بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الثَّالث والخمسون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا ووالدينا والمسلمينَ. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "الطُّرقِ الحكميَّةِ في السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ":
وَخَبَرُ الْفَاسِقِ وَشَهَادَتُهُ لردِّهِ مَأْخَذَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْوُثُوقِ بِهِ، إذْ تَحْمِلُهُ قِلَّةُ مُبَالَاتِهِ بِدِينِهِ، وَنُقْصَانُ وَقَارِ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ.
الثَّانِي: هَجْرُهُ عَلَى إعْلَانِهِ بِفِسْقِهِ وَمُجَاهَرَتِهِ بِهِ فَقَبُولُ شَهَادَتِهِ إبْطَالٌ لِهَذَا الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا.
فَإِذَا عَلِمَ صِدْقَ لَهْجَةِ الْفَاسِقِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ -وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ بِغَيْرِ الْكَذِبِ- فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَادِيًا يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا وَثِقَ بِقَوْلِهِ أَمَّنَهُ، وَدَفَعَ إلَيْهِ رَاحِلَتَهُ، وَقَبِلَ دَلَالَتَهُ.
وَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ: إذَا شَهِدَ الْفَاسِقُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَقَدْ يَحْتَجُّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]
وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ مَدَارَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَرَدِّهَا، عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّ الصِّدْقِ وَعَدَمِهِ. وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ الْعَدَالَةَ تَتَبَعَّضُ، فَيَكُونُ الرَّجُلُ عَدْلًا فِي شَيْءٍ، فَاسِقًا فِي شَيْءٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ عَدْلٌ فِيمَا شَهِدَ بِهِ: قَبِلَ شَهَادَتَهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ فِسْقُهُ فِي غَيْرِهِ. وَمَنْ عَرَفَ شُرُوطَ الْعَدَالَةِ، وَعَرَفَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ: الطَّرِيقُ السَّابِعَ عَشَرَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ: وهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا: شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَالثَّانِيَةُ: شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَقَالَ حَنْبَلٌ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: "تَجُوزُ شَهَادَةُ الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ".
قَالَ حَنْبَلٌ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَأَمَّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَجُوزُ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِمْ.
– الشيخ : لأنَّهم متَّهمون، وإذا جاءَت التَّهمةُ لم تُقبَلِ الشَّهادةُ، فالكافرُ متَّهمٌ أن يشهدَ على المسلمِ بالباطلِ، أمَّا المسلمُ فليسَ متَّهمًا، هذا هو الأصلُ
– القارئ : وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالْمَرُّوذِيِّ وَحَرْبٍ وَالْمَيْمُونِيِّ وَأَبِي الْحَارِثِ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَيَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ وَأَبِي طَالِبٍ وَاحْتَجَّ فِي رِوَايَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:14] وَصَالِحٍ ابْنِهِ، وَأَبِي حَامِدٍ الْخَفَّافِ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، وَمُهَنَّا بْنِ يَحْيَى، فَقَالَ لَهُ مُهَنَّا: أَرَأَيْتُ إنْ عَدَلُوا؟ قَالَ: فَمَنْ يَعْدِلُهُمْ؟ الْعِلْجُ مِنْهُمْ؟ وَأَفْضَلُهُمْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُ الْخِنْزِيرَ، فَكَيْفَ يَعْدِلُ؟
فَنَصَّ فِي رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِمْ أَلْبَتَّةَ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] وَلَيْسُوا مِمَّنْ نَرْضَاهُ.
قَالَ الْخَلَّالُ: فَقَدْ رَوَى هَؤُلَاءِ النَّفَرِ -وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا- كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، خِلَافَ مَا قَالَ حَنْبَلٌ.
قَالَ: نَظَرْتُ فِي أَصْلِ حَنْبَلٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَنِي عِصْمَةُ عَنْ حَنْبَلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَنْبَلًا تَوَهَّمَ ذَلِكَ، لَعَلَّهُ أَرَادَ: أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَا تَجُوزُ، فَغَلِطَ فَقَالَ: تَجُوزُ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ أَبِي: لَا تَجُوزُ، وَقَالَ أَبِي: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ أَبِي: لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] وَلَيْسُوا هُمْ مِمَّنْ نَرْضَى، فَصَحَّ الْخَطَأُ هَاهُنَا مِنْ حَنْبَلٍ.
وَقَدْ اخْتَلَفُوا عَلَى الشَّعْبِيِّ أَيْضًا، وَعَلَى سُفْيَانَ، وَعَلَى وَكِيعٍ، فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، فَمَا اخْتَلَفَ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ إلَّا مَا غَلِطَ حَنْبَلٌ بِلَا شَكٍّ، لِأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَذْهَبُهُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُجِيزُهَا أَلْبَتَّةَ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِعُدُولٍ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ تَكُونُ بَيْنَهُمْ أَحْكَامٌ وَأَمْوَالٌ، فَكَيْفَ يَحْكُمُ بِشَهَادَةِ غَيْرِ عَدْلٍ؟ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:64]
وَبَالَغَ الْخَلَّالُ فِي إنْكَارِ رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، وَلَمْ يُثْبِتْهَا رِوَايَةً، وَأَثْبَتَهَا غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَجَعَلُوا الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
قَالُوا: وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَوَازِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ الْمَسْأَلَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَنَصَرُوا كُلُّهُمْ عَدَمَ الْجَوَازِ إلَّا شَيْخُنَا فَإِنَّهُ اخْتَارَ الْجَوَازَ.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ نَصْرَانِيٍّ عَلَى مَجُوسِيٍّ، أَوْ مَجُوسِيٍّ عَلَى نَصْرَانِيٍّ.
وَصَحَّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَعَلَى النَّصْرَانِيِّ، كُلُّهُمْ أَهْلُ شِرْكٍ. وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا عَنْ الشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ، قَالَ: سَأَلْتُ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: تَجُوزُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: تَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَوَكِيعٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: "تَجُوزُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ".
وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيِّ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ، وَالْيَهُودِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: إذَا اخْتَلَفَتِ الْمِلَلُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَكَذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ عَلَى غَيْرِ مِلَّتِهَا إلَّا الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا أَحَدُ الرِّوَايَاتِ عَنْ الشَّعْبِيِّ.
وَالثَّانِي: الْجَوَازُ.
وَالثَّالِثُ: الْمَنْعُ.
كَذَلِكَ قَالَ النَّخَعِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ إلَّا عَلَى مِلَّتِهَا: الْيَهُودِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَالنَّصْرَانِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الطَّبِيبِ الْكَافِرِ حَتَّى عَلَى الْمُسْلِمِ لِلْحَاجَةِ.
قَالَ الْقَائِلُونَ بِشَهَادَتِهِمْ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75]، فَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْهُمْ الْأَمِينَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ، وَلَا رَيْبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا أَمِينًا عَلَى قَرَابَتِهِ ذَوِي مَذْهَبِهِ أَوْلَى. وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:73] فَأَثْبَتَ لَهُمْ الْوِلَايَةَ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَهِيَ أَعْلَى رُتْبَةٍ مِنْ الشَّهَادَةِ، وَغَايَةُ الشَّهَادَةِ: أَنْ تُشَبَّهَ بِهَا، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ وَأُخْتَهُ، وَيَلِي مَالَ وَلَدِهِ، فَقَبُولُ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
قَالُوا: وَقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَهَادَتِهِمْ فِي الْحُدُودِ.
قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ الْيَهُودَ جَاؤُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ائْتُونِي بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ يَشْهَدُونَ)، قَالُوا: وَكَيْفَ؟» الْحَدِيثَ.
وَاَلَّذِي فِي "الصَّحِيحِ": «مُرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَهُودِيٍّ قَدْ حُمِّمَ، فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا؟ فَقَالُوا: زَنَى، فَقَالَ: (مَا تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمْ؟) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَأَقَامَ الْحَدَّ بِقَوْلِهِمْ، وَلَمْ يَسْأَلِ الْيَهُودِيَّ وَالْيَهُودِيَّةَ، وَلَا طَلَبَ اعْتِرَافِهِمَا وَإِقْرَارِهِمَا، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ بِجَمِيعِ طُرُقِهَا، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَلْبَتَّةَ أَنَّهُ رَجَمَهُمَا بِإِقْرَارِهِمَا، وَلَمَّا أَقَرَّ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ وَالْغَامِدِيَّةُ: اتَّفَقَتْ جَمِيعُ طُرُقِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْرَارِ.
قَالُوا: وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ «أَنَّهُ مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمٍ؛ فَقَالَ: مَا بَالُهُ؟ قَالُوا زَنَى، قَالَ: (ائْتُونِي بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ).
قَالُوا: وَقَدْ أَجَازَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْحَاجَةِ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْكُفَّارَ يَتَعَامَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْمُدَايَنَاتِ، وَعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا، وَتَقَعُ بَيْنَهُمْ الْجِنَايَاتُ وَعُدْوَانُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ وَلَا يَحْضُرُهُمْ فِي الْغَالِبِ مُسْلِمٌ، وَيَتَحَاكَمُونَ إلَيْنَا، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى تَظَالُمِهِمْ وَضَيَاعِ حُقُوقِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ.
قَالُوا: وَالْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي دِينِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ، صَادِقَ اللَّهْجَةِ عِنْدَهُمْ، فَلَا يَمْنَعُهُ كُفْرُهُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ إذَا ارْتَضَوْهُ، وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ الْكُفَّارِ يَصْدُقُ فِي حَدِيثِهِ، وَيُؤَدِّي أَمَانَتَهُ، بِحَيْثُ يُشَارُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَيَشْتَهِرُ بِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ يَسْكُنُ الْقَلْبَ إلَى صِدْقِهِ، وَقَبُولِ خَبَرِهِ وَشَهَادَتِهِ مَا لَا يَسْكُنُ إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُعَامَلَتَهُمْ، وَأَكْلَ طَعَامِهِمْ وَحِلَّ نِسَائِهِمْ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الرُّجُوعَ إلَى أَخْبَارِهِمْ قَطْعًا، فَإِذَا جَازَ لَنَا الِاعْتِمَادُ عَلَى خَبَرِهِمْ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَا مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي تَحِلُّ وَتَحْرُمُ، فَلَأَنْ نَرْجِعَ إلَى أَخْبَارِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى.
فَإِنْ قُلْتُمْ: هَذَا لِلْحَاجَةِ
– الشيخ : لعلَّك تقفُ، اللهُ المستعانُ
– طالب: أحسنَ اللهُ إليك، قبولُ شهادةِ الكافرِ على الكافرِ …
– الشيخ : واللهِ ما ظهرَ لي … كما سمعْتَ هذا الخلافَ، ولعلَّه ابنُ القيِّم يعطينا ترجيحَه في آخرِ الكلامِ.