بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس السَّادس والثّلاثون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. اللَّهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا وللمسلمينَ قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "الطُّرقِ الحكميَّةِ":
(فَصْلٌ)
إذَا رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَهَلْ تَكُونُ يَمِينُهُ كَالْبَيِّنَةِ، أَمْ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؟
فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ -رحمَهُ اللهُ-. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ: أَنَّهَا كَالْإِقْرَارِ. فَعَلَى هَذَا: لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِالْأَدَاءِ وَالْإِبْرَاءِ بَعْدَ مَا حَلَفَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ قِيلَ: يَمِينُهُ كَالْبَيِّنَةِ سُمِعَتْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِنْ قِيلَ: هِيَ كَالْإِقْرَارِ لَمْ تُسْمَعْ، لِكَوْنِهَا مُكَذِّبَةً لِلْبَيِّنَةِ بِالْإِقْرَارِ.
وَإِذَا قُضِيَ بِالنُّكُولِ فَهَلْ يَكُونُ كَالْإِقْرَارِ أَوْ كَالْبَذْلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، يَنْبَنِي عَلَيْهِمَا مَا إذَا ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَاسْتَحْلَفْنَاهَا فَنَكَلَتْ، فَهَلْ يُقْضَى عَلَيْهَا بِالنُّكُولِ وَتُجْعَلُ زَوْجَتَهُ؟ فَإِنْ قُلْنَا: النُّكُولُ إقْرَارٌ حُكِمَ لَهُ بِكَوْنِهَا زَوْجَتَه، وَإِنْ قُلْنَا: بَذَلَ، لَمْ نَحْكُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْبَذْلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رِقَّ مَجْهُولِ النَّسَبِ، وَقُلْنَا: يُسْتَحْلَفُ، فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى قَذْفَهُ وَاسْتَحْلَفْنَاهُ فَنَكَلَ، فَهَلْ يُحَدُّ لِلْقَذْفِ؟ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَالنُّكُولُ بَذْلٌ عِنْدَهُ وَإِقْرَارٌ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ.
قَالَ أصحابهُ: فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَذْلٌ وَهُوَ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
– الشيخ : النُّكولُ بذلٌ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ بذلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
– القارئ : لِأَنَّ النُّكُولَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَذْلٌ وَهُوَ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَارِ، وَهُوَ مَقْبُولٌ بِهَا.
وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ كَالْإِقْرَارِ بِأَنَّ النَّاكِلَ كَالْمُمْتَنِعِ مِنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ ظَاهِرًا، فَيَصِيرُ مُعْتَرِفًا بِالْمُدَّعَى، لِأَنَّهُ لَمَّا نَكَلَ مَعَ إمْكَانِ تَخَلُّصِهِ بِالْيَمِينِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَكَانَ كَاذِبًا، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِرَافِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ دُونَ الْإِقْرَارِ الصَّحيحِ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُ فِي الْحُدُودِ وَالْقُيُودِ. وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ كَالْبَذْلِ، بِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَاهُ إقْرَارًا مِنْهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِي إنْكَارِهِ، وَالْكَذِبُ حَرَامٌ، فَيَفْسُقُ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَجَعَلْنَاهُ بَذْلًا وَإِبَاحَةَ صِيَانَةٍ لَهُ عَمَّا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، وَيَجْعَلُهُ كَاذِبًا.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ النُّكُولَ يَقُومُ مَقَامَ الشَّاهِدِ وَالْبَيِّنَةِ، لَا مَقَامَ الْإِقْرَارِ وَلَا الْبَذْلِ. لِأَنَّ النَّاكِلَ قَدْ صَرَّحَ بِالْإِنْكَارِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعى بِهِ
– الشيخ : ما هو بظاهرٍ، إنْ كانَ صرَّحَ بالإنكارِ والإنكارُ مضمونُه أنَّ المُدَّعِي لا يستحقُّ المُدَّعى منه، وأنَّ كأنَّه يقول: وأنَّه -أي: المُدعي- لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعى بِهِ
– القارئ : لِأَنَّ النَّاكِلَ قَدْ صَرَّحَ بِالْإِنْكَارِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعى بِهِ. وَهُوَ مُصْرٌّ عَلَى ذَلِكَ، مُتَوَرِّعٌ عَنْ الْيَمِينِ.
فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ مُقِرٌّ، مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَيُجْعَلُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ؟ وَأَيْضًا، لَوْ كَانَ مُقِرًّا لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ بَيِّنَةُ نُكُولِهِ بِالْإِبْرَاءِ وَالْأَدَاءِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ. فَكَيْفَ يُجْعَلُ مُقِرًّا شَاهِدًا عَلَى نَفْسِهِ بِنُكُولِهِ، وَالْبَذْلُ إبَاحَةٌ وَتَبَرُّعٌ، وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِهِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ، فَلَوْ كَانَ النُّكُولُ بَذْلًا وَإِبَاحَةً اُعْتُبِرَ خُرُوجُ الْمُدَّعَى مِنْ الثُّلُثِ. فَتَبَيَّنَ أَنْ لَا إقْرَارَ وَلَا إبَاحَةَ. وَإِنَّمَا هُوَ جَارٍ مَجْرَى الشَّاهِدِ وَالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّ "الْبَيِّنَةَ" اسْمٌ لِمَا تَبَيَّنَ الْحَقَّ، وَنُكُولُهُ -مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ الَّتِي يَبْرَأُ بِهَا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَتَخَلَّصُ بِهَا مِنْ خَصْمِهِ- دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَى خَصْمِهِ وَبَيَانِ أَنَّهَا حَقٌّ، فَقَامَ مَقَامَ شَاهِدِ الْقَرَائِنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْرَى السُّكُوتَ مَجْرَى الْإِقْرَارِ وَالْبَذْلِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ إذَا اُسْتُؤْذِنَتْ؟
قِيلَ: لَيْسَ ذَلِكَ نُكُولًا، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الرِّضَا بِمَا اُسْتُؤْذِنَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْ الْكَلَامِ وَيَلْحَقُهَا الْعَارُ لِكَلَامِهَا الدَّالِّ عَلَى طَلَبِهَا، فَنُزِّلَ سُكُوتَهَا مَنْزِلَةَ رِضَاهَا لِلضَّرُورَةِ. وَهَاهُنَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِي مِنْ الْكَلَامِ وَلَا عَارَ عَلَيْهِ فِيهِ فَلَا يُشْبِهُ الْبِكْرَ، وَاَللَّهُ سبحانَهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
إذَا قُلْنَا بِرَدِّ الْيَمِينِ، فَهَلْ تُرَدُّ بِمُجَرَّدِ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَمْ لَا تُرَدُّ حَتَّى يَأْذَنَ فِي ذَلِكَ؟
– الشيخ : إلى هنا
– القارئ : بقي يا شيخنا أربعةُ أسطرٍ
– الشيخ : كمِّل الأربعة أسطرٍ
– القارئ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إذْنُ النَّاكِلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَغِبَ عَنْ الْيَمِينِ انْتَقَلَتْ إلَى الْمُدَّعِي، لِأَنَّهَا بِرَغْبَتِهِ وَنُكُولِهِ عَنْهَا -مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْحَلِفِ– صَارَ رَاضِيًا بِيَمِينِ الْمُدَّعِي فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى إذْنَهُ، كَمَا أَنَّهُ بِنُكُولِهِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَاذِلِ أَوْ الْمُقِرِّ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ إلَّا إذَا أَذِنَ فِيهَا النَّاكِلُ، لِأَنَّهَا مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْمُدَّعِي،
– الشيخ : لكنَّه نكلَ
– القارئ : وَلَا تَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى الْمُدَّعِي عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِهِ.
انتهى
– الشيخ : انتهى. والصَّحيحُ أنَّها تنتقلُ بغيرِ إذنِه، ولو لم يأذنْ، يعني: يمتنعُ من الحلف ثمَّ يقولُ: لا، ما أسمحُ يحلفُ المُدَّعِي، هذا ليسَ إليه
– القارئ : أحسنَ اللهُ إليك، جزاك اللهُ خيراً.