بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة عبس
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس:24-42]
– الشيخ : الحمدُ للهِ، يُنبِّهُ سبحانه وتعالى إلى دليلٍ آخرَ من أدلَّة البعثِ: الأوَّلُ هو المذكورُ في قوله: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:17-19]، فهذا من الاستدلالِ بالمبدأِ الأوَّلِ والخلقِ الأوَّلِ، وهذا من الاستدلالِ بإحياءِ الأرضِ بعدَ موتِها حينَ يُنزلُ اللهُ عليها الغيثَ بعدَ القحطِ والجدْبِ بعدَ أنْ كانَتْ ميِّتةً يُحييها اللهُ تعالى بالماءِ فتتشقَّقُ الأرضُ بالنَّباتِ يقولُ تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} طعامُكَ الَّذي تأكلُه، فهذا كيفَ وصلَ إليكَ وكيفَ جاءَ، اللهُ تعالى أنزلَ الماءَ وشقَّ الأرضَ بالنَّباتِ.
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} يشبهُ قولَه تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22]، قالَ تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:9-11]، فأحيا الأرضَ بالنَّباتِ وأخرجَ منها الأرزاقَ ومن ذلكَ الطَّعامُ الَّذي نأكلُهُ.
{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا} أنواعُ الأشجارِ بأنواعِ الثِّمارِ وأنواعِ الحبوبِ، لا إله إلَّا الله، فهذا هو الدَّليلُ الثَّاني من أدلَّةِ البعثِ في هذه السُّورةِ وهو يتكرَّرُ في القرآنِ كثيرًا بعباراتٍ وأساليبَ مختلفةٍ.
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فعدَّدَ علينا أنواعَ الأشجارِ الْمُنتجِةِ لأنواعِ الثِّمارِ وكلُّ هذا متاعٌ لنا ولأنعامِنا وبهائمِنا، من هذه النَّباتات ما يكونُ لنا طعامًا ونتَّخذُ منه شرابًا، ومن هذا النَّبات ما كانَ علفًا لدوابِّنا {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}.
فلمَّا ذكرَ الأدلَّةَ على البعثِ ذكرَ القيامةَ بالنَّصِّ {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} الصَّاخَّةُ هي الحاقَّةُ وهي الطَّامَّةُ وهي الغاشيةُ، اسمٌ من أسماءِ القيامةِ، وكلُّها أسماءٌ باعتبارِ أحوالِها وصفاتِها
{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} يفرُّ الإنسانُ من أقربِ النَّاس إليه وأحبِّهم إليه؛ لأنَّه مشغولٌ بنفسه عنهم وكلٌّ منهم مشغولٌ بنفسِهِ {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} لا يُعرِّجُ عليهِ ولا يجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33]، كلٌّ مشغولٌ بنفسِه، نفسي نفسي نفسي.
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} هؤلاءِ أحرصُ ما يكونُ الإنسانُ عليهم الزَّوجة والأبناء، {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} لكلِّ امرئٍ من أولئك المذكورين {شَأْنٌ يُغْنِيهِ} مشغولٌ بشأنِه لا يلتفتُ إلى غيره من قريبٍ ولا بعيدٍ، لا أبٍ ولا أمٍّ ولا أبناءٍ ولا زوجةٍ، لا إلهَ إلا الله، هذا تشبهُ {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [المعارج:11-14]، يفرُّ من هؤلاء ولو أُتيحَ له أنْ يفديَ نفسَه بهم ويجعلَهم فدىً له لفعلَ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
ثمَّ ذكرَ سبحانه وتعالى حالَ النَّاسِ وأنَّهم فريقانِ في مواقفِ القيامةِ فريقان -السُّعداءُ والأشقياءُ-، فأمَّا السُّعداءُ فعلى وجوهِهم البِشرُ والسُّرورُ والفرحُ والاستبشارُ؛ لأنَّهم آمنونَ من عذابِ الله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، فهؤلاء وجوهُهم {مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}.
والآخرون على الضِّدِّ من ذلك: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} نسألُ اللهَ العافية، يشبهُ قولَهُ تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} هذه حالُهم في القيامةِ، ثمَّ يصيرونَ إلى مصيرِهم المحتومِ من الجنَّةِ أو النَّارِ، نعم يا محمَّد.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
ثمَّ أرشدَهُ اللهُ إلى النَّظرِ والتَّفكُّرِ في طعامِهِ، وكيفَ وصلَ إليهِ بعدَما تكرَّرَتْ عليهِ طبقاتٌ عديدةٌ، ويسَّرَهُ لهُ فقالَ: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}
– الشيخ : سبحانَ الله! طعامُك كذلك تأكلُه كم مرَّ به من أحوالٍ وكم عملَتْ فيه من أيدٍ من بدايةِ الأعمالِ الزِّراعيَّةِ إلى الأعمالِ التَّالية من جنيِ الثِّمارِ وخزنِها وحملِها من مكانٍ إلى مكانٍ حتَّى وصلَتْ إليكَ ووُضِعَ هذا الطَّعامُ بينَ يديكَ، لا إله إلَّا الله.
– القارئ : {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} أي: أنزلْنا المطرَ على الأرضِ بكثرةٍ.
{ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ} للنَّباتِ {شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أصنافًا مصنَّفةً مِن أنواعِ الأطعمةِ اللَّذيذةِ، والأقواتِ الشَّهيَّةِ {حبًّا} وهذا شاملٌ لسائرِ الحبوبِ على اختلافِ أصنافِها، {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} وهوَ القتُّ، {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} وخصَّ هذهِ الأربعةَ لكثرةِ فوائدِها ومنافعِها.
{وَحَدَائِقَ غُلْبًا} أي: بساتينَ فيها الأشجارُ الكثيرةُ الملتفَّةُ، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} الفاكهةُ: ما يتفكَّهُ فيهِ الإنسانُ، مِن تينٍ وعنبٍ وخوخٍ ورمَّانٍ، وغيرِ ذلكَ.
والأبُّ: ما تأكلُهُ البهائمُ والأنعامُ، ولهذا قالَ: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ} الَّتي خلقَها اللهُ وسخَّرَها لكم، فمَن نظرَ في هذهِ النِّعمِ أوجبَ لهُ ذلكَ شكرُ ربِّهِ، وبذلُ الجهدِ في الإنابةِ إليهِ، والإقبالِ على طاعتِهِ، والتَّصديقِ بأخبارِهِ.
قالَ اللهُ تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} الآياتِ:
أي: إذا جاءَتْ صيحةُ القيامةِ، الَّتي تصخُّ لهوها الأسماعُ
– الشيخ : لهولِها، واضح
– القارئ : بدونِ لامٍ، الَّتي تصخُّ لهولِها الأسماعُ، وتنزعجُ لها الأفئدةُ يومئذٍ، ممَّا يرى النَّاسُ مِن الأهوالِ وشدَّةِ الحاجةِ لسالفِ الأعمالِ.
{يَفِرُّ الْمَرْءُ} مِن أعزِّ النَّاسِ إليهِ، وأشفقِهم لديهِ، {مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ} أي: زوجتِهِ {وَبَنِيهِ} وذلكَ لأنَّهُ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي: قد شغلَتْهُ نفسُهُ، واهتمَّ لفكاكِها، ولم يكنْ لهُ التفاتٌ إلى غيرِها، فحينئذٍ ينقسمُ الخلقُ إلى فريقَينِ: سعداءٍ وأشقياءٍ، فأمَّا السُّعداءُ، فوجوهُهم يومئذٍ {مُسْفِرَةٌ} أي: قد ظهرَ فيها السُّرورُ والبهجةُ، مِن ما عرفُوا مِن نجاتِهم، وفوزِهم بالنَّعيمِ، {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ} الأشقياءِ {يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا} أي: تغشاها {قَتَرَةٌ} فهيَ سوداءُ مظلمةٌ مدلهمَّةٌ، قد أيسَتْ مِن كلِّ خيرٍ، وعرفَتْ شقاءَها وهلاكَها.
{أُولَئِكَ} الَّذين بهذا الوصفِ {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أي: الَّذين كفرُوا بنعمةِ اللهِ وكذَّبُوا بآياتِ اللهِ، وتجرَّؤُوا على محارمِهِ.
نسألُ اللهَ العفوَ والعافيةَ إنَّهُ جوادٌ كريمٌ. تمَّ تفسيرُ سورةِ عبسَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
– الشيخ : رحمَه اللهُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ .