكنَّه لا يضاعفُ على العاصين سيئاتِهم بل يجزيهم بها، كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:186] فالجزاء مِن الله دائرٌ بين الفضلِ والعدلِ، بين الفضل والعدل، {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ} يقولون: ماذا صارَ للكفارِ الذين كانوا معنا في الدنيا؟ ماذا حصلَ لهم؟ هل جُوْزُوا بأعمالِهم؟ يَتَسَاءَلُونَ عنهم.

ثم يُطلعُهم الله عليهم وهم في النار فيسألُونهم {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}؟ ما الذي أدخلَكُم في سَقر؟ وصيَّركُم في هذا العذاب؟ فذكروا الأسبابَ لذلك {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} هذه هي أسبابُ الشَّقاء، هذه هي الأسباب التي أدخلتْهم جهنَّم وسلَكَتْهُم فيها {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} نُكذِّبُ بالبعث والجزاء، نُكذِّبُ بيومِ الجزاءِ يومِ القيامة، فلا يعملونَ الصالحات، ولا يؤمنونَ بما أخبرَ اللهُ به ورسلُهُ.

يقولون: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} أي: حتى أتَانَا الموتُ وهم على ذلكَ، ما زالوا على كفرِهم وعصيانِهم حتى جاءَهم الموت.

قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ما تنفعُهم في ذلك اليوم، {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] يعني: ليسَ هناك وليٌ ولا نصيرٌ ينصرُهم ويُنقذُهم مما هُمْ فيه {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}.

ثم قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} الآن في الدنيا ما لهم؟ مَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ، تذكيرُ الرسولِ لهم، ما لهمْ عن ذلك مُعرضين؟ {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}؟

{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} إذا جاءَهم الرسولُ ليُسمعُهم القرآن ويَدعوهم إلى الإيمان والتوحيد نفَروا عنه كنفورِ الحميرِ -حميرِ الوحشِ- عن الأسِ أو الصياد الذي يريدُ اصطيادَها فهي تنفرُ عنه إذا رأتِ الأسدَ أو رأت الصيَّادَ نفرَتْ منه، هذه الحُمُر لأنَّها جعل الله فيها إدراكا تعرفُ به ما ينفعُها ويضرُها. {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}.

{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} يريدون أن يُعطون…، كلُّ واحد منهم يُعطَى صحفٌ، صحيفة يُدعَى فيها إلى الإيمان ويأتيه صَكٌّ، وهذا مِن التعنُّتِ القبيحِ والعنادِ، كأنهم يقولون: "نحنُ نريد أن يأتينا وحيٌ مثلُكَ يا محمد"، ها!

{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} هذه التذكرةُ هذه تَسمعونها، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} ذَكَرَ اللهَ {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أمرُ الهدى والضلال إلى اللهِ وحدَهُ {وَمَا يَذْكُرُونَ} كقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.

{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} هو الحقيقُ بأن يُتَّقَى له التقوى مِن عبادِه، عليهم أن يتَّقوه، هو المستحقّ لِأَنْ يُعبَدَ ويُخافَ ويُرجَى {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} يعني هو المستحقُّ للعبادة، هو المستحقُّ للتقوى، هو المستحقُّ للطاعةِ سبحانه وتعالى.

وَهو {أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} لأنَّه غفورٌ، أهلٌ لِأَنْ يغفرَ لِمَنْ شاء مِن عباده، يغفرُ للتائبين، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً}

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً} وذلكَ لِشِدَّتِهِم وقوتِهِم. {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} يُحتملُ أنَّ المرادَ: إلَّا لعذابِهِم

– الشيخ : فتنة، يُسمَّى العذابُ فتنةٌ، كما قال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:10-13] يعني: يقول – الشيخ : إنَّ الآية كذا جعلناهم فتنة، يُحتمل أن المراد تعذيبهم {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}.

 

– القارئ : إلَّا لِعَذَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلِزِيَادَةِ نَكَالِهِمْ فِيهَا، وَالْعَذَابُ يُسَمَّى فِتْنَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّا مَا أَخْبَرْنَاكُمْ بِعِدَّتِهِمْ، إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُصَدِّقُ مِمَّنْ يُكَذِّبُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، إِذَا وَافَقَ مَا عِنْدَهُمْ وَطَابَقَهُ ازْدَادَ يَقِينُهُمْ بِالْحَقِّ، وَالْمُؤْمِنُونَ كُلَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً، فَآمَنُوا بِهَا وَصَدَّقُوا، ازْدَادَ إِيمَانُهُمْ، {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} أَيْ: لِيَزُولَ عَنْهُمُ الرَّيْبُ وَالشَّكُّ، وَهَذِهِ مَقَاصِدُ جَلِيلَةٌ يَعْتَنِي بِهَا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَهِيَ السَّعْيُ فِي الْيَقِينِ، وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَكُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ، وَدَفْعِ الشُّكُوكِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي تَعْرِضُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِّ، فَجَعَلَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَصِّلًا لِهَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْجَلِيلَةِ، وَمُمَيِّزًا لِلصَّادِقِينَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أَيْ: شَكٌّ وَشُبْهَةٌ وَنِفَاقٌ. {وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْحَيْرَةِ وَالشَّكِّ، وَالْكُفْرِ مِنْهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَهَذَا وَذَاكَ مِنْ هِدَايَةِ اللَّهِ لِمَنْ يَهْدِيهِ، وَإِضْلَالِهِ لِمَنْ يُضِلُّ وَلِهَذَا قَالَ:

{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ، جَعَلَ مَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ رَحْمَةً فِي حَقِّهِ، وَزِيَادَةً فِي إِيمَانِهِ وَدِينِهِ،

– الشيخ : كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:125،124] فمِن الناس مَن يزدادُ بسماعِ القرآن إيمانًا {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] ومنهم مَنْ يزدادُ -والعياذُ بالله- رجسًا وكفرًا وإعراضًا {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}.

 

– القارئ : فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ، جَعَلَ مَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ رَحْمَةً فِي حَقِّهِ، وَزِيَادَةً فِي إِيمَانِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ أَضَلَّهُ، جَعَلَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ زِيَادَةَ شَقَاءٍ عَلَيْهِ وَحَيْرَةٍ، وَظُلْمَةٍ فِي حَقِّهِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَتَلَقَّى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ بِالتَّسْلِيمِ

– الشيخ : وشواهدُ هذا كثيرة في القرآن {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44] فآياتُ القرآن يُفسِّرُ بعضُها بعضًا.

– القارئ : وَالْوَاجِبُ أَنْ يَتَلَقَّى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ بِالتَّسْلِيمِ، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكِ} مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ {إِلا هُوَ} فَإِذَا كُنْتُمْ جَاهِلِينَ بِجُنُودِهِ، وَأَخْبَرَكُمْ بِهَا الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُصَدِّقُوا خَبَرَهُ، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا ارْتِيَابٍ، {وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} أَيْ: وَمَا هَذِهِ الْمَوْعِظَةُ وَالتِّذْكَارُ مَقْصُودًا بِهِ الْعَبَثُ وَاللَّعِبُ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهِ الْبَشَرُ مَا يَنْفَعُهُمْ فَيَفْعَلُونَهُ، وَمَا يَضُرُّهُمْ فَيَتْرُكُونَهُ.

قال الله تعالى: {كَلا وَالْقَمَرِ} الآيات:

{كَلَّا} هُنَا بِمَعْنَى: "حَقًّا"، أَوْ بِمَعْنَى "أَلَا" الِاسْتِفْتَاحِيَّةِ، فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِالْقَمَرِ، وَبِاللَّيْلِ وَقْتَ إِدْبَارِهِ، وَالنَّهَارِ وَقْتَ إِسْفَارِهِ، لِاشْتِمَالِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى آيَاتِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَسِعَةِ سُلْطَانِهِ، وَعُمُومِ رَحْمَتِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {إِنَّهَا أَيُ النَّارِ لإِحْدَى الْكُبَرِ} أَيْ: إِنَّ النَّارَ لَإِحْدَى الْعَظَائِمِ الطَّامَّةِ وَالْأُمُورِ الْهَامَّةِ، فَإِذَا أَعْلَمْنَاكُمْ بِهَا، وَكُنْتُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهَا، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ، فَيَعْمَلُ بِمَا يُقَرِّبُهُ مِنْ رَبِّهِ، وَيُدْنِيهِ مِنْ رِضَاهُ، وَيُزْلِفُهُ مِنْ دَارِ كَرَامَتِهِ، أَوْ يَتَأَخَّرُ عَمَّا خَلَقَ لَهُ وَعَمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، فَيَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي، وَيَتَقَرَّبُ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} الْآيَةَ [الكهف:29]

{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} مِنْ أَفْعَالِ الشَّرِّ وَأَعْمَالِ السُّوءِ {رَهِينَةٌ} بِهَا مُوَثَّقَةٌ بِسَعْيِهَا، قَدْ أُلْزِمَ عُنُقُهَا، وَغُلَّ فِي رَقَبَتِهَا، وَاسْتَوْجَبَتْ بِهِ الْعَذَابَ، {إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرْتَهَنُوا، بَلْ أُطْلِقُوا وَفَرِحُوا {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ} أَيْ: فِي جَنَّاتٍ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ فِيهَا جَمِيعُ مَطْلُوبَاتِهِمْ، وَتَمَّتْ لَهُمُ الرَّاحَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، حَتَّى أَقْبَلُوا يَتَسَاءَلُونَ، فَأَفْضَتْ بِهِمِ الْمُحَادَثَةُ، أَنْ سَأَلُوا عَنِ الْمُجْرِمِينَ، أَيُّ حَالٍ وَصَلُوا إِلَيْهَا، وَهَلْ وَجَدُوا مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} عَلَيْهِمْ؟ فَاطَّلَعُوا عَلَيْهِمْ فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ يُعَذَّبُونَ، فَقَالُوا لَهُمْ:

– الشيخ : وهذا مِن آياتِ الله أنَّ أهلَ الجنة وهم في درجاتِهم ومنازلِهم العالية ومنازلِهم في النَّعيم يُطْلِعُهم الله على المجرمين في جهنَّم يَرونهم ويَسمعونهم ويُخاطبونهم كما جاء تفصيلُ ذلك في سورةِ الصافات {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] إلى قوله: {فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55].

 

– القارئ : {فَقَالُوا} لَهُمْ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَدْخَلَكُمْ فِيهَا؟ وَبِأَيِّ ذَنْبٍ اسْتَحْقَقْتُمُوهَا؟ فَـ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} فَلَا إِخْلَاصَ لِلْمَعْبُودِ، وَلَا إِحْسَانَ وَلَا نَفْعَ لِلْخَلْقِ الْمُحْتَاجِينَ.

{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} أَيْ: نَخُوضُ بِالْبَاطِلِ، وَنُجَادِلُ بِهِ الْحَقَّ، {َكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} هَذَا آثَارُ الْخَوْضِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ، وَمِنْ أَحَقِّ الْحَقِّ: يَوْمُ الدِّينِ، الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَظُهُورُ مُلْكِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ الْعَدْلِ لِسَائِرِ الْخَلْقِ.

فَاسْتَمَرَّ عَمَلُنَا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} أَيِ: الْمَوْتُ، فَلَمَّا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ

– الشيخ : كقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فالإنسانُ المكلَّفُ في هذه الدُّنيا عليهِ أن يستقيمَ على دِينِ اللهِ حتى يأتيهِ الموتُ كما قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] أي: استقيمُوا على الإسلامِ حتى يأتيَكُم الموتُ وأنتم على ذلك، فالسُّعداء يُثَبِّتُهُم اللهُ على دينِه وعلى الاستقامةِ حتى يأتيَهم الموت، والأشقياء يُصرُّون على كُفرِهم ولا يتوبون حتى يأتيَهم الموتُ وهم كافرون {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ} [النساء:118].

 

– القارئ : فَلَمَّا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ تَعَذَّرَتْ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمِ الْحِيَلُ، وَانْسَدَّ فِي وُجُوهِهِمْ بَابُ الْأَمَلِ.

{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} لِأَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى، وَهَؤُلَاءِ لَا يَرْضَى اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ.

فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ مَآلَ الْمُخَالِفِينَ، وَبَيَّنَ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ، عَطَفَ عَلَى الْمَوْجُودِينَ بِالْعِتَابِ وَاللَّوْمِ،

– الشيخ : "عَطَفَ عَلَى الْمَوْجُودِينَ" يعني: هذا الذي يُسمِّيه أهلُ البلاغة: التفاتٌ، كان الحديثُ عن المجرمين الذين في جهنَّم في الآخرة، ثم رجعَ السِّياقُ إلى خطابِ والكلامِ عَن الكفار في الدنيا، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} نعم ثم عَطَفَ.

 

– القارئ : عَطَفَ عَلَى الْمَوْجُودِينَ بِالْعِتَابِ وَاللَّوْمِ، فَقَالَ: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} أَيْ: صَادِّينَ غَافِلِينَ عَنْهَا. {كَأَنَّهُمْ} فِي نَفْرَتِهِمِ الشَّدِيدَةِ مِنْهَا {حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} أَيْ: كَأَنَّهُمْ حُمُرُ وَحْشٍ نَفَرَتْ فَنَفَرَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَزَادَ عَدْوُهَا، {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أَيْ: مِنْ صَائِدٍ وَرَامٍ يُرِيدُهَا، أَوْ مِنْ أَسَدٍ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ النُّفُورِ عَنِ الْحَقِّ، وَمَعَ هَذَا النُّفُورِ وَالْإِعْرَاضِ، يَدَّعُونَ الدَّعَاوَى الْكِبَارَ.

فَـ {يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} نَازِلَةً عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَنْقَادُ لِلْحَقِّ إِلَّا بِذَلِكَ، وَقَدْ كَذَبُوا، فَإِنَّهُمْ لَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ لَمْ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، لأنَّهُمْ جَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي تُبَيِّنُ الْحَقَّ وَتُوَضِّحُهُ، فَلَوْ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ لَآمَنُوا، وَلِهَذَا قَالَ: {كَلَّا} أَيْ لَا نُعْطِيَهُمْ مَا طَلَبُوا، وَهُمْ مَا قَصَدُوا بِذَلِكَ إِلَّا التَّعْجِيزَ، {بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ} فَلَوْ كَانُوا يَخَافُونَهَا لَمَا جَرَى مِنْهُمْ مَا جَرَى.

{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} الضَّمِيرُ إِمَّا أَنْ يَعُودَ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ عَلَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُ السَّبِيلَ، وَوَضَّحَ لَهُ الدَّلِيلَ.

{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فَإِنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ نَافِذَةٌ عَامَّةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا حَادِثٌ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، فَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ

– الشيخ : القدرية: نُفُاةُ القَدَرِ، ومِنْ أصولِهم أنَّ أفعالَ العباد لا تتعلَّقُ بها مشيئة الله، فالمؤمنُ والمطيعُ والعاصي كلٌّ يفعلُ ويتصرف بمحضِ مشيئتِه، ولا تعلُّقَ لمشيئة الله به ومما يَرُدُّ عليهم قولُه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ…} نعم هؤلاء القدريةُ النُّفاة، وهناكَ الجبريةُ كما سيذكر الشيخ.

 

– القارئ : فَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، الَّذِينَ لَا يُدْخِلُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَالْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ

– الشيخ : يعني: وفيها الردُّ على الجبريَّة، يعني الآيةُ فيها الردُّ على الطائفتَيْن، على القدريةِ النفاةِ، وعلى الجبرية.

– القارئ : وَالْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةٌ، وَلَا فِعْلٌ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ، فَأَثْبَتَ تَعَالَى لِلْعِبَادِ مَشِيئَةً حَقِيقَةً وَفِعْلًا وَجَعَلَ ذَلِكَ تَابِعًا لِمَشِيئَتِهِ، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أَيْ: هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى وَيُعْبَدَ، لِأَنَّهُ الْإِلَهُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، وَأَهْلٌ أَنْ يَغْفِرَ لِمَنِ اتَّقَاهُ وَاتَّبَعَ رِضَاهُ. تَمَّتْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

انتهى