بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة ص
الدَّرس: الحادي عشر
*** *** ***
– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:71-88]
– الشيخ : الله أكبر، الحمدُ لله، خُتِمَتْ هذهِ السورةُ -سورةُ ص- بقصةِ آدمَ وإبليسَ، وهي تُثَنَّى في القرآنِ، جاءتْ في سَبْعِ سُوَرٍ مِن القرآنِ، إلا أنَّها بُسِطَتْ أكثرُ في "سورةِ الأعرافِ"، و"سورة الحِجر" وفي هذه السورةِ.
وقد تضمَّنَتِ الخبرَ مِن اللهِ بأنه خَلَقَ آدمَ مِن طينٍ، في الآيةِ الأخرى {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحِجْر:26] فهذه بدايةُ البشريةِ، أولُ إنسانٍ هو آدمُ، وأخبرَنَا اللهُ بقصةِ خلقِه، أنَّه خلقَه من طينٍ، وقدَّرَه وصوَّره ونفخَ فيه مِن رُوحِهِ، وأمرَ الملائكةَ بالسجودِ لَه إذا فعلَ بِه ذلك. {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فسوَّاهُ تعالى، سوَّاهُ ونفخَ فيهِ مِن روحِهِ فسجدَ له الملائكةُ، وهذا سجودُ إكرامٍ وتحيةٍ؛ طاعةً للهِ، لا عبادةً، سجودُهم لآدمَ هو عبادةٌ للهِ، هو تكريمٌ لآدمَ، وإظهارٌ لشَرَفِ آدمَ.
{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ} {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} تأكيدٌ يعني ما في، جميعُ الْمَلَائِكَةِ، {سَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ} في جميعِ الآياتِ يَذكرُ اللهُ هذا الاستثناءَ، وإبليسُ: قيل أنَّه مِن الملائكةِ لاستثنائِهِ في هذه الآياتِ {سَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ} وقيل: لا، ليسَ هو مِن الملائكةِ، لكن كانَ معَ الملائكةِ، وكانَ مأموراً معَهُم بالسجودِ لآدمَ، وإلَّا فهو مِن الجِنِّ، هو أبو الجِنِّ، هو أبوهُم، هو أبو الجِنِّ، الله المستعان، وهذا صريحٌ في سورةِ الكهفِ {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف:50]
فأظهرَ اللهُ شرفَ آدمَ: بأنْ خلقَه اللهُ بيدِه، ونفخَ فيه مِن روحِه، وأسجدَ لَه ملائكتَهُ.
وهكذا يقولُ لَه الناسُ يومَ القيامةِ إذا جاؤوا يطلبونَ منه الشفاعةَ يقولون: "أنتَ آدمُ كذا وكذا"، ويذكرونَ فضائلَهُ التي خَصَّهُ اللهُ بها.
{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ} لكن إبليسَ أبى {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} فاللهُ أنكرَ عليهِ ووَبَّخَهُ: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ}
فذكرَ شبهتَهُ الخبيثةَ وهو أنِ افتخرَ بأنْ خلقَه اللهُ مِن نارٍ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} بزعمِ الشيطانِ أنَّ النارَ خيرٌ مِن الطينِ، والمخلوقُ مِن النارِ يكونُ حينئذٍ خيراً مِن المخلوقِ مِن الطينِ، وهذا نظرٌ فاسدٌ، وقياسٌ فاسدٌ بيَّنَهُ العلماءُ، وبَيَّنُوا وجهَ فسادِه، فالطينُ في الحقيقةِ خيرٌ من النار، النارُ مُتْلِفَةٌ ومُحرِقَةٌ، والطينُ فيه يَنْبُتُ البذرُ ويَنْمُو، وهو فيهِ بركةٌ، أمَّا النار فمُتْلِفَةٌ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} اخْرُجْ، {مِنْهَا} مِن السماءِ أو مِن الجنةِ {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مَرْجُومٌ {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} فَحَلَّتْ عليهِ لعنةُ اللهِ إلى يومِ [….]، فعُلِمَ بذلكَ أنَّ الحاملَ لَه على عدمِ السجودِ هو: الاستكبارُ والافتخارُ ودعوى الفضلِ على آدمَ.
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أنظرْهُ، فأنظرَهُ اللهُ وأبقاهُ؛ لحكمةٍ بالغةٍ؛ للابتلاءِ، لحكمةِ الابتلاءِ، فمِنْ ذلك التأريخِ كانَ الإنسانُ -أولُ ذلكَ آدم مُبتلىً بإبليسَ- ثمَّ ذريتُهُ كذلك ابْتُلُوا بإبليسَ وذريتِهِ، بذريةِ إبليسَ، لا إله إلا الله، ليتمَّ أمْرُ اللهِ، وتبلغَ الأمورُ إلى مُنْتَهَاهَا بحكمتِهِ تعالى، لا إله إلا الله
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} لا إله إلا الله.
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} الآن أبدى عزمَهُ وأقْسَمَ على ذلكَ {بِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} في الآيةِ الأخرى: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ} [الحجر:39] وهذا هو الجاري الآن، الجاري أنَّ إبليسَ يُزيِّنُ لبني آدم، يُزيِّنُ لهم الدنيا وشهواتِها، يُزيِّنُ لهم ما في هذهِ الأرضِ؛ حتى تتعلَّقَ قلوبُهم بها، وقد أغْوَى الكثيرينَ، أغْوَى الأكثر.
{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وهذا وعيدٌ مِن اللهِ لإبليسَ ومَنْ تَبِعَهُ، توعَّدَهُ اللهُ ومَنْ تَبِعَهُ بأنْ يملأَ بهم جهنَّمَ {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}
ثمَّ رَجَعَ السِّياقُ إلى خطابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} فهذهِ القصةُ -قصةُ آدم- مُعْتَرِضَةٌ بينَ الخِطاباتِ للنبي عليه الصلاة والسلام
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص:65-70]
ثمَّ جاءتِ القصةُ ثمَّ رجعَ السياقُ إلى خطابِ النبيِّ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}.
(تفسير السعدي)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ رحمَه اللهُ تعالى:
ثمَّ ذكرَ اختصامَ الْمَلأِ الأعلى فقالَ: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} على وجهِ الإخبارِ {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} أيْ: مادتُهُ مِن طينٍ.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أيْ: سَوَّيْتُ جسمَهُ وتمَّ {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فَوَطَّنَ الملائكةُ الكِرَامُ أنفسَهم على ذلكَ حينَ يتمَّ خلقَهُ ونَفْخَ الروحِ فيهِ؛ امتثالاً لربِّهم، وإكراماً لآدمَ عليه السلام، فلمَّا تمَّ خلقُهُ في بدنِهِ وروحِهِ، وامتحنَ اللهُ آدمَ والملائكةَ في العلمِ، وظهرَ فضلُهُ عليهِم، أمرَهُمُ اللهُ بالسجودِ.
{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ} لمْ يسجدْ {اسْتَكْبَرَ} عَن أمرِ ربِّهِ، واستكبرَ على آدمَ {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} في علمِ اللهِ تعالى.
فـ {قَالَ} اللهُ له مُوَبِّخَاً ومُعَاتباً: يا إبليسُ {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أيْ: شرفتُهُ وكرَّمْتُهُ واختصصتُهُ بهذهِ الخصيصةِ التي اختَصَّ بها عَنْ سائرِ الخَلْقِ، وذلكَ يقتضي عدمَ التكبُّرِ عليهِ.
– الشيخ : لا إله إلا الله، وهذهِ الآية أدلُّ دليلٍ على إثباتِ اليدينِ للهِ سبحانه وتعالى وأنَّهُ يفعلُ بهما مَا شاء، خلقَ بهما آدمَ، ويأخذُ اللهُ السمواتِ والأرض يومَ القيامةِ {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]
– القارئ : {أسْتَكْبَرْتَ} في امتناعِكَ {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ}
{قَالَ} إبليسُ مُعارِضًا لربِّهِ ومُنَاقِضَاً: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} وبزعمِهِ أنَّ عنصرَ النارِ خيرٌ مِن عنصرِ الطينِ، وهذا مِن القياسِ الفاسدِ، فإنَّ عنصرَ النارِ مادةُ الشرِّ والفسادِ والعلوِّ والطَيشِ والخِفَّةِ، وعنصرُ الطينِ مادةُ الرَّزانةِ والتواضعِ وإخراجِ أنواعِ الأشجارِ والنباتاتِ، وهو يغلبُ النارَ ويُطْفِئُهَا، والنَّارُ تحتاجُ إلى مادةٍ تقومُ بها، والطينُ قائمٌ بنفسِهِ، فهذا قياسُ شيخِ القومِ الذي عارضَ بِهِ الأمرَ الشَّفَاهِيَ مِنَ الله،
– الشيخ : الشَّفَاهِي عندكم؟
– طالب: الشَّفَهِي
– الشيخ : إي هو الشَّفَهِي، ما أدري والله الشفاهي ذي ما هي بــ..، كأنَّ المقصودَ أنَّها الـمُواجهةُ والـمُباشَرةُ بلا واسطةٍ، كأنه، كأن يريد الشيخُ عارضَ به الأمرَ الصريحَ الذي سمعَه وتلقاهُ عن الله مباشرةً، لعلَّ هذا مرادُه، لا حول ولا قوة إلا بالله.
"وهو شيخُ القومِ" يعني: شيخُ الكفارِ والملاحدةِ الذين يُعارضونَ أوامرَ اللهِ بعقولِهم، يُعارضونَ أوامرَ اللهِ بعقولِهم، سَلَفُهم وشيخُهُم وإمامُهم إبليسُ.
– القارئ : قدْ تبيَّنَ غايةُ بطلانِهِ وفسادِهِ، فما بالُكَ بأقيسةِ التلاميذِ الذين عارضُوا الحقَّ بأقيستِهِم؟ فإنَّها كلُّها أعظمُ بطلاناً وفساداً مِن هذا القياسِ.
{قَالَ} اللهُ لَه: {فَاخْرُجْ مِنْهَا} أيْ: مِن السماءِ والمحلِّ الكريمِ. {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أيْ: مُبْعَدٌ مَدْحورٌ.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} أيْ: طَرْدِي وإبعادِي {إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} أيْ: دائماً أبداً.
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} لشدةِ عداوتِهِ لآدمَ وذريتِهِ، ليتمكنَ مِن إغواءِ مَنْ قَدَّرَ اللهُ أنْ يغويَهُ.
قالَ اللهُ مجيباً لدعوتِهِ حيثُ اقتضَتْ حكمتُهُ ذلكَ: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} حينَ تُسْتكملُ الذريةُ يتمُّ الامتحانُ.
فلمَّا علمَ أنَّه مُنْظَرٌ بادى ربَّهَ مِنْ خُبْثِهِ، بشدةِ العداوةِ لربِّهِ ولآدمَ وذريتِهِ، فقالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يُحتملُ أنَّ الباءَ للقَسَمِ، وأنَّهُ أقسمَ بعِزَّةِ اللهِ
– الشيخ : هذا هو الـمُتَبَادَرُ.
– القارئ : لَيُغْويَنَّهُم كلَّهُم أجمعينَ.
– الشيخ : لَيُغْويَنَّهُم، واللام واضح، الأسلوبُ أسلوبُ قسمٍ.
– القارئ : {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} علمَ أنَّ اللهَ سيحفظُهم مِن كيدِهِ.
ويُحتمَلُ أنَّ الباءَ للاستعانةِ
– الشيخ : لا، لا، الصحيحُ أنَّها للقَسَمِ، هذا هو الظاهرُ، بدليلِ التأكيدِ {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ} هذا أسلوبُ قَسَمٍ، جاء الفعلُ مُؤكَّداً بنونِ التوكيدِ، هذا أسلوبُ قَسَم، لا إله إلا الله.
– القارئ : وأنَّه لـمَّا علمَ أنَّهُ عاجزٌ مِن كلِّ وجهٍ، وأنَّهُ لا يُضِلُّ أحداً إلا بمشيئةِ الله تعالى، فاستعانَ بِعِزَّةِ اللهِ على إغواءِ ذريةِ آدمَ، هذا وهو عدوُّ اللهِ حقاً.
ونحنُ يا ربَّنَا العاجزونَ الـمُقصِّرُون، المقرُّونَ لكَ بكلِّ نعمةٍ، ذريةُ مَنْ شَرَّفْتَهُ وكَرَّمْتَهُ، فنستعينُ بعزتِكَ العظيمةِ وقدرتِكَ ورحمتِكَ الواسعةِ لكلِّ مخلوقٍ، ورحمتِكَ التي أوصلَتْ إلينا بها، ما أوصلتْ مِن النِّعَمِ الدينيةِ والدنيويةِ، وصرفْتَ بها عنَّا ما صرفْتَ مِن النِّقَمِ، أنْ تُعينَنَا على محاربتِهِ وعداوتِهِ، والسلامةِ مِن شرِّهِ وشَرَكِهِ، ونحسنُ الظنَّ بكَ أن تجيبَ دعاءَنا، ونؤمنُ بوعدِكَ الذي قلتَ لنا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] فقدْ دعوناكَ كما أمَرْتَنَا، فاستجبْ لنا كمَا وعدْتَنَا، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
{قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} أيْ: الحقُّ وصفِي، والحقُّ قَولي. {لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}
فلمَّا بَيَّنَ الرسولُ للناسِ الدليلَ ووضَّحَ لهمُ السبيلَ قالَ اللهُ له: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أيْ: على دُعَائِي إيَّاكُم {مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أدَّعِي أمراً ليسَ لي، وأقْفُو مَا ليسَ لي بِه علمٌ، لا أتَّبعُ إلا ما يُوحَى إليَّ.
{إِنْ هُوَ} أي: هذا الوحيُ والقرآنُ {إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} يتذكرونَ بِه كلَّ ما ينفعُهُم مِن مصالحِ دينِهم ودنياهُم، فيكونُ شرفًا ورفعةً للعاملينَ به، وإقامةَ حجةٍ على المُعاندينَ.
فهذهِ السورةُ العظيمةُ مشتملةٌ على الذِّكْرِ الحكيمِ والنبأِ العظيمِ، وإقامةِ الحُججِ والبراهينِ، على مَنْ كَذَّبَ بالقرآنِ وعارضَهُ، وكَذَّبَ مَنْ جاءَ بِه، والإخبارِ عَن عبادِ اللهِ المخلَصِينَ، وجزاءِ المتقينَ والطاغينَ. فلهذا أقسمَ في أولِّها بأنَّهُ: ذُو الذِّكْرِ، ووصفَهُ في آخرها بأنَّهُ: ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ.
وأكَثَرَ التذكيرَ بها فيما بينَ ذلكَ،
– الشيخ : وهذا مِن التناسبِ بينَ أولِ السورةِ وآخرِها، {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:2] وهنا قال: {إنْ هوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}
– القارئ : كقولِه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} [ص:17] {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} [ص:45] {رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى} [ص:43] {هَذَا ذِكْرٌ} [ص:49]
اللهمَّ علِّمْنَا منه ما جَهِلْنَا، وذكرْنَا منه ما نسينَا نسيانَ غفلةٍ ونسيانَ تركٍ.
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أيْ: خبرَهُ {بَعْدَ حِينٍ} وذلكَ حينَ يقعُ عليهمُ العذابُ، وتتقطَّعُ عنهمُ الأسبابُ.
تمَّ تفسيرُ سورةِ "ص" بـِمَنِّهِ تعالى وعونِهِ. انتهى