بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلاَّمِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ)
علم الأحكام
الدَّرس: الأوَّل
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لشيخِنا وللحاضرينَ والمستمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ ناصرٍ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى وأسكنَهُ فسيحَ جنانِهِ- في كتابِهِ "فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلَّامِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ" قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى:
النَّوعُ الثَّالثُ مِن علومِ القرآنِ الكلِّيَّةِ الجامعةِ:
علمُ الأحكامِ في العباداتِ والمعاملاتِ والمواريثِ والأنكحةِ وسائرِ الحقوقِ والرَّوابطِ بينَ العبادِ
– الشيخ : الثَّاني ما هو؟
– القارئ : علمُ الآدابِ والأخلاقِ، والأوَّلُ علمُ العقائدِ وأصولِ التَّوحيدِ
– الشيخ : أحسنْتَ، هو الأصلُ أنَّ العلومَ ثلاثةٌ الَّتي دلَّ عليها القرآنُ وتضمَّنَها الوحيُ: العلمُ بالله وبأسمائِه وصفاتِه، وهذا هو علمُ التَّوحيدِ، وأصلُ الأصولِ، والثَّاني: علمُ الشَّرائعِ والأوامرِ والنَّواهي، والثَّالثُ: علمُ اليومِ الآخرِ، لكن العقائد في الحقيقةِ تشملُ الأوَّلَ والأخيرَ، كلُّها تدخلُ في مصطلحِ العقائدِ، ومسألةُ الأوامرِ والنَّواهي تدخلُ فيها النَّوعان: نوعُ الآدابِ والأخلاقِ ونوعُ الأحكامِ كالحلالِ والحرامِ وما أشبهَ ذلك، فالشَّيخُ جعلَ علمَ الشَّرائعِ وعلمَ الأوامرِ والنَّواهي نوعين: علم آدابٍ، وعلم أحكامٍ.
– القارئ : قد جعلَ اللهُ القرآنَ تبيانًا لكلِّ شيءٍ، وهوَ كما تقدَّمَ كتابٌ جمعَ التَّربيةَ النَّافعةَ والتَّعليمَ، مزجَ هذا بهذا، فما كانَ مِن العباداتِ معروفًا بينَ المسلمينَ، مفهومًا فيهِ هديُ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كالصَّلاةِ والزَّكاةِ ونحوِها اكتفى بذكرِهِ على وجهِ الإجمالِ أمْرًا بهِ، أو نهيًا عن ضدِّهِ، أو ثناءً على فاعلِهِ، وبيانًا لأجرِهِ وثوابِهِ العاجلِ والآجلِ، ويكونُ تفصيلُ ذلكَ مُحوَّلاً فيهِ على ما عُلِمَ، وعُرِفَ بينَ المسلمينَ، وكذلكَ المعاملاتِ.
ومِن الأحكامِ القرآنيَّةِ ما فُصِّلَتْ فيهِ الأحكامُ تفصيلاً كالمواريثِ ونحوِها، فلنبدأْ بذكرِ العباداتِ الواردةِ في القرآنِ فنقولُ مستعينينَ باللهِ:
أحكامُ الصَّلاةِ:
ذكرَ اللهُ الصَّلاةَ في كتابِهِ في مواضعَ كثيرةٍ، يأمرُ بها وينهى عن تركِها، ويثني على أهلِها المقيمينَ لها، ويذكرُ ما لهم مِن الثَّوابِ، ويذمُّ المتهاونينَ بها، ويذكرُ ما عليهم مِن الذَّمِّ والعقابِ، وهيَ حينَ يذكرُها يعرفُها المسلمونَ معرفةً لا يمترونَ بها، قد عرفُوها مِن هديِ نبيِّهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثمَّ تناقلَتْها الأمَّةُ فعرفَها الصَّغيرُ والكبيرُ، والعالمُ والجاهلُ، فمتى جاءَتْ في القرآنِ فهمُوا أنَّها هذهِ الصَّلواتُ الخمسُ والجمعةُ، وما يتبعُها مِن الرَّواتبِ والسُّننِ المقيَّدةِ والمطلقةِ.
وقد ذكرَ اللهُ بعضَ أحكامِها: فذكرَ الوقتَ في قولِهِ: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً [النساء:103] أي: مفروضًا في الأوقاتِ. وقالَ: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ*وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17-18]، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ [هود: 114]، أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78]، أي: أقمْها لدخولِ هذهِ الأوقاتِ، فدلوكُ الشَّمسِ مبتدؤُهُ الزَّوالُ ومنتهاهُ العصرُ، فيدخلُ فيهِ الظُّهرُ والعصرُ. وغسقُ اللَّيلِ، أي: ظلمتُهُ الَّتي فيها اختلاطٌ بالضِّياءِ فيدخلُ في ذلكَ صلاةُ المغربِ والعشاءِ، وقرآنُ الفجرِ، أي: صلاةُ الفجرِ، وعبَّرَ عنها بالقرآنِ لاشتراطِ القراءةِ وإطالتِها فيها، وقد حرَّرَتِ السُّنَّةُ هذهِ الأوقاتَ تحريرًا معلومًا بينَ المسلمينَ.
وقالَ تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] وأولى ما دخلَ في الآيةِ الكريمةِ تطهيرُها للصَّلاةِ، وإذا وجبَ تطهيرُ الثِّيابِ مِن النَّجاساتِ، فتطهيرُ البدنِ للصَّلاةِ مِن بابِ أولى وأحرى.
ولهذا قالَ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ[المائدة:6] فهذهِ الآيةُ تدلُّ على اشتراطِ النِّيَّةِ ووجوبِ الطَّهارةِ للصَّلاةِ، وأنَّهُ يجبُ فيها على المحدِثِ حدثًا أصغرَ تطهيرُ هذهِ الأعضاءِ الأربعةِ المذكورةِ، وأنَّ الوجهَ واليدَينِ والرِّجلينِ تُغسَلُ غسلًا، والغَسلُ لابدَّ فيهِ مِن جريانِ الماءِ على هذهِ الأعضاءِ، وأنَّ الرَّأسَ يُمسَحُ مسحًا، وأنَّهُ يُمسَحُ كلُّهُ؛ لأنَّ اللهَ عمَّمَ ذلكَ، وأنَّهُ يجبُ التَّرتيبُ بينها لأنَّ اللهَ ذكرَها مرتَّبةً، والموالاةُ لأنَّ ظاهرَ هذا الصَّنيعِ لزومُ الموالاةِ لكونِها عبادةً واحدةً متَّصلاً بعضُها ببعضٍ، وأنَّ المحدِثَ حدثًا أكبرَ كالجنابةِ وهيَ الوطءُ، أو الإنزالُ للمنيِّ، أو هما، عليهِ تطهيرُ جميعِ بدنِهِ، وأنَّهُ لا يُعفَى عن شيءٍ منهُ حتَّى ما تحتَ الشُّعورِ الكثيفةِ، وكذلكَ ذكرَ اللهُ طهارةَ الحائضِ والنَّفساءِ في سورةِ البقرةِ بقولِهِ: حَتَّىَ يَطْهُرْنَ أي: ينقطعُ دمُهنَّ، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ، أي: اغتسلْنَ، فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ [البقرة:222]. ثمَّ ذكرَ طهارةَ التُّرابِ والتَّيمُّمِ، وأنَّ لها أحدُ سببَينِ: عدمُ الماءِ في قولِهِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [المائدة:6]، وحصولُ الضَّررِ بمرضٍ ونحوِهِ في قولِهِ: أَوْ كُنتُم مَّرْضَى [النساء:102]، وقولُهُ: فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ [المائدة:6] صريحٌ أنَّ التَّيمُّمَ عن الحدثِ الأصغرِ والأكبرِ؛ لأنَّهُ ذكرَهُ عقبَ الحدثَينِ، وأنَّ النَّجاسةَ لا يُتيمَّمُ لها فتجبُ إزالتُها معَ القدرةِ، وتسقطُ معَ العجزِ كسائرِ الواجباتِ.
ويدلُّ أنَّ محلَّ المسحِ للحدثَينِ الوجهُ واليدانِ وهما الكفَّانِ فقط، لأنَّهُ لمَّا أرادَ إيصالَ الطَّهارةِ إلى المرفقينِ في طهارةِ الماءِ قالَ: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]. واكتفى تعالى عن الحدثَينِ بتيمُّمٍ واحدٍ، ونفى تعالى الحرجَ في الدِّينِ عمومًا، وفي الطَّهارةِ خصوصًا فقالَ: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ [المائدة:6] وأقامَ اللهُ طهارةَ التَّيمُّمِ مقامَ طهارةِ الماءِ عندَ وجودِ الشَّرطِ، وهوَ الفقدُ للماءِ أو التَّضرُّرُ باستعمالِهِ، وهذا يقتضي أنَّ حكمَها حكمُها مِن كلِّ وجهٍ، فما دامَ متطهِّرًا بالتَّيمُّمِ ولم يحصلْ لهُ ناقضٌ صحيحٌ فهوَ باقٍ على طهارتِهِ، لا يبطلُ هذهِ الطَّهارةَ دخولُ وقتٍ ولا خروجُهُ، وإذا نوى بهِ عبادةً استباحَها ومثلَها ودونَها وأعلى منها.
وفي الآيةِ الكريمةِ دليلٌ أنَّ الأحداثَ المذكورةَ ناقضةٌ للوضوءِ، وهيَ الخارجُ مِن السَّبيلَينِ ولمسُ النِّساءِ لشهوةٍ، لأنَّ اللَّمسَ حيثُ أُضيفَ للنِّساءِ كانَ المرادُ بهِ الَّذي لشهوةٍ كقولِهِ: وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]
وفي قولِهِ: فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً [المائدة:6] دليلٌ على أنَّ الماءَ باقٍ على طهوريَّتِهِ، ولو تغيَّرَ بالطَّاهراتِ؛ لأنَّهُ داخلٌ في اسمِ الماءِ الَّذي لا يجوزُ العدولُ عنهُ إلى التَّيمُّمِ. وقد استدلَّ الإمامُ أحمدُ -رحمَهُ اللهُ- وغيرُهُ بقولِهِ تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ [المائدة:3] الآيةَ، على أنَّ الماءَ إذا خالطَتْهُ نجاسةٌ فغيَّرَتْ أحدَ أوصافِهِ، أنَّهُ نجسٌ لظهورِ أثرِ هذهِ الأشياءِ فيهِ، فيتناولُهُ تحريمُ الميتةِ والدَّمِ إلى آخرِها، فيكونُ نجسًا خبيثًا، وإذا لم تغيِّرْ أحدَ أوصافِهِ أنَّهُ باقٍ على طهوريَّتِهِ. وفي عمومِ قولِهِ تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً [الفرقان:48] دليلٌ على أنَّ الأصلَ في الماءِ الطَّهوريَّةُ، فلا نعدلُ عن هذا الأصلِ إلَّا بدليلٍ.
وقالَ تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]
– الشيخ : إلى هنا، اللهُ المستعانُ، لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله.