بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس التَّاسع والستون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا ووالدينا والمسلمينَ. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "الطُّرقِ الحكميَّةِ في السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ":
فَصْلٌ:
هَذَا كُلُّهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدَّعَاوَى. وَأَمَّا الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى: فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحِسْبَةِ، وَالْمُتَوَلِّي لَهُ: وَالِي الْحِسْبَةِ.
وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ بِوِلَايَةٍ خَاصَّةٍ
– الشيخ : وهم الهيئةُ، الي [الذين] يسمَّون الهيئةُ، هيئةُ الأمرِ بالمعروفِ، ولايةٌ خاصَّةٌ مسؤولةٌ عمَّا يقعُ في المجتمعِ من المخالفاتِ الشَّرعيَّةِ، وهذا يدلُّ على أنَّ وجودَ هيئةٍ مسؤولةٍ عن ذلك أنَّ هذا أمرٌ قديمٌ في المسلمين، وهو الَّذي عبَّرَ عنه ابنُ القيِّمِ بقوله: "وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ بِوِلَايَةٍ…" تكونُ مسؤولةً.
– القارئ : كَمَا أُفْرِدَتْ وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ بِوِلَايَةٍ خَاصَّةٍ، وَالْمُتَوَلِّي لَهَا يُسَمَّى وَالِي الْمَظَالِمِ، وَوِلَايَةُ الْمَالِ قَبْضًا وَصَرْفًا بِوِلَايَةٍ خَاصَّةٍ، وَالْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ يُسَمَّى وَزِيرًا، وَنَاظِرُ الْبَلَدِ وَالْمُتَوَلِّي لِإِحْصَاءِ الْمَالِ وَوُجُوهِهِ وَضَبْطِهِ، تُسَمَّى وِلَايَتُهُ: وِلَايَةَ اسْتِيفَاءٍ
– الشيخ : يعني جبايةُ الأموالِ المستحقَّةِ لبيتِ المالِ، وجانب آخر الصَّرف، فللصَّرف مختصُّون ولجباية المالِ مختصُّون.
– القارئ : وَالْمُتَوَلِّي لِاسْتِخْرَاجِهِ وَتَحْصِيلِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، تُسَمَّى وِلَايَتُهُ وِلَايَةَ السِّرِّ
– الشيخ : السِّرِّ؟
– القارئ : نعم
– الشيخ : عجيب! قلْ، أعدِ الفائدةَ
– القارئ : قالَ: وَالْمُتَوَلِّي لِإِحْصَاءِ الْمَالِ وَوُجُوهِهِ وَضَبْطِهِ، تُسَمَّى وِلَايَتُهُ: وِلَايَةَ اسْتِيفَاءٍ، وَالْمُتَوَلِّي لِاسْتِخْرَاجِهِ وَتَحْصِيلِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، تُسَمَّى وِلَايَتُهُ وِلَايَةَ السِّرِّ
– الشيخ : عجيبة التَّسمية ذي وجهُها ليس بظاهرٍ!
– القارئ : وَالْمُتَوَلِّي لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ، وَالْحُكْمِ فِي الْفُرُوجِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّفَقَاتِ، وَصِحَّةِ الْعُقُودِ وَبُطْلَانِهَا: هُوَ الْمَخْصُوصُ بِاسْمِ "الْحَاكِمِ وَالْقَاضِي"، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ حَاكِمٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَاضٍ بَيْنَهُمَا، فَيَدْخُلُ أَصْحَابُ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ جَمِيعُهُمْ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] وَتَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وَقَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] وَقَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] وَتَحْتَ قَوْلِهِ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ) وَقَوْلِهِ: (مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ) وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ -وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ- الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا).
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي النَّوْعِ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى: هُوَ الْمَعْرُوفُ بِوِلَايَةِ الْحِسْبَةِ.
وَقَاعِدَتُهُ وَأَصْلُهُ: هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَوَصَفَ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَفَضَّلَهَا لِأَجْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الَّتِي أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ ذَوِي الْوِلَايَةِ وَالسُّلْطَانِ، فَعَلَيْهِمْ مِنْ الْوُجُوبِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ: هُوَ الْقُدْرَةُ، فَيَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ. قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ: مَقْصُودُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، لَكِنْ مِنْ الْمُتَوَلِّينَ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ الْمُؤْتَمَنِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ: الصِّدْقُ، مِثْلُ صَاحِبِ الدِّيوَانِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ: أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَخْرَجَ وَالْمَصْرُوفَ، وَالنَّقِيبِ وَالْعَرِيفِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ: إخْبَارُ وَلِيِّ الْأَمْرِ بِالْأَحْوَالِ
قالَ في نسخةٍ يا شيخ: "بالأقوالِ"
– الشيخ : لا "بالأحوالِ"
– القارئ : وَظِيفَتُهُ: إخْبَارُ وَلِيِّ الْأَمْرِ بِالْأَحْوَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْآمِرِ الْمُطَاعِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ: الْعَدْلُ، مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُحْتَسِبِ.
وَمَدَارُ الْوِلَايَاتِ كُلِّهَا: عَلَى الصِّدْقِ فِي الْإِخْبَارِ، وَالْعَدْلِ فِي الْإِنْشَاءِ، وَهُمَا قَرِينَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [الأنعام:115]
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا ذَكَرَ الْأُمَرَاءَ الظَّلَمَةَ: (مَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَا يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ) وَقَالَ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222] فَالْأَفَّاكُ: الْكَاذِبُ، وَالْأَثِيمُ: الظَّالِمُ الْفَاجِرُ.
وَقَالَ تَعَالَى: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ [العلق:15] نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [العلق:16] وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ).
– الشيخ : إلى هنا، حسبُكَ.