بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
سورة "البروج"
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:1-22]
– الشيخ : الله أكبر، الله أكبر، هذه سورةُ البروج، وهي مكيَّةٌ، افتُتحتْ بأقسامٍ يعني بأقسام أي: أيمانٌ مِن الله، أقسمَ بالسماء، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} والبروجُ: هي النجومُ في السماء {ذَاتِ الْبُرُوجِ}، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} هو يومُ القيامة، {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} شاملٌ لكلِّ مَنْ يَشهدُ {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}، ويومُ القيامة {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103] والمفسِّرون يختلفون في هذا، فيشملُ الشاهد والمشهود كلَّ يومٍ مشهودٍ، ويشملُ كلَّ شاهدٍ مِن الملائكة أو مِن البشرِ أو مِن أعضاءِ الإنسانِ حين تشهدُ عليه، {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}.
ثم قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} قيل: لُعِنَ، أصحابُ الأخدود هم المجرمون الذين امتحنُوا المؤمنينَ وعذَّبُوهم مِن الأممِ الماضية، وقد قصَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قصةَ أصحاب الأخدود، وذكر أنه كان مَلِكٌ يدَّعي لنفسِه الربوبية كفرعون والنمرود، وكانَ له ساحرُ، وأشارَ عليه الساحر أن ينتدبَ له شابًّا يُعلِّمُهُ السحرَ، وهذا الشابُّ الغلامُ اتفق له راهبٌ نصرانيّ على الدِّين الصحيحِ على دينِ المسيح، فتلقَّى عنه وأعجبَه دينُ الراهبِ واجتهدَ في معرفة الحق، وأجرى اللهُ على يدِه أنه يَشفِي بإذن الله ويُبْرِئُ مِن العَمَى، في حديثٍ طويلٍ رواهُ مسلم، وأنَّ هذا الغلامَ اهتدى على يدِهِ وزيرُ الملِكِ، ثمَّ لَمَّا علمَ الملكُ امتحنَ الوزيرَ ثم امتحن الغلامَ ثم امتحن الراهبَ؛ لأنَّه تَسَلْسَلَ أمرُهم، فالوزيرُ دلَّ على الغلام، والغلامُ دلَّ على الراهبِ، والملكُ امتحنَ الجميعَ وعذَّبَهُم، وعملَ فيهم ما أخبرَ به الرسولُ -عليه الصلاة والسلام- مِن أنه يُؤتَى بالرجل فيُنشَرُ بالمنشارِ مِن مفرقِهِ إلى رجليهِ لا يصدُّهُ ذلك عن دينه، وفعلًا ثبتَ الوزيرُ وثبتَ الغلامُ وثبتَ الراهب، ثم إنه حاولَ أن يقتلَ الغلامَ بطرقٍ فأنجاهُ اللهُ منها، ثم قال: "إنَّكَ لا تستطيعَ قتلي إلا أن تجمعَ الناسَ ثم ترميني بسهمٍ مِن كنانتِكَ ثم تقولُ: "بسمِ الله ربِّ الغلامِ، بسمِ الله ربِّ الغلامِ"، فلما سمعَ الناس ذلك قالوا: آمنَّا بربِّ الغلامِ، آمنا بربِّ الغلامِ، فاستفحلَ الأمرُ على هذا الملكِ فأمرَ بأن تُحفَرَ أخاديد في السِّككِ وتُضرَمَ فيها النيران وكلُّ مَنْ لم يرجعْ عن دينِهِ ذلك طُرِحَ فيها، حتى أن امرأة جاءَتْ ومعها صبيٌّ لها فلما وصلَتْ إلى بعضِ هذه المواضع التي فيها النارُ تَلَكأَتْ وتَكَعْكَعَتْ فقالَ لها ابنها: "اصبري فإنكِ على الحقِّ"، أنطقَ اللهُ صبيها، وكانَ أولئكَ الظلمةِ أعوانُ الملكِ أو الطَّاغي كانوا قعودًا على السِّكَكِ يُلْقُونَ في النارِ مَنْ لم يرجعْ عن دينِهِ، وقصتُهم مبسوطةٌ في هذا الحديثِ الطويل، وهذا تفسيرُ لهذه الآية، هذا الحديثُ تفسيرٌ للآية {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ…} ما أنكروا عليهم إلا الإيمانَ، هذا هو الذي أنكروا عليهِم {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
ثم ذكرَ اللهُ وعيدَهم وما توعَّدَهُم به: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يعني: صَدُّوا المؤمنين وامتحنوهم؛ لِيَرْجِعُوا عن دينِهم، هؤلاء قد أعدَّ اللهُ لهم جهنم {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} جزاءً وفاقاً.
