الرئيسية/شروحات الكتب/الطرق الحكمية في السياسة الشرعية/(51) فصل الحكم بشهادة العبد والأمة في كل ما تقبل فيه شهادة الحر والحرة
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(51) فصل الحكم بشهادة العبد والأمة في كل ما تقبل فيه شهادة الحر والحرة

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الحادي والخمسون

***    ***    ***    ***

 

– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا والمسلمينَ. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ "الطُّرقِ الحكميَّةِ في السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ":

وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: "مَا عَلِمْتُ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ".

وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ: فَرَدَّتَهَا طَائِفَةٌ مُطْلَقًا، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَقَبِلَتْهَا طَائِفَةٌ مُطْلَقًا حَتَّى لِسَيِّدِهِ، وهوَ قولُ أبي محمَّدِ بنِ حزمٍ، وَقَبِلَتْهَا طَائِفَةٌ مُطْلَقًا إلَّا لِسَيِّدِهِ.

قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي الْعَبْدِ قَالَ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِسَيِّدِهِ، وَتَجُوزُ لِغَيْرِهِ" وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَأَجَازَتْهَا طَائِفَةٌ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ، وَهَذَا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ.

وَاَلَّذِينَ رَدُّوهَا بِكُلِّ حَالٍ مِنْهُمْ مَنْ قَاسَ الْعَبْدَ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ، وَذَلِكَ بِالْكُفْرِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ فِي الْعَالَمِ، وَفَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75] وَالشَّهَادَةُ شَيْءٌ، فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهَا.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي جَوَابِ ذَلِكَ: تَحْرِيفُ كَلَامِ اللَّهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ مُهْلِكٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ تَعَالَى: "إنَّ كُلَّ عَبْدٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ"، إنَّمَا ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَثَلَ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الصِّفَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْرَارِ، وَبِالْمُشَاهَدَةِ نَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْ الْعَبِيدِ أُقْدَرُ عَلَى الْأَشْيَاءِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْرَارِ.

وَنَقُولُ لَهُمْ: هَلْ يَلْزَمُ الْعَبِيدَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالطَّهَارَةَ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْفُرُوجِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَحْرَارِ، أَمْ لَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ؟ لِكَوْنِهِمْ لَا يَقْدِرُونَ عِنْدَكُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ، قَالَ: وَمَنْ نَسَبَ هَذَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ جِهَارًا.

وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282] فَنَهَى الشُّهَدَاءَ عَنْ التَّخَلُّفِ وَالْإِبَاءِ، وَمَنَافِعُ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فَلَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ وَيَأْبَى إلَّا خِدْمَتَهُ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى عَدَمِ قَبُولِهَا إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي تَحَمُّلِهَا وَأَدَائِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَعْطِيلِ خِدْمَةِ السَّيِّدِ.

فَأَبْعَدَ النُّجْعَةَ مَنْ فَهِمَ رَدَّ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ الْعُدُولِ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مُقْتَضَى الْآيَةِ كَانَ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَيْضًا رَدَّ رِوَايَتِهِمْ.

وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ[المعارج:33] وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِيَامِ عَلَى غَيْرِهِ.

وَهَذَا مِنْ جِنْسِ احْتِجَاجِ بَعْضِهِمْ أَنَّ الشَّهَادَةَ وِلَايَةٌ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ.

فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: مَا تَعْنُونَ بِالْوِلَايَةِ؟ أَتُرِيدُونَ بِهَا الشَّهَادَةَ، وَكَوْنُهُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَمْ كَوْنُهُ حَاكِمًا عَلَيْهِ مُنَفِّذًا فِيهِ الْحُكْمَ؟ فَإِنْ أَرَدْتُمْ الْأَوَّلَ كَانَ التَّقْدِيرُ: إنَّ الشَّهَادَةَ شَهَادَةٌ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَهَذَا حَاصِلُ دَلِيلِكُمْ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ الثَّانِيَ فَمَعْلُومُ الْبُطْلَانِ قَطْعًا، وَالشَّهَادَةُ لَا تَسْتَلْزِمُهُ.

وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ، فَمَنَعَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَالْفِسْقِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ صَحَّ لَمَنَعَ قَبُولَ رِوَايَتِهِ وَفَتْوَاهُ وَالصَّلَاةَ خَلْفَهُ وَحُصُولَ الْأَجْرَيْنِ لَهُ.

وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ الزَّمَانَ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ، فَلَيْسَ لَهُ وَقْتٌ يَمْلِكُ فِيهِ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَمْلِكُ عَلَيْهِ.

وَهَذَا أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِقَبُولِ رِوَايَتِهِ وَفَتْوَاهُ، وَيُنْتَقَضُ بِالْحُرَّةِ الْمُزَوَّجَةِ، وَيُنْتَقَضُ بِمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ، وَيُنْتَقَضُ بِالْأَجِيرِ الَّذِي اُسْتُغْرِقَتْ سَاعَاتُ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَيَبْطُلُ بِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ السَّيِّدِ مِنْ خِدْمَتِهِ.

وَاحْتُجَّ بِأَنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنْ السِّلَعِ، فَكَيْفَ تَشْهَدُ السِّلَعُ؟ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْغَثَاثَةِ وَالسَّمَاجَةِ، فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ هَذِهِ السِّلْعَةِ، كَمَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهَا وَفَتْوَاهَا، وَتَصِحُّ إمَامَتُهَا، وَتَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالطَّهَارَةُ.

وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ دَنِيءٌ، وَالشَّهَادَةُ مَنْصِبٌ عَلِيٌّ، فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.

وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ الطِّرَازِ، فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِدَنَاءَتِهِ مَا يَقْدَحُ فِي دِينِهِ وَعَدَالَتِهِ، فَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيمَنْ هُوَ كَذَلِكَ، وَنَافِعٌ وَعِكْرِمَةُ أفضلُ أَجَلُّ وَأَشْرَفُ مِنْ أَكْثَرِ الْأَحْرَارِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِدَنَاءَتِهِ أَنَّهُ مُبْتَلًى بِرِقِّ الْغَيْرِ فَهَذِهِ الْبَلْوَى لَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، بَلْ هِيَ مِمَّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةَ الْعَبْدِ، وَيُضَاعِفُ لَهُ بِهَا الْأَجْرَ.

فَهَذِهِ الْحُجَجُ كَمَا تَرَاهَا مِنْ الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ، وَإِذَا قَابَلْتَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِشَهَادَتِهِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ الصَّوَابُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الطَّرِيقُ الْخَامِسَ عَشَرَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ: وَهَذَا مَوْضِعٌ

– الشيخ : لعلَّك تقفُ، يبي [يريد] يدخلُ في موضوعٍ جديدٍ، اللهُ المستعانُ، رحمَه اللهُ، مسألةُ العبدِ مسألةٌ مشرقةٌ واضحةٌ، والقولُ بقبولِ شهادتِه لا شكَّ أنَّه هو الحقُّ والصَّوابُ؛ لعدمِ الأدلَّة أدلة المسقطين لشهادتِه، ووضوحُ أدلَّةِ قبولِ شهادتِه، فهو مسلمٌ عَدْلٌ، فردُّ شهادتِه ليس لها برهانٌ يصحُّ.

 

 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :متفرقات