بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الحادي والسَّبعون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا وللمسلمِينَ. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "الطُّرقِ الحكميَّةِ في السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ":
وَمِنْ الْمُنْكَرَاتِ: تَلَقِّي السِّلَعِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ إلَى السُّوقِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْرِيرِ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ السِّعْرَ، فَيَشْتَرِي مِنْهُ الْمُشْتَرِي بِدُونِ الْقِيمَةِ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْخِيَارَ إذَا دَخَلَ إلَى السُّوقِ، وَلَا نِزَاعَ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ مَعَ الْغَبْنِ. وَأَمَّا ثُبُوتُهُ بِلَا غَبْنٍ: فَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: يَثْبُتُ، وَهُوَ قَوْلُ، الشَّافِعِيِّ، لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا يَثْبُتُ لِعَدَمِ الْغَبْنِ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي الْمُسْتَرْسِلِ إذَا غَبَنَ، وَفِي الْحَدِيثِ (غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا) وَفِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الَّذِي لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ السِّلْعَةِ.
وَالثَّانِي -وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ- أَنَّهُ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ، بَلْ يَسْتَرْسِلُ إلَى الْبَائِعِ، وَيَقُولُ: أَعْطِنِي هَذَا. وَلَيْسَ لِأَهْلِ السُّوقِ أَنْ يَبِيعُوا الْمُمَاكِسَ بِسِعْرٍ، وَيَبِيعُوا الْمُسْتَرْسِلَ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى وَالِي الْحِسْبَةِ إنْكَارُهُ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ تَلَقِّي السِّلَعِ، فَإِنَّ الْقَادِمَ جَاهِلٌ بِالسِّعْرِ.
وَمِنْ هَذَا: تَلَقِّي سُوقَةِ الْحَجِيجِ الْجَلْبَ مِنْ الطَّرِيقِ، وَسَبَقُهُمْ إلَى الْمَنَازِلِ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ، ثُمَّ يَبِيعُونَهُ كَمَا يُرِيدُونَ، فَيَمْنَعُهُمْ وَالِي الْحِسْبَةِ مِنْ التَّقَدُّمِ لِذَلِكَ، حَتَّى يَقْدَمَ الرَّكْبُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الرَّكْبِ، وَمَصْلَحَةِ الْجَالِبِ، وَمَتَى اشْتَرَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَنَعَهُمْ مِنْ بَيْعِهِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: «نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، (دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ).
قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ»؟ قَالَ: "لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا". وَهَذَا النَّهْيُ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُقِيمَ إذَا وَكَّلَهُ الْقَادِمُ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا، وَالْقَادِمُ لَا يَعْرِفُ السِّعْرَ: أَضَرَّ ذَلِكَ بِالْمُشْتَرِي كَمَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْبَائِعِينَ. وَمِنْ ذَلِكَ: الِاحْتِكَارُ لِمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ)، فَإِنَّ الْمُحْتَكِرَ الَّذِي يَعْمِدُ إلَى شِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ الطَّعَامِ فَيَحْبِسُهُ عَنْهُمْ وَيُرِيدُ إغْلَاءَهُ عَلَيْهِمْ: هُوَ ظَالِمٌ لِعُمُومِ النَّاسِ، وَلِهَذَا كَانَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُكْرِهَ الْمُحْتَكِرِينَ عَلَى بَيْعِ مَا عِنْدَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، عِنْدَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، مِثْلُ مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالنَّاسُ فِي مَخْمَصَةٍ، أَوْ سِلَاحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِلْجِهَادِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ اُضْطُرَّ إلَى طَعَامِ غَيْرِهِ: أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ، إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ سِعْرِهِ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ بِمَا طَلَبَ: لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةُ مِثْلِهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الِاسْتِدَانَةِ مِنْ الْغَيْرِ، فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ إلَّا بِرِبًا، أَوْ مُعَامَلَةٍ رِبَوِيَّةٍ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ بِذَلِكَ: لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ إلَّا مِقْدَارَ رَأْسِ مَالِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا اُضْطُرَّ إلَى مَنَافِعِ مَالِهِ، كَالْحَيَوَانِ وَالْقِدْرِ وَالْفَأْسِ وَنَحْوِهَا: وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهَا لَهُ مَجَّانًا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الْآخَرِ.
وَلَوْ اُضْطُرَّ إلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، فَحَبَسَهُ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ جُوعًا وَعَطَشًا: ضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاحْتَجَّ بِفِعْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقِيلَ لَهُ: تَذْهَبُ إلَيْهِ؟ فَقَالَ: إيْ وَاَللَّهِ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا التَّسْعِيرُ:
وَأَمَّا التَّسْعِيرُ: فَمِنْهُ مَا هُوَ ظُلْمٌ مُحَرَّمٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ عَدْلٌ جَائِزٌ. فَإِذَا تَضَمَّنَ ظُلْمَ النَّاسِ وَإِكْرَاهَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى الْبَيْعِ بِثَمَنٍ لَا يَرْضَوْنَهُ، أَوْ مَنَعَهُمْ مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُمْ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِذَا تَضَمَّنَ الْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ، مِثْلُ إكْرَاهِهِمْ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَمَنَعَهُمْ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَخْذِ الزِّيَادَةِ عَلَى عِوَضِ الْمِثْلِ، فَهُوَ جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَمِثْلُ مَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: «غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ سَعَّرْتَ لَنَا؟ فَقَالَ: (إنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَابِضُ الرَّازِقُ، الْبَاسِطُ الْمُسَعِّرُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَا يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلِمَةٍ ظَلَمْتُهَا إيَّاهُ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
فَإِذَا كَانَ النَّاسُ يَبِيعُونَ سِلَعَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ ارْتَفَعَ السِّعْرُ -إمَّا لِقِلَّةِ الشَّيْءِ، وَإِمَّا لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ- فَهَذَا إلَى اللَّهِ، فَإِلْزَامُ النَّاسِ أَنْ يَبِيعُوا بِقِيمَةٍ بِعَيْنِهَا: إكْرَاهٌ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَمِثْلُ أَنْ يَمْتَنِعَ أَرْبَابُ السِّلَعِ مِنْ بَيْعِهَا، مَعَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إلَيْهَا إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى الْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعُهَا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّسْعِيرِ إلَّا إلْزَامُهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، فَالتَّسْعِيرُ هَاهُنَا إلْزَامٌ بِالْعَدْلِ الَّذِي أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ بِهِ.
فَصْلٌ: وَمِنْ أَقْبَحِ الظُّلْمِ: إيجَارُ الْحَانُوتِ عَلَى الطَّرِيقِ
– الشيخ : إلى هنا