ثمَّ ذكرَ اللهُ ما أعدَّ لأوليائِهِ المؤمنين ومنهم أولئك الذين صبرُوا على دينِهم، ومنهم أولئك الذين صبروا على دينِهم كهذه المرأة وغيرِها {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}.
ثم ختمَ اللهُ هذه السورة بذكرِ جملةٍ مِن أسمائِه وصفاتِه وذِكْرِ عِزَّتِهِ وقوةِ بطشِهِ {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} سبحانه وتعالى، فهو الـمُبْدِئُ والـمُعِيد {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ}، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} {المجيدُ} قُرئ بالرفعِ وقُرئ بالجرِّ، فعلى قراءةِ الرفعِ هو اسمٌ للهِ وصفة، وعلى قراءةِ الجرِّ هو صفةٌ للعرش، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} سبحانه وتعالى، ما أرادَهُ…، كلَّ ما أراده فعلَهُ، وكلَّ ما فعلَهُ فهو بإرادةٍ، {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} نظيرُ ما تقدم {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان:1] أي: قد أتاكَ حديث الجنود {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} قومُ صالح، {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} وفي هذا تهديدٌ للمكذِّبين، {اللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ} سيجزيهِم على تكذيبِهِم وعصيانِهِم وكفرِهِم {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ}.
ثم قالَ تعالى مُنَوِّهًا بهذا القرآن: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} هذا القرآنُ هو كتابٌ عزيزٌ، وهو قرآنٌ كريمٌ، وقرآنٌ مجيدٌ، وكتابٌ مبينٌ، وقرآنٌ مبينٌ، وُصِفَ وسُمِّيَ بهذه الصفاتِ وبهذه الأسماء، ومن أسمائِهِ: الذكر، {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ..} [فصلت:42،41]، {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وهو أمُّ الكتابِ، هذا القرآن مثبتٌ في أمِّ الكتاب كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4،3] فالقرآنُ مكتوبٌ نصًّا في اللَّوحِ المحفوظِ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
تفسيرُ سورةِ البروجِ، وهِيَ مكيةٌ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} الآيات:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} أَيْ: ذَاتِ الْمَنَازِلِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَنَازِلِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالْكَوَاكِبِ الْمُنْتَظِمَةِ فِي سَيْرِهَا، عَلَى أَكْمَلِ تَرْتِيبٍ وَنِظَامٍ دَالٍّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَرَحِمَتِهِ، وَسِعَةِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ.
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ الْخَلْقَ أَنْ يَجْمَعَهُمْ فِيهِ، وَيَضُمَّ فِيهِ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ، وَقَّاصِيَهُمْ وَدَانِيَهُمُ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ، وَلَا يُخْلِفَ اللَّهُ الْمِيعَادَ.
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} وَشَمَلَ هَذَا كُلَّ مَنِ اتُّصِفَ بِهَذَا الْوَصْفِ أَيْ: مُبْصِرٍ وَمُبْصَرٍ، وَحَاضِرٍ وَمَحْضُورٍ، وَرَاءٍ وَمَرْئِيٍّ.
وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْبَاهِرَةِ، وَحِكَمِهِ الظَّاهِرَةِ، وَرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} وَهَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ.
وَالأُخْدُودِ الْحُفَرُ الَّتِي تُحْفَرُ فِي الْأَرْضِ. وَكَانَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ هَؤُلَاءِ قَوْمًا كَافِرِينَ، وَلَدَيْهِمْ قَوْمٌ مُؤْمِنُونَ، فَرَاوَدُوهُمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِمْ، فَامْتَنَعَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَشَقَّ الْكَافِرُونَ أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ، وَقَذَفُوا فِيهَا النَّارَ، وَقَعَدُوا حَوْلَهَا، وَفَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَعَرَضُوهُمْ عَلَيْهَا، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُمْ أَطْلَقُوهُ، وَمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْإِيمَانِ قَذَفُوهُ فِي النَّارِ، وَهَذَا غَايَةُ الْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ وَلِحِزْبِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَأَهْلَكَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ فَقَالَ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} ثُمَّ فَسَّرَ الْأُخْدُودَ بِقَوْلِهِ: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ التَّجَبُّرِ وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَمُعَانَدَتِهَا، وَمُحَارَبَةِ أَهْلِهَا وَتَعْذِيبِهِمْ بِهَذَا الْعَذَابِ، الَّذِي تَنْفَطِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ، وَحُضُورُهُمْ إِيَّاهُمْ عِنْدَ إِلْقَائِهِمْ فِيهَا، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَا نَقَمُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا
– الشيخ : يعني مما يدلُّ على قَسوةِ قلوبِهم وعلى خُبْثِهِم وحِقدِهِم العظيمِ على المؤمنين أنَّهم كما يقال: يتفرَّجون، يُلْقُونَ المؤمنين وهم يتفرَّجون عليهم وهم يَحترقون، أيُّ قسوةٍ وأيُّ ظلمٍ وأيُّ عدوانٍ وأي…؟! يعني فقدوا الإنسانية، الطبيعة الإنسانية، وصاروا أخبثَ مِنَ الحيواناتِ الـمُفترسة، يتفرَّجون على المؤمنين والنارُ تُحْرِقُهم.
– القارئ : إِلَّا حَالَةً يُمْدَحُونَ عَلَيْهَا، وَبِهَا سَعَادَتُهُمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أَيِ: الَّذِي لَهُ الْعِزَّةُ الَّتِي قَهَرَ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ حَمِيدٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَوْصَافِهِ. {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خَلْقًا وَعَبِيدًا، يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ بِمَا يَشَاءُ، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} عِلْمًا وَسَمْعًا وَبَصَرًا، أَفَلَا خَافَ هَؤُلَاءِ الْمُتَمَرِّدُونَ عَلَيْهِ، أَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَزِيزُ الْمُقْتَدِرُ، أَوَ مَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَمَالِيكُ لِلَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ سُلْطَةٌ، دُونَ إِذْنِ الْمَالِكِ؟ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ، مُجَازِيهِمْ عَلَى فِعَالِهِمْ ؟ كَلَّا إِنَّ الْكَافِرَ فِي غُرُورٍ، وَالْجَاهِلَ فِي عَمًى وَضَلَالٍ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
ثُمَّ أَوْعَدَهُمْ وَوَعَدَهُمْ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمِ التَّوْبَةَ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أَيِ: الْعَذَابُ الشَّدِيدُ الْمُحْرِقُ. قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ، قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ وَأَهْلَ طَاعَتِهِ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ عُقُوبَةَ الظَّالِمِينَ، ذَكَرَ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بِقُلُوبِهِمْ {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بِجَوَارِحِهِمْ {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} الَّذِي حَصَلَ لَهُمُ الْفَوْزُ بِرِضَا اللَّهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ.
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أَيْ: إِنَّ عُقُوبَتَهُ لِأَهْلِ الْجَرَائِمِ وَالذُّنُوبِ الْعِظَامِ لَقَوِيَّةٌ شَدِيدَةٌ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} أَيْ: هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِإِبْدَاءِ الْخَلْقِ وَإِعَادَتِهِ، فَلَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ مُشَارِكٌ، {وَهُوَ الْغَفُورُ} الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَهَا لِمَنْ تَابَ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ لِمَنِ اسْتَغْفَرَهُ وَأَنَابَ.
{الْوَدُودُ} الَّذِي يُحِبُّهُ أَحْبَابُهُ مَحَبَّةً لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُشَابِهُهُ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَالْمَعَانِي وَالْأَفْعَالِ، فَمَحَبَّتُهُ فِي قُلُوبِ خَوَاصِّ خَلْقِهِ التَّابِعَةِ لِذَلِكَ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَحَابِّ، وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ أَصْلُ الْعُبُودِيَّةِ، وَهِيَ الْمَحِبَّةُ الَّتِي تَتَقَدَّمُ جَمِيعَ الْمَحَابِّ وَتَغْلِبُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا تَبَعًا لَهَا، كَانَتْ عَذَابًا عَلَى أَهْلِهَا، وَهُوَ -تَعَالَى- الْوَدُودُ الْوَادُّ لِأَحْبَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] وَالْمَوَدَّةُ: هِيَ الْمَحَبَّةُ الصَّافِيَةُ، وَفِي هَذَا سِرٌّ لَطِيفٌ، حَيْثُ قَرَنَ الْوَدُودُ بِالْغَفُورِ؛ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذُّنُوبِ إِذَا تَابُوا إِلَى اللَّهِ وَأَنَابُوا، غَفَرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَأَحَبَّهُمْ، فَلَا يُقَالُ: بَلْ تَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمِ الْوِدُّ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْغَالِطِينَ.
بَلِ اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ، مِنْ رَجُلٍ على راحلتِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ وَمَا يُصْلِحُهُ، فَأَضَلَّهَا فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ مُهْلِكَةٍ، فَأَيَسَ مِنْهَا، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، إِذَا رَاحِلَتُهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، فَاللَّهُ أَعْظَمُ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ، وَهَذَا أَعْظَمُ فَرَحٍ يُقَدَّرُ.
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ، وَصَفْوُ الْوِدَادِ،
– الشيخ : اللهم تُبْ علينا إنك أنت التواب..
– القارئ : مَا أَعْظَمَ بِرَّهُ، وَأَكْثَرَ خَيْرَهُ، وَأَغْزَرَ إِحْسَانَهُ، وَأَوْسَعَ امْتِنَانَهُ!
{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} أَيْ: صَاحِبُ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الَّذِي مِنْ عَظَمَتِهِ، أَنَّهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْكُرْسِيَّ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ، بِالنِّسْبَةِ لِسَائِرِ الْأَرْضِ، وَخَصَّ اللَّهُ الْعَرْشَ بِالذِّكْرِ؛ لِعَظَمَتِهِ، وَلِأَنَّهُ أَخَصُّ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ تَعَالَى، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ، يَكُونُ الْمَجِيدُ نَعْتًا لِلْعَرْشِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَعْتًا لِلَّهِ، وَالْمَجْدُ سِعَةُ الْأَوْصَافِ وَعَظَمَتُهَا.
{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أَيْ: مَهْمَا أَرَادَ شَيْئًا فَعَلَهُ، إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ فِعَالًا لِمَا يُرِيدُ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْ أَرَادَتْ شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِإِرَادَتِهَا مِنْ مُعَاوِنٍ وَمُمَانِعٍ، وَاللَّهُ لَا مُعَاوِنَ لِإِرَادَتِهِ، وَلَا مُمَانِعَ لَهُ مِمَّا أَرَادَ.
ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَفْعَالِهِ الدَّالَّةِ عَلَى
– الشيخ : لا إله إلا الله، سبحان الله، {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أمَّا المخلوقُ فإنه قد يفعلُ ما لا يريدُ، وقد يريدُ ما لا يفعلُ، أما الله فإنه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فما أرادَهُ فعلَهُ وما فعلَهُ فقد أرادَهُ، وذلك لكمالِ قدرتِه وعظيمِ سلطانِهِ ونفاذِ مشيئتِهِ، لا مانعَ لِمَا أعطى ولا مُعطيَ لِمَا منعَ.
– القارئ : ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَفْعَالِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، فَقَالَ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} وَكَيْفَ كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ، فَجَعَلَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْمُهْلَكِينَ.
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أَيْ: لَا يَزَالُونَ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ، لَا تَنْفَعُ فِيهِمُ الْآيَاتُ، وَلَا تُجْدِي لَدَيْهِمُ الْعِظَاتُ.
{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أَيْ: قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ عِلْمًا وَقُدْرَةً، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] فَفِيهِ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عُقُوبَةِ مَنْ هُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ تَدْبِيرِهِ.
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} أَيْ: وَسِيعُ الْمَعَانِي عَظِيمُهَا، كَثِيرُ الْخَيْرِ وَالْعِلْمِ.
{فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} مِنَ التَّغْيِيرِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَمَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَهُوَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي قَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَجَزَالَتِهِ، وَرِفْعَةِ قَدْرِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
انتهى