الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة المرسلات/(2) من قوله تعالى {ألم نخلقكم من ماء مهين} الآية 20 إلى قوله تعالى {فبأي حديث بعده يؤمنون} الآية 50
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) من قوله تعالى {ألم نخلقكم من ماء مهين} الآية 20 إلى قوله تعالى {فبأي حديث بعده يؤمنون} الآية 50

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة المرسلات

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:20-50]

– الشيخ : لا إله إلَّا الله

الحمدُ للهِ، لـمَّا ذكرَ اللهُ أمرَ البعثِ وأحداثَ القيامةِ {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:7-10] إلى آخر الآيات، ذكرَ بعدَ ذلك بعضَ الأدلَّةِ على البعثِ، كالخلقِ الأوَّلِ خلقُ الإنسانِ من نطفةٍ، {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} مثلُ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40]، {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:37-40]

ثمَّ ذكرَ أيضًا خلقَ الأرضِ والجبالِ وإجراءَ الأنهارِ {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} هذهِ الأرضُ تضمُّ البشرَ أحياءَهم وأمواتَهم، فالأحياءُ يسكنونَ على ظهرِها، وفي ما يُنشئونه من المساكنِ في داخلِها وفي بطنِها، وفيها الأمواتُ يُودَعونَ فيها {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55]

{وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:32]، {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} رَوَاسِيَ هذه الجبالُ رواسي، جمعُ راسيةٍ، {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} عالياتٍ، هذه الجبالُ لها جذورٌ في الأرضِ عميقةٌ، وهي شامخةٌ في السَّماءِ، وهي متفاوتةٌ، في [هناك] جبالٌ عاليةٌ جدًّا وفي جبال دونَ ذلكَ.

{وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} أنزلَ اللهُ الأمطارَ وأجرى الأنهارَ سُقيا للنَّاسِ، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68-69]، {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} زلالًا لو شاءَ اللهُ لجعلَه أجاجًا ملحًا فهذه كلُّها نِعمٌ وآياتٌ، نِعمٌ من اللهِ على العبادِ، وهي آياتٌ دالَّةٌ على قدرتِه تعالى وحكمتِه ورحمتِه.

ثمَّ قالَ تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} هذا يقولُ المفسِّرونَ: على تقديرِ قولٍ محذوفٍ، أي: يُقالُ لهؤلاءِ الكفَّار يومَ القيامةِ {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} انطلقُوا إلى النَّار الَّتي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ}، أعوذُ باللهِ {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} هذا من صفةِ النَّارِ العظيمةِ، {تَرْمِي بِشَرَرٍ} عظيمةٌ كبيرةٌ {كَالْقَصْرِ}، {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} قالَ المفسِّرونَ: إنَّها بمعنى سود، شررٌ أسودٌ، {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}.

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا الوعيدُ والتَّهديدُ يُكرَّرُ في هذه السُّورة عشرَ مرَّاتٍ، بعدَ كلِّ آيةٍ أو آيتين {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وَيْلٌ لِلْمُكَذِّبِينَ.

ثمَّ قالَ تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} والقيامةُ مواقفُ وأحوالٌ ففي بعضِ المواقفِ يتكلَّمون، وفي بعضِ المواقفِ يُختَمُ على أفواهِهم ولا يتكلَّمون، وفي بعضِ المواقفِ يعتذرونَ، وفي بعضِ المواقفِ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}

{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ} أي: يُقالُ لهم أيضًا {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.

ولَمَّا ذكرَ اللهُ عاقبةَ المكذِّبينَ وما يُقالُ لهم وما يصيرونَ إليه، ذكرَ عاقبةَ المتَّقين المؤمنين: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} المجرمونَ المكذِّبون  قيلَ لهم: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} وأمَّا المتَّقون فهم في ظلالٍ ظليلٍ، ظلالٍ وارفٍ واقٍ من النَّارِ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} هذا وصفٌ لحالِ المتَّقين وما يحصلُ لهم في الجنَّة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء:57]

{كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي: يُقالُ لهم أيضًا: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.

ثمَّ يرجعُ السِّياقُ إلى توبيخِ وتهديدِ المجرمينَ في هذه الدُّنيا: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} يعني: رجعَ الكلامُ إلى تهديدِ المجرمين في الدُّنيا، {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ}، {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} هذه حالُ المجرمينَ المكذِّبينَ الكفَّار، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} بِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ هذا القرآنِ العظيمِ المشتمِلِ على كلِّ خيرٍ وبيانٍ لكلِّ ما يحتاجُ إليه العبادُ، المشتمِلُ على العقائدِ الصَّحيحةِ والأحكامِ العادلةِ {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، فأخبارُه كلُّها غايةٌ في الصِّدق، وأحكامُه غايةٌ في العدلِ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فلا حديثَ أفضلُ منهُ {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23]، وهو القرآنُ {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} الآياتِ:

أي: أمَا خلقْناكم أيُّها الآدميُّونَ {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} أي: في غايةِ الحقارةِ، خرجَ مِن بينِ الصُّلبِ والتَّرائبِ، حتَّى جعلَهُ اللهُ {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} وهوَ الرَّحمُ، بهِ يستقرُّ وينمو.

{إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} ووقتٍ مقدَّرٍ.

{فَقَدَرْنَا} أي: قدَّرْنا ودبَّرْنا ذلكَ الجنينَ، في تلكَ الظُّلماتِ، ونقلْناهُ مِن النُّطفةِ إلى العلقةِ، إلى المضغةِ، إلى أنْ جعلَهُ اللهُ جسدًا، ثمَّ نفخَ فيهِ الرُّوحَ، ومنهم مَن يموتُ قبلَ ذلكَ.

{فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} يعني: بذلكَ نفسُهُ المقدَّسةُ لأنَّ قدرَهُ تابعٌ لحكمتِهِ موافقٌ للحمدِ.

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} بعدَما بيَّنَ اللهُ لهم الآياتِ، وأراهم العِبرَ والبيِّناتِ.

قالَ اللهُ تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا…} الآياتِ:

أي: أما مننَّا عليكم وأنعمْنا، بتسخيرِ الأرضِ لمصالحِكم، فجعلْناها {كِفَاتًا} لكم.

{أَحْيَاءً} في الدُّورِ، {وَأَمْوَاتًا} في القبورِ، فكما أنَّ الدُّورَ والقصورَ مِن نعمِ اللهِ على عبادِهِ ومنَّتِهِ، فكذلكَ القبورُ، رحمةٌ في حقِّهم، وسترًا لهم، عن كونِ أجسادِهم باديةً للسِّباعِ وغيرِها.

{وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي: جبالًا تُرسي الأرضَ، لئلَّا تميدَ بأهلِها، فثبَّتَها اللهُ بالجبالِ الرَّاسياتِ الشَّامخاتِ أي: الطِّوالِ العراضِ، {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} أي: عذبًا زلالًا، قالَ تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:68-70]

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} معَ ما أراهم اللهُ مِن النِّعمِ الَّتي انفردَ اللهُ بها، واختصَّهم بها، فقابلُوها بالتَّكذيبِ.

قالَ اللهُ تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ…} الآياتِ:

هذا مِن الويلِ الَّذي أُعِدَّ للمجرمينَ للمكذِّبينَ، أنْ يُقالَ لهم يومَ القيامةِ: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ثمَّ فسَّرَ ذلكَ بقولِهِ: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} أي: إلى ظلِّ نارِ جهنَّمَ، الَّتي تتمايزُ في خلالِهِ ثلاثُ شُعبٍ أي: قطعٌ مِن النَّارِ أي: تتعاورُهُ وتتناوبُهُ وتجتمعُ بهِ.

{لا ظَلِيلٍ} ذلكَ الظِّلُّ أي: لا راحةَ فيهِ ولا طمأنينةَ، {وَلا يُغْنِي} مَنْ مكثَ فيهِ {مِنَ اللَّهَبِ} بل اللَّهبُ قد أحاطَ بهِ، يمنةً ويسرةً ومِن كلِّ جانبٍ، كما قالَ تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16]، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41]

ثمَّ ذكرَ عِظمَ شررِ النَّارِ، الدَّالِّ على عظمِها وفظاعتِها وسوءِ منظرِها، فقالَ:

{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} وهيَ السُّودُ الَّتي تَضربُ إلى لونٍ فيهِ صفرةٌ، وهذا يدلُّ على أنَّ النَّارَ مظلمةٌ، لهبُها وجمرُها وشررُها، وأنَّها سوداءُ، كريهةُ المنظرِ، شديدةُ الحرارةِ، نسألُ اللهَ العافيةَ منها

– الشيخ : أعوذُ بالله

– القارئ : ومِن الأعمالِ المقرِّبةِ منها {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}

قالَ اللهُ تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} الآياتِ:

أي: هذا اليومُ العظيمُ الشَّديدُ على المكذِّبينَ، لا ينطقونَ فيهِ مِن الخوفِ والوجلِ الشَّديدِ، {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي: لا تُقبَلُ معذرتُهم، ولو اعتذرُوا

– الشيخ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم:7]

– القارئ : {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم:57]

{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ} لنفصلَ بينَكم، ونحكمَ بينَ الخلائقِ، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ} تقدرونَ على الخروجِ مِن ملكي وتنجونَ بهِ مِن عذابي، {فَكِيدُونِ} أي: ليسَ لكم قدرةٌ ولا سلطانٌ، كما قالَ تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]

ففي ذلكَ اليومِ، تبطلُ حِيلُ الظَّالمِينَ، ويضمحلُّ مكرُهم وكيدُهم، ويستسلمونَ لعذابِ اللهِ، ويَبِيْنُ لهم كذبُهم في تكذيبِهم {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}

قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ}.

لمَّا ذكرَ عقوبةَ المكذِّبينَ، ذكرَ مثوبةَ المحسنينَ، فقالَ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أي: للتَّكذيبِ، المتَّصفينَ بالتَّصديقِ في أقوالِهم وأفعالِهم وأعمالِهم، ولا يكونونَ كذلكَ إلَّا بأدائِهم الواجباتِ، وتركِهم المحرَّماتِ.

{فِي ظِلالٍ} مِن كثرةِ الأشجارِ المتنوِّعةِ، الزَّاهيةِ البهيَّةِ. {وَعُيُونٍ} جاريةٍ مِن السَّلسبيلِ، والرَّحيقِ وغيرِهما، {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي: مِن خيارِ الفواكهِ وطيبِها، ويُقالُ لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} مِن المآكلِ الشَّهيَّةِ، والأشربةِ اللَّذيذةِ {هَنِيئًا} أي: مِن غيرِ منغِّصٍ ولا مكدِّرٍ، ولا يتمُّ هناؤُهُ حتَّى يسلمَ الطَّعامُ والشَّرابُ مِن كلِّ آفةٍ ونقصٍ، وحتَّى يجزمُوا أنَّهُ غيرُ منقطِعٍ ولا زائلٍ، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فأعمالُكم هيَ السَّببُ الموصِلُ لكم إلى جنَّاتِ النَّعيمِ المقيمِ، وهكذا كلُّ مَن أحسنَ في عبادةِ اللهِ وأحسنَ إلى عبادِ اللهِ، ولهذا قالَ: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ولو لم يكنْ لهم مِن هذا الويلِ إلَّا فواتُ هذا النَّعيمِ، لكفى بهِ حزنًا وحرمانًا.

قالَ اللهُ تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ…} الآياتِ:

هذا تهديدٌ ووعيدٌ للمكذِّبينَ، أنَّهم وإنْ أكلُوا في الدُّنيا وشربُوا وتمتَّعُوا باللَّذَّاتِ، وغفلُوا عن القرباتِ، فإنَّهم مجرمونَ، يستحقُّونَ ما يستحقُّهُ المجرمونَ، فستنقطعُ عنهم اللَّذَّاتُ، وتبقى عليهم التَّبعاتُ، ومِن إجرامِهم أنَّهم إذا أُمِرُوا بالصَّلاةِ الَّتي هيَ أشرفُ العباداتِ، وقيلَ لهم: {ارْكَعُوا} امتنعُوا مِن ذلكَ.

فأيُّ إجرامٍ فوقَ هذا؟ وأيُّ تكذيبٍ يزيدُ على هذا؟

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ومِن الويلِ عليهِم أنَّهم تَنْسَدُّ عليهم أبوابُ التَّوفيقِ، ويُحرَمونَ كلَّ خيرٍ، فإنَّهم إذا كذَّبُوا هذا القرآنَ الكريمَ، الَّذي هوَ أعلى مراتبِ الصِّدقِ واليقينِ على الإطلاقِ.

{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أبالباطلِ الَّذي هوَ كاسمِهِ، لا يقومُ عليهِ شبهةٌ فضلًا عن الدَّليلِ؟ أم بكلامِ مشركٍ كذَّابٍ أفَّاكٍ مبينٍ؟

فليسَ بعدَ النُّورِ المبينِ إلَّا دياجي الظُّلماتِ، ولا بعدَ الصِّدقِ الَّذي قامَتِ الأدلَّةُ والبراهينُ على صدقِهِ إلَّا الإفكُ الصُّراحُ والكذبُ المبينُ، الَّذي لا يليقُ إلَّا بمَن يناسبُهُ.

فتبًّا لهم ما أعماهم! وويحًا لهم ما أخسرَهم وأشقاهم!

نسألُ اللهَ العفوَ والعافيةَ إنَّهُ جوادٌ كريمٌ. تمَّ تفسيرُ سورةِ المرسلاتِ، وللهِ الحمدُ.