بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلاَّمِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ)
علم الأخلاق
الدَّرس: الخامس
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لشيخِنا وللحاضرينَ والمستمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ ناصرٍ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ "فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلَّامِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ" :
الشَّجاعةُ
هذا الخلقُ العظيمُ قد أمرَ اللهُ بهِ في آياتٍ كثيرةٍ، وهيَ آياتُ الجهادِ كلِّها. وأثنى على أهلِهِ وأخبرَ أنَّهُ طريقُ الرُّسلِ وساداتِ الخلقِ، ونهى عن ضدِّهِ وهوَ الجبنُ والفشلُ والخوفُ مِن الخلقِ في سبيلِ جهادِ الدَّعوةِ
– الشيخ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال:45]، والأمرُ بالثَّبات هو أمرٌ بالشَّجاعةِ؛ لأنَّ الجبنَ هو الَّذي يحملُ على الفرارِ، هذه من الآياتِ، وسيذكرُ الشَّيخُ بعضَ الأدلَّةِ.
– القارئ : وفي سبيلِ جهادِ السِّلاحِ.
وهذا الخلقُ الجليلُ قد يكونُ غريزةً معَ العبدِ، ويتقوَّى بموجباتِ الإيمانِ، وقد يحتاجُ العبدُ إلى التَّمرُّنِ عليهِ، وسلوكِ الطُّرقِ المعينةِ على ذلكَ. فالشَّجاعةُ قوَّةُ القلبِ وثباتُهُ، وطمأنينتُهُ في المقاوماتِ المهمَّةِ، والأحوالِ الحرجةِ وكلٌّ يحتاجُ إليهِ، وخصوصًا الرُّؤساءُ اللَّذينَ تُناطُ بهم المهمَّاتُ والأمورُ، فحاجتُهم إليهِ ضروريَّةٌ.
وقد دعا القرآنُ إليهِ ودعا إلى كلِّ وسيلةٍ تُعينُ عليهِ، فأمرَ بخوفِهِ وحدَهُ، وألَّا يخشى العبدُ الخلقَ، فمتى قصرَ العبدُ خوفَهُ على اللهِ وحدَهُ، وعلمَ أنَّ الخلقَ لن يقدرُوا على نفعِهِ ولا ضرِّهِ إلَّا بمشيئةِ اللهِ قويَ قلبُهُ، ثمَّ إذا توكَّلَ على اللهِ وقوَّى اعتمادَهُ عليهِ ازدادَتْ قوَّةُ قلبِهِ، كما قالَ تعالى عن خيارِ الخلقِ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]
ثمَّ إذا علمَ ما يترتَّبُ على القوَّةِ في الدِّينِ والشَّجاعةِ مِن الأجرِ والثَّوابِ ازدادَتْ قوَّتُهُ وتضاعفَتْ شجاعتُهُ، كما نبَّهَ اللهُ على هذهِ الحالةِ بقولِهِ: إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء:104]
وكلَّما تأمَّلَ الخلقَ وعرفَ أحوالَهم وصفاتَهم، وأنَّهم ليسَ عندَهم شيءٌ مِن النَّفعِ، ولا مِن النُّصرةِ والدَّفعِ، وأنَّ مَدْحَهم لا يُغني عن العبدِ شيئًا، وذمَّهم لا يضرُّهُ شيئًا، وأنَّهم معَ ذلكَ لا يريدونَ لكَ الخيرَ إلَّا لمصالحِهم، عرفَ أنَّ تعليقَ القلبِ بهم خوفًا وهيبةً، وخشيةً ورغبًا ورهبًا، ضائعٌ بل ضارٌّ، وأنَّهُ يتعيَّنُ على العبدِ أنْ يعلِّقَ خوفَهُ ورجاءَهُ، وطمعَهُ وخشيتَهُ باللهِ وحدَهُ، الَّذي عندَهُ كلُّ شيءٍ، وهوَ الَّذي يريدُ لكَ الخيرَ مِن حيثُ لا تريدُهُ لنفسِكَ، ويعلمُ مِن مصالحِكَ ما لا تعلمُ، ويُوصِلُ إليكَ منها ما لا تقدرُ عليهِ ولا تريدُهُ.
ومِن دواعي الشَّجاعةِ أنْ يعرفَ العبدُ أنَّ الجبنَ مرضٌ وضعفٌ في القلبِ، يترتَّبُ عليهِ التَّقاعُدُ عن المصالحِ وتفويتُ المنافعِ، ويسلِّطُ عليهِ الضُّعفاءَ ويتشبَّهُ صاحبُهُ بالخَفِراتِ مِن النِّساءِ.
ومِن فوائدِ الشَّجاعةِ: امتثالُ أمرِ اللهِ وأمرِ رسولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والاتِّصافُ بأوصافِ أهلِ البصائرِ مِن أولي الألبابِ.
ومِن فوائدِ ذلكَ: أنَّهُ بحسبِ قوَّةِ القلبِ يُنزِلُ اللهُ عليهِ مِن المعونةِ السَّكنيةَ ما يكونُ أكبرَ وسيلةً لإدراكِ المطالبِ والنَّجاةَ مِن المصاعبِ والمتاعبِ.
ومِن فوائدِهِ: أنَّهُ يتمكَّنُ صاحبُهُ مِن إرشادِ الخلقِ ونفعِهم على اختلافِ طبقاتِهم بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ. وأمَّا الجَبَانُ فإنَّهُ يفوتُهُ خيرٌ كثيرٌ، وتمنعُهُ الهيبةُ مِن بركةِ علمِهِ وإرشادِهِ ونصحِهِ للعبادِ.
ومنها: أنَّ الشَّجاعةَ تُنجي العبدَ مِن كثيرٍ مِن الشَّدائدِ، وتوجبُ لهُ السَّكينةَ إذا مرَّتِ النَّوائبُ والمصائبُ، فيقابلُها بما يحبُّهُ اللهُ مِن الصَّبرِ والثَّباتِ واحتسابِ الأجرِ. وأمَّا الجَبَانُ فإنَّهُ إذا اعترَتْهُ هذهِ الأمورُ انماعَ وذهلَ عن مصالحِهِ، وتنوَّعَتْ بهِ الأفكارُ الضَّارَّةُ، فعملَتْ معَهُ المصائبُ والشَّدائدُ عملَها الأليمَ، وفوَّتَتْهُ الخيراتُ والثَّوابُ الجسيمُ.
وهذا الخُلُقُ الحميدُ مِن جملةِ الأخلاقِ الفاضلةِ الَّتي تتولَّدُ مِن هذا الخُلُقِ الجامعِ وهوَ:
الصَّبرُ.
ثمَّ قالَ رحمَهُ اللهُ: الصَّبرُ
– الشيخ : إلى هنا، باركَ اللهُ فيكَ، الصَّبرُ أصلٌ لكثيرٍ من الأخلاقِ الكريمةِ، وسيتكلَّم عنه الشَّيخ، واللهُ قد أمرَ به أنبياءَه ورسلَه وأثنى عليهم بهِ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، فكم في القرآنِ…، وأمرَ عبادَهُ بالصَّبرِ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا [آل عمران:200]، إنَّ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146].