الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة القيامة/(2) مراجعة قوله تعالى {كلا بل تحبون العاجلة} الآية 20 إلى قوله تعالى {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} الآية 40
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) مراجعة قوله تعالى {كلا بل تحبون العاجلة} الآية 20 إلى قوله تعالى {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} الآية 40

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة القيامة

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيمِ:

كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة:20-40]

– الشيخ : يقول تعالى مُوبِّـخًا وزاجرًا للكافرين الـمُكذِّبين باليوم الآخر {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ} هذه الدُّنيا القريبةِ الذاهبةِ، وتتركون {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} تتركونها وتنسونَها وتغفلونَ عنها ولا تعملون لها، وذلك يتضمَّن إيثارَ الدنيا على الآخرة، فحُبُّ الدنيا ومتاعَها أمرٌ طبيعيٌّ في الإنسان، وإنما يُذمُّ بالإيثارِ: إيثار الدنيا على الآخرة، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17،16] {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس:7]

ثم يذكرُ سبحانه أنَّ الناسَ يومَ القيامة صِنفانِ: سعداءُ، وأشقياء، فالسعداءُ المؤمنون المتقون وجوهُهم مُسفرةٌ نَضِرةٌ بهيَّةٌ حَسَنةٌ، وينظرونَ إلى ربهم بأبصارِهم عِيانًا، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} وآخرون وجوهُهم باسرةٌ مُكْفَهِرَّةٌ متغيرةٌ كما قال في الآية الأخرى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:40-42]

ثم يُذكّر -سبحانه وتعالى- بالقيامةِ الصغرى القريبة وهي الموت كما قال تعالى في سورة "ق" {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [ق:20،19] فذكرَ القيامتَين، وهنا يذكر القيامتَين {كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ} يعني: الروح، {بَلَغَتِ التَّراقِيَ} والتُرْقُوةُ معروفةٌ يعني: بلغتِ الحُلْقوم، وللإنسان تُرْقُوتَان وهما العظمانِ الـمُحيطانِ بالعُنق في أعلى الصَّدرِ، معروفٌ.

{كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ} في تلك السَّاعةِ الحَرِجَة يطلبُ للميتِ أهلُهُ مَنْ يَرقيهِ -وهيهات- ليَرُدُّوا روحَه {كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ} خروجٌ وتوديعٌ، يُودِّعُ الإنسان أهلَه في تلك الساعة يُفارقُهم فراقًا لا رجوعَ بعدَه إلا أن يلقاهُم في الجنَّةِ إذا كان مِن المؤمنين، {وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ}.

{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} السَّاق: الشِّدة، وتلتف الشِّدَّةُ بالشِّدَّةِ في تلك السَّاعةِ الحَرِجَة، شدائدُ متصلةٌ {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ} إلى أين يذهبُ الميت؟ يذهبُ إلى ربِّه؛ ليَلْقَى ما عنده مِن خيرٍ أو شرٍّ بحسبِ حالِهِ وعملِهِ {إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ}

والحديثُ عن الشَّقي، الحديث في هذه الآية عن الشَّقي ولهذا قال: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} هذه حالُ الكافر {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} {فَلا صَدَّقَ} بما جاء به الرسولُ وجاءَ في القرآن {ولا صَلَّى} لربِّه ما فرضَ اللهُ عليه، ولكنَّه بخلافِ ذلك كذَّبَ بالحقِّ وتولَّى عن العملِ الصالح، {ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} وفي هذا تهديدٌ له ووعيدٌ، وهذا توصيفٌ لحالِ الكافرِ الفاجرِ الـمُعْرِضِ عن هُدى الله،.

ثم قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} يعني: أيظنُّ الإنسانُ أنه متروكٌ مُهْمَلٌ هَمَلًا لا يُؤمَرُ ولا يُنهَى ولا يُكلَّف ولا يُجزَى على عملِهِ؟ لا، الله -تعالى- ما خلقَ الإنسان هَمَلًا، بل خلقَهُ لحكمةٍ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذاريات:56] يُؤمَرون ويُنْهَون ثمَّ يُجزَون، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] فالإنسان خُلِقَ فيهذه الحياة لِيُبْتَلَى بأنواعِ الابتلاءاتِ مِن النِّعم والمصائبِ والتكاليف كلُّها ابتلاءٌ للعباد {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}.

ثمَّ يذكرُ اللهُ صفةَ خلقِهِ ومبدأِ خلقِ الإنسانِ {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} فهذا الإنسانُ الذي خَلَقَهُ اللهُ وجعل خَلْقَهُ أطوارًا نطفةً فعلقةً فمُضغةً فكذا فكذا، وبعدَ ولادتِهِ هو يَـمُرُّ بأطوار، كل هذا أيكونُ عبثًا؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ} [المؤمنون:116،115] تعالى الله عن ذلك، اللهُ مُنزَّهٌ عن العَبَث واللَّعِبِ، بل كلُّ ما يفعلُهُ فلحكمةٍ بالغةٍ، والذي خلقَ الإنسانَ بهذه الأطوارِ {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى}؟ وهذا مِن الاستدلالِ بالنَّشْأةِ الأولى على النَّشْأة الثانية وهذا كثيرٌ في  القرآنِ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5] فمِن أدلةِ البعثِ: النشأةُ الأولى، قال الله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79،78]

 

(تفسير السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبه أجمعين. قالَ الشيخُ عبد الرحمن السَّعدي -رحمه الله تعالى- في تفسيرِ قول الله تعالى:

{كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} الآيات

أَيْ: هَذَا الَّذِي أَوْجَبَ لَكُمُ الْغَفْلَةَ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ وَعْظِ اللَّهِ وَتَذْكِيرِهِ أَنَّكُمْ {تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} وَتَسْعُونَ فِيمَا يُحَصِّلُهَا، وَفِي لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، وَتُؤْثِرُونَهَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَتَذَرُونَ الْعَمَلَ لَهَا، لِأَنَّ الدُّنْيَا نَعِيمُهَا وَلِذَّاتُهَا عَاجِلَةٌ، وَالْإِنْسَانُ مُولَعٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ، وَالْآخِرَةِ مُتَأَخِّرٌ مَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَلِذَلِكَ غَفَلْتُمْ عَنْهَا وَتَرَكْتُمُوهَا، كَأَنَّكُمْ لَمْ تُخْلَقُوا لَهَا، وَكَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، الَّتِي تُبْذَلُ فِيهَا نَفَائِسُ الْأَعْمَارِ، وَيُسْعَى لَهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِهَذَا انْقَلَبَتْ عَلَيْكُمُ الْحَقِيقَةُ، وَحَصَلَ مِنَ الْخَسَارِ مَا حَصَلَ. فَلَوْ آثَرْتُمُ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَنَظَرْتُمْ اِلْعَوَاقِبَ نَظَرَ الْبَصِيرِ الْعَاقِلِ لَأَنْجَحْتُمْ، وَرَبِحْتُمْ رِبْحًا لَا خَسَارَ مَعَهُ، وَفُزْتُمْ فَوْزًا لَا شَقَاءَ يَصْحَبُهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدْعُو إِلَى إِيثَارِ الْآخِرَةِ، بِبَيَانِ حَالِ أَهْلِهَا وَتَفَاوُتِهِمْ فِيهَا، فَقَالَ فِي جَزَاءِ الْمُؤْثِرِينَ لِلْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} أَيْ: حَسَنَةٌ بَهِيَّةٌ، لَهَا رَوْنَقٌ وَنُورٌ؛ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمِ الْقُلُوبِ، وَبَهْجَةِ النُّفُوسِ، وَلَذَّةِ الْأَرْوَاحِ، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أَيْ: يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ: مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُهُ كُلَّ يَوْمٍ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُهُ كُلَّ جُمْعَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَتَمَتَّعُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَجَمَالِهِ الْبَاهِرِ، الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَإِذَا رَأَوْهُ نَسُوا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَحَصَلَ لَهُمْ مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ، وَنَضَرَتْ وُجُوهُهُمْ فَازْدَادُوا جَمَالًا إِلَى جَمَالِهِمْ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ يَجْعَلَنَا مَعَهُمْ.

وَقَالَ فِي الْمُؤْثِرِينَ الْعَاجِلَةِ عَلَى الْآجِلَةِ: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} أَيْ: مُعْبَسَةٌ كَدِرَةٌ، خَاشِعَةٌ ذَلِيلَةٌ. {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} أَيْ: عُقُوبَةٌ شَدِيدَةٌ، وَعَذَابٌ أَلِيمٌ، فَلِذَلِكَ تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ وَعَبَسَتْ.

قال الله تعالى: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} الآيات.

يَعِظُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِذِكْرِ الْمُحْتَضِرِ حَالَ السِّيَاقِ، وَأَنَّهُ إِذَا بَلَغَتْ رُوحُهُ التَّرَاقِي، وَهِيَ الْعِظَامُ الْمُكْتَنِفَةُ لِثُغْرَةِ النَّحْرِ، فَحِينَئِذٍ يَشْتَدُّ الْكَرْبُ، وَيَطْلُبُ كُلَّ وَسِيلَةٍ وَسَبَبٍ، يَظُنُّ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ الشِّفَاءُ وَالرَّاحَةُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أَيْ: مَنْ يَرْقِيهِ مِنَ الرُّقْيَةِ؛ لِأَنَّهُمِ انْقَطَعَتْ آمَالُهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ، فَتَعَلَّقُوا بِالْأَسْبَابِ الْإِلَهِيَّةُ. وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدْرَ، إِذَا حَتَّمَ وَجَاءَ فَلَا مَرَدَّ لَهُ، {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} لِلدُّنْيَا. {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أَيِ: اجْتَمَعْتِ الشَّدَائِدُ وَالْتَفَّتْ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ وَصَعُبَ الْكَرْبُ، وَأُرِيدَ أَنْ تَخْرُجَ الرُّوحُ مِنَ الْبَدَنِ الَّذِي أَلِفَتْهُ وَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ، فَتُسَاقُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيُجَازِيَهَا بِأَعْمَالِهَا، وَيُقَرِّرَهَا بِفِعَالِهَا.

فَهَذَا الزَّجْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ يَسُوقُ الْقُلُوبَ إِلَى مَا فِيهِ نَجَاتِهَا، وَيَزْجُرُهَا عَمَّا فِيهِ هَلَاكُهَا. وَلَكِنَّ الْمُعَانِدَ الَّذِي لَا تَنْفَعُ فِيهِ الْآيَاتُ، لَا يَزَالُ مُسْتَمِرًّا عَلَى غَيِّهِ وَكُفْرِهِ وَعِنَادِهِ.

{فَلا صَدَّقَ} أَيْ: لَا آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ {وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ} بِالْحَقِّ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْدِيقِ {وَتَوَلَّى} عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، هَذَا وَهُوَ مُطْمَئِنُّ قَلْبُهُ، غَيْرُ خَائِفٍ مِنْ رَبِّهِ، {ثمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أَيْ: لَيْسَ عَلَى بَالِهِ شَيْءٌ، تَوَعَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وَهَذِهِ كَلَمَّاتُ وَعِيدٍ، كَرَّرَهَا لِتَكْرِيرِ وَعِيدِهِ.

ثُمَّ ذَكَّرَ الْإِنْسَانَ بِخَلْقِهِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} أَيْ: مُهْمَلًا، لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَلَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ؟ هَذَا حُسْبَانٌ بَاطِلٌ وَظَنٌّ بِاللَّهِ بِغَيْرِ مَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ.

{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ} بَعْدَ الْمَنِيِّ {عَلَقَةً} أَيْ: دَمًا، {فَخَلَقَ} اللَّهُ مِنْهَا الْحَيَوَانَ وَسَوَّاهُ أَيْ: أَتْقَنَهُ وَأَحْكَمَهُ، {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ} الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَطَوَّرَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَطْوَارِ الْمُخْتَلِفَةِ {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى} إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ.

تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، انتهى.