بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس السَّابع والستون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا ووالدينا والمسلمينَ. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابه "الطُّرقِ الحكميَّةِ في السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ":
وَكَذَلِكَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ كَانَ غَايَةً فِي الْقِيَافَةِ وَهُوَ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَشُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ الْقَاضِي كَانَ قَائِفًا، وَهُوَ مِنْ كِنْدَةَ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بِبَنِي مُدْلِجٍ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ أَهْلَ الْقِيَافَةِ كَأَهْلِ الْخِبْرَةِ وَأَهْلِ الْخَرْصِ وَالْقَاسِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ الْمَرْئِيَّةِ لَهُمْ، وَلَهُمْ فِيهَا عَلَامَاتٌ يَخْتَصُّونَ بِمَعْرِفَتِهَا: مِنْ التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْقَدْرِ وَالْمِسَاحَةِ وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ: النَّاسُ يَجْتَمِعُونَ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَيَرَاهُ مِنْ بَيْنَهُمْ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ، فَيَحْكُمُ بِقَوْلِهِ أَوْ قَوْلِهِمَا دُونَ بَقِيَّةِ الْجَمْعِ.
قَوْلُهُمْ: "إنَّا نُدْرِكُ التَّشَابُهَ بَيْنَ الْأَجَانِبِ، وَالِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُشْتَرِكِينَ فِي النَّسَبِ".
قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ الْأَكْثَرَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ الْعَادَةَ، وَجَوَازُ التَّخَلُّفِ عَنْ الدَّلِيلِ وَالْعَلَامَةِ الظَّاهِرَةِ فِي النَّادِرِ: لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عِنْدَ عَدَمِ مُعَارَضَةِ مَا يُقَاوِمُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفِرَاشَ دَلِيلٌ عَلَى النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ، وَأَنَّهُ ابْنُهُ، وَيَجُوزُ -بَلْ يَقَعُ كَثِيرًا- تَخَلُّفُ دَلَالَتِهِ، وَتَخْلِيقُ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ مَاءِ صَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ كَوْنُ الْفِرَاشِ دَلِيلًا، وَكَذَلِكَ أَمَارَاتُ الْخَرْصِ وَالْقِسْمَةِ وَالتَّقْوِيمِ وَغَيْرِهَا: قَدْ تَتَخَلَّفُ عَنْهَا أَحْكَامُهَا وَمَدْلُولَاتُهَا، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ اعْتِبَارُهَا، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ دلالة الْأَقْرَاءُ وَالْقُرْءُ الْوَاحِدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، فَإِنَّهَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ مَعَ جَوَازِ تَخَلُّفِ دَلَالَتِهِ، وَوُقُوعُ ذَلِكَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
قَوْلُهُمْ: "إنَّ الِاسْتِلْحَاقَ مُوجِبٌ لِلُحُوقِ النَّسَبِ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي مُوجَبِهِ".
قُلْنَا: هَذَا صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُهُمَا بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الدَّعْوَى، فَأَمَّا إذَا تَمَيَّزَ بِأَمْرٍ آخَرَ، كَالْفِرَاشِ وَالشَّبَهِ: كَانَ اللَّحَاقُ بِهِ، كَمَا لَوْ تَمَيَّزَ بِالْبَيِّنَةِ، بَلْ الشَّبَهُ نَفْسُهُ بَيِّنَةٌ مِنْ أَقْوَى الْبَيِّنَاتِ، فَإِنَّهَا اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ، وَظُهُورُ الْحَقِّ هَاهُنَا بِالشَّبَهِ: أَقْوَى مِنْ ظُهُورِهِ بِشَهَادَةِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْوَهْمُ وَالْغَلَطُ وَالْكَذِبُ، وَأَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ فِرَاش يَقْطَعُ بِعَدَمِ اجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ فِيهِ.
قَوْلُهُمْ: "الْقَائِفُ إمَّا شَاهِدٌ وَإِمَّا حَاكِمٌ.. إلَخْ.
قُلْنَا: هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِمَنْ يَقُولُ بِالْقَافَةِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْقَائِفَ: هَلْ هُوَ حَاكِمٌ أَوْ شَاهِدٌ؟ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ آخَرِينَ: لَيْسَا مَبْنِيِّينَ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ الْخِلَافُ جَارٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْقَائِفُ حَاكِمٌ أَوْ شَاهِدٌ، كَمَا نَعْتَبِرُ حَاكِمَيْنِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ وَحْدَهُ: جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ شَاهِدًا، كَمَا نَقْبَلُ قَوْلَ الْقَاسِمِ وَالْخَارِصِ وَالْمُقَوِّمِ وَالطَّبِيبِ وَنَحْوِهِمْ وَحْدَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي الْخِلَافَ عَلَى كَوْنِهِ شَاهِدًا أَوْ مُخْبِرًا، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُخْبِرًا اُكْتُفِيَ بِخَبَرِهِ وَحْدَهُ، كَالْخَبَرِ عَنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ شَاهِدًا لَمْ نَكْتَفِ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ مُخْبِرٌ، وَالْمُخْبِرُ شَاهِدٌ وَكُلُّ مَنْ شَهِدَ بِشَيْءٍ فَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ، وَالشَّرِيعَةُ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ ذَلِكَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ اشْتَرَطَ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لَفْظَ "الشَّهَادَةِ" دُونَ مُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ضَعْفِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ الْأَدِلَّةُ كَثِيرَةٌ -مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَالْقَضَايَا الَّتِي رُوِيَتْ فِي الْقَافَةِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالصَّحَابَةِ بَعْدَهُ: لَيْسَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: الْقَائِفُ تَلَفَّظَ بِلَفْظَةِ "أَشْهَدُ أَنَّهُ ابْنُهُ" وَلَا يَتَلَفَّظُ بِذَلِكَ الْقَائِفُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مُجَرَّدِ خَبَرِهِ، وَهُوَ شَهَادَةٌ مِنْهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، وَنُصُوصُ أَحْمَدَ لَا تُشْعِرُ بِهَذَا الْبِنَاءِ الَّذِي ذَكَروهُ بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ يَتَصَرَّفُونَ فِي نُصُوصِ الْأَئِمَّةِ، وَيُبينونها عَلَى مَا لَمْ يَخْطِرْ لِأَصْحَابِهَا بِبَالٍ، وَلَا جَرَى لَهُمْ فِي مَقَالٍ، وَيَتَنَاقَلُهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ مِنْ طَرْدِهِ لَوَازِمُ لَا يَقُولُ بِهَا الْأَئِمَّةُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَطْرُدُهَا وَيَلْتَزِمُ الْقَوْلَ بِهَا، وَيُضِيفُ ذَلِكَ إلَى الْأَئِمَّةِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ فَيَروجُ بَيْنَ النَّاسِ بِجَاهِ الْأَئِمَّةِ،
قال -أحسن الله إليكم- في الحاشية في نسخة: "اتجاه"
وَيُفْتِي وَيَحْكُمُ بِهِ وَالْإِمَامُ
– الشيخ : أيش يقول: "فيروج"؟
– القارئ : قال رحمه الله: فَيروجُ بَيْنَ النَّاسِ بِجَاهِ الْأَئِمَّةِ، وفي نسخة يا شيخنا: اتجاه الأئمة
– الشيخ : النسخة أيش؟ "تجاه"؟
– القارئ : إي نعم، في نسخة يقول: "تجاه"، دون "بجاه"
– الشيخ : لا، الصواب: "بجاه"
– القارئ : فَيُروج بَيْنَ النَّاسِ بِجَاهِ الْأَئِمَّةِ، وَيُفْتِي
– الشيخ : يعني أنه هذا القولُ المنسوبُ للأئمة ولم يقولوا به يروجُ بين الناسِ لإضافتِهِ للأئمة؛ لأنَّ الأئمةَ لهم منزلة في نفوس الناس فيُعظِّمون هذا القولَ ويروجُ بينهم؛ بسببِ نسبتِه لهم، وهذا معنى قوله: "بجاهِ الأئمة"، يعني: لما للأئمة مِن جاهٍ في قلوب العامَّة، فهذا واضحٌ "بجاه"، الصواب: "بجاهِ الأئمة".
– القارئ : ويُفتَى وَيحْكمُ بِهِ وَالْإِمَامُ لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ، بَلْ يَكُونُ قَدْ نَصَّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ نُصُوصَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّسَائِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْوَلَدِ يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ؟ قَالَ: يَدَّعِي لَهُ رَجُلَانِ مِنْ الْقَافَةِ، فَإِنْ أَلْحَقَاهُ بِأَحَدِهِمَا: فَهُوَ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد الْمِصِّيصِيُّ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَقَعَا عَلَيْهَا؟ قَالَ: إنْ أَلْحَقُوهُ بِأَحَدِهِمَا فَهُوَ لَهُ، قِيلَ لَهُ: إنْ قَالَ أَحَدُ الْقَافَةِ: هُوَ لِهَذَا، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ لِهَذَا؟ قَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ اثْنَانِ، فيَكُونَانِ كَشَاهِدَيْنِ.
وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنْ قَالَ أَحَدُ الْقَافَةِ: هُوَ لِهَذَا.
وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ لِهَذَا؟ قَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ اثْنَانِ، فَيَكُونَا كَشَاهِدَيْنِ، وَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ الْقَافَةِ أَنَّهُ لِهَذَا: فَهُوَ لَهُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ حُكْمٌ بِالشَّبَهِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ، كَالْحُكْمِ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ.
قَالُوا: بَلْ هُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ دَرْكَ الْمِثْلِيَّةِ فِي الصَّيْدِ أَظْهَرُ بِكَثِيرٍ مِنْ دَرْكِهَا هَاهُنَا: فَإِذَا تَابَعَ الْقَائِفُ غَيْرَهُ سَكَنَتْ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّتْ إلَى قَوْلِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ -فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ- فِي الْوَلَدِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ: يَدَّعِي الْقَائِفُ، فَإِذَا قَالَ هُوَ مِنْهُمَا: فَهُوَ مِنْهُمَا، نَظَرًا إلَى مَا يَقُولُ الْقَائِفُ، وَإِنْ جَعَلَهُ لِوَاحِدٍ: فَهُوَ لِوَاحِدٍ.
وَقَالَ -فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ-: وَسُئِلَ عَنْ الْقَائِفِ: هَلْ يُقْضَى بِقَوْلِهِ؟ فَقَالَ: يُقْضَى بِذَلِكَ إذَا عَلِمَ.
وَمِنْ حُجَّةِ هَذَا الْقَوْلِ -وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَصَاحِبِ "الْمُسْتَوْعِبِ"، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ أَهْلِ الظَّاهِرِ-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُرَّ بِقَوْلِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ وَحْدَهُ، وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ –رضي الله عنه- أَنَّهُ اسْتَقَافَ الْمُصْطَلِقِيَّ وَحْدَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاسْتَقَافَ ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنَ كِلْدَةَ وَحْدَهُ، وَاسْتَلْحَقَ بِقَوْلِهِ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالطَّبِيبِ وَالْبَيْطَارِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يُوجَدْ سِوَاهُ وَالْقَائِفُ مِثْلُهُ، فَتُخَرَّجُ لَهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَلْ هَذَا أَوْلَى مِنْ الطَّبِيبِ وَالْبَيْطَارِ، لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ وُجُودًا مِنْهُ، فَإِذَا اُكْتُفِيَ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمَا -مَعَ عَدَمِ غَيْرِهِ- فَالْقَائِفُ أَوْلَى.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: "إنَّ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ لَمْ يَحْكُمَا بِالْقَافَةِ فِي قِصَّةِ الْوَلَدِ الَّذِي ادَّعَتْهُ الْمَرْأَتَانِ".
فَيُقَالُ: قَدْ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْقَافَةِ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِي تَدَاعِي الْمَرْأَتَيْنِ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي تَدَاعِي الرَّجُلَيْنِ؟ وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ هَاهُنَا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ فِي تَدَاعِي الرَّجُلَيْنِ.
قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّا يُمْكِنُنَا التَّوَصُّلُ إلَى مَعْرِفَةِ الْأُمِّ يَقِينًا، بِخِلَافِ الْأَبِ، فَإِنَّا لَا سَبِيلَ فيه لَنَا إلَى ذَلِكَ، فَاحْتَجْنَا إلَى الْقَافَةِ، وَعَلَى هَذَا: فَلَا إشْكَالَ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ -وَهُوَ الصَّحِيحُ-: أَنَّ الْقَافَةَ تَجْرِي هَاهُنَا كَمَا تَجْرِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، قَالَهُ أَحْمَدُ -فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ فِي يَهُودِيَّةٍ وَمُسْلِمَةٍ وَلَدَتَا، فَادَّعَتْ الْيَهُودِيَّةُ وَلَدَ الْمُسْلِمَةِ- قِيلَ لَهُ: يَكُونُ فِي هَذَا الْقَافَةُ؟ قَالَ: مَا أَحْسَنَهُ!
وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَأْخُذُ الشَّبَهَ مِنْ الْأُمِّ تَارَةً، وَمِنْ الْأَبِ تَارَةً: تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ.
فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ إنَّمَا هو حكم بِالشَّبَهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَثَوْبَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ -رضيَ اللهُ عنهم- وَكَوْنُ الْأُمِّ تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا يَقِينًا -بِخِلَافِ الْأَبِ- لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَافَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْمَرْأَتَيْنِ، لِأَنَّا إنَّمَا نَسْتَعْمِلُهَا عِنْدَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْأُمِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ تَيَقُّنِ مَعْرِفَةِ الْأُمِّ عَدَمُ اسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِهَا، كَمَا أَنَّا إنَّمَا نَسْتَعْمِلُهَا فِي حَقِّ الرَّجُلَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ تَيَقُّنِ الْفِرَاشِ، لَا عِنْدَ تَيَقُّنِهِ.
وَأَمَّا كَوْنُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ لَمْ يَعْتَبِرَاهَا: فَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ شَرِيعَةً لَهُمَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ، إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْعًا لَدَعَيا الْقَافَةَ لِلْوَلَدِ.
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْقَافَةُ مَشْرُوعَةً فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الرَّجُلَيْنِ، كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي شَرِيعَتِنَا، وَحِينَئِذٍ فَلَا كَلَامَ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً مُطْلَقًا، وَلَكِنْ أُشْكِلَ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ أَمْرُ الشَّبَهِ بِحَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمَا، وَأَنَّ الْقَائِفَ لَا يَعْلَمُ الْحَالَ فِي كُلِّ صُورَةٍ، بَلْ قَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ كَثِيرًا. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَلَا حُجَّةَ فِي الْقِصَّةِ عَلَى إبْطَالِ حُكْمِ الْقَافَةِ فِي شَرِيعَتِنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَلْ قِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ صَرِيحَةٌ فِي إبْطَالِ الْوَلَدِ بِأُمَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ نَبِيٌّ مِنْ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ- بَلْ اتَّفَقَا عَلَى إلْغَاءِ هَذَا الْحُكْمِ، فَاَلَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ قِصَّتهما لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَاَلَّذِي يَقُولُونَ بِهِ غَيْرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ.
فَصْلٌ
– الشيخ : حسبك، جزاك الله خيرًا.