بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس السّادس
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيِّنا محمّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين..
– الشيخ: اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه
– القارئ: اللهُمَّ اغفر لنا ولشيخِنا يا ربَّ العالمين، قَالَ شَيخُ الإِسلَام رحمه الله تعالى:
– الشيخ: أقول: ولإخوانك أجمعين
– القارئ: أحسنَ الله إليكم، اللهمّ اغفر لنا ولشيخنا والمسلمين، قال رحمهُ الله تعالى:
وَكَانُوا يُسَمُّونَ مَا عَارَضَ الآيَةَ نَاسِخًا لَهَا، فَالنَّسخُ عِندَهُم: اسمٌ عَامٌّ لِكُلِّ مَا يَرفَعُ دَلَالَةَ الآيَةِ عَلَى مَعنًى بَاطِلٍ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ المَعنَى لَم يُرَد بِهَا، وَإِن كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَيهِ ظَاهِرُ الآيَةِ؛ بَل قَد لَا يُفهَمُ مِنهَا، وَقَد فَهِمَهُ مِنهَا قَومٌ فَيُسَمُّونَ مَا رَفَعَ ذَلِكَ الإِبهَامَ وَالإِفهَامَ نَسخًا، وهَذِهِ التَّسمِيَةُ لَا تُؤخَذُ عَن كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُم، وَأَصلُ ذَلِكَ مِن إلقَاءِ الشَّيطَانِ ثُمَّ يُحكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ، فَمَا أَلقَاهُ الشَّيطَانُ فِي الأَذهَانِ مِن ظَنِّ دَلَالَةِ الآيَةِ عَلَى مَعنًى لَم يَدُلَّ عَلَيهِ سَمَّى هَؤُلَاءِ مَا يَرفَعُ ذَلِكَ الظَّنَّ نَسخًا، كَمَا سَمَّوا قَولَهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم [التغابن:16] نَاسِخًا لِقَولِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] وَقَولَهُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلَّا وُسعَهَا [البقرة:286] نَاسِخًا لِقَولِهِ: وَإِن تُبدُوا مَا فِي أَنفُسِكُم أَو تُخفُوهُ يُحَاسِبكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغفِرُ لِمَن يَشَاءُ [البقرة:284]، وَأَمثَالَ ذَلِكَ مِمَّا لَيسَ هَذَا مَوضِعَ بَسطِهِ، إذ المَقصُودُ..
– الشيخ: اللهُ المستعان، يعني بعض المعاني قد يعتقدُ بعضُ النَّاسِ أنَّ القرآنَ قد دلَّ عليها، فتأتي الآيةُ لترفعَ هذا التوهُّمَ وهذا الاعتقادَ، فبالنسبة لمثل قوله تعالى: وَإِن تُبدُوا مَا فِي أَنفُسِكُم أَو تُخفُوهُ يُحَاسِبكُم بِهِ اللهٌ [البقرة:284] لمَّا نزلت هذهِ الآيةُ جاءَ الصحابةُ وجَثَوا على الرُّكَبِ وقالوا: يا رسولَ اللهِ، يعني أُمرنا بما نستطيعُ من الصَّلاةِ والزَّكاةِ، وإنَّه نزلت عليكَ آيةٌ لا نستطيعُها. كيف ما يستطيعُونها؟ يقول: وَإِن تُبۡدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمۡ أَو تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُ الإنسانُ ما يستطيعُ يدفعُ الخواطرَ التي تَرِدُ على نفسِهِ من أمورٍ باطلةٍ، خواطر، قال: "أتريدونَ أن تقولوا كما قالَ أهلُ الكتابِ: سمعنا وعصينا، قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا، وانقادوا وخَضَعوا"، فأنزلَ اللهُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلَّا وُسعَهَا [البقرة:286]
فما يَرِدُ على النّفسِ من الخواطرِ الباطلةِ والشّيطانيّةِ لا يُؤاخَذُ عليها ما دامَ أنَّها لم تَصِر اعتقاداً وعلماً ويُصدِّق بها، لا، تخطر عليه وهو كارهٌ لها، هذا كثيٌر يقعُ في النّفوسِ، خواطرُ عظيمةٌ، ولهذا جاءت السنّةُ بقوله صلّى الله عليه وسلّم: (إنّ اللهَ تجاوزَ عن أمَّتي ما حدَّثت به أنفُسَها ما لم تعمل أو تتكلَّم)، فالمقصودُ الشّاهدُ أنّهم سمُّوا الآيةَ هذه لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا أنّها ناسخةٌ، مع أنّ الآيةَ الأولى لم يُرَد بها ولم تَدُل على المعنى الذي فهمَهُ الصّحابةُ، لم يُرَد بها ذلك، وهكذا قولُه تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم [التغابن:16] قالوا إنّها ناسخةٌ لقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ[آل عمران:102] مع أنَّ قولَه تعالى: ٱتَّقُوا ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ لم يُرَد بها أن يفعلَ الإنسانُ ما لا يستطيعُ، لكن جاءت الآيةُ مُبَيِّنةٌ، مع ذلك يسمون رفع ذلك المعنى الذي قد يظنُّه بعضُ النّاس، أو ظنَّهُ بعضُ النّاسِ، يُسمِّيهِ العلماءُ نسخاً.
– القارئ: أحسنَ الله إليكم، قال رحمه الله تعالى:
وَأَمثَالَ ذَلِكَ مِمَّا لَيسَ هَذَا مَوضِعَ بَسطِهِ، إذ المَقصُودُ أَنَّهُم كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ القُرآنَ لَا يُعَارِضُهُ إلَّا قُرآنٌ؛ لَا رَايٌ وَمَعقُولٌ وَقِيَاسٌ، وَلَا ذَوقٌ وَوَجدٌ وَإِلهَامٌ وَمُكَاشَفَةٌ.
وَكَانَت البِدَعُ الأُولَى مِثلُ "بِدعَة الخَوَارِجِ" إنَّمَا هِيَ مِن سُوءِ فَهمِهِم لِلقُرآنِ، لَم يَقصِدُوا مُعَارَضَتَهُ، لَكِن فَهِمُوا مِنهُ مَا لَم يَدُلَّ عَلَيهِ فَظَنُّوا أَنَّهُ يُوجِبُ تَكفِيرَ أَربَابِ الذُّنُوبِ؛ إذ كَانَ المُؤمِنُ هُوَ البَرُّ التَّقِيُّ، قَالُوا: فَمَن لَم يَكُن بَرًّا تَقِيًّا فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَالُوا: وَعُثمَانُ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهما وَمَن وَالَاهُمَا لَيسُوا بِمُؤمِنِينَ؛ لِأَنَّهُم حَكَمُوا بِغَيرِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ؛ فَكَانَت بِدعَتُهُم لَهَا مُقَدِّمَتَانِ:
الوَاحِدَةُ: أَنَّ مَن خَالَفَ القُرآنَ بِعَمَلِ أَو بِرَايٍ أَخطَأَ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ عُثمَانَ وَعَلِيًّا وَمَن وَالَاهُمَا كَانُوا كَذَلِكَ، وَلِهَذَا..
– الشيخ: وكلٌّ من المُقدِّمتينِ باطلٌ، كلٌّ من المُقدِّمتين باطلٌ، فليسَ كلُّ من خالفَ القرآنَ وأخطأَ في ذلك يكونُ كافرًا، وعثمانُ وعليٌ لم يكن منهما خطأٌ، ولم يكن منهما انحرافٌ، فكلٌّ من المُقدِّمتين باطلٌ، فَبَطَلَ حُكمُهم على عليٍّ وعثمانَ.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، ولهذا يَجِبُ الِاحتِرَازُ مِن تَكفِيرِ المُسلِمِينَ بِالذُّنُوبِ وَالخَطَايَا فَإِنَّهُ أَوَّلُ بِدعَةٍ ظَهَرَت فِي الإِسلَامِ؛ فَكَفَّرَ أَهلُهَا المُسلِمِينَ وَاستَحَلُّوا دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم، وَقَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي ذَمِّهِم والأمرِ بِقِتَالِهِم..
– الشيخ: يعني الخوارج نعم
– القارئ: قَالَ الإِمَامُ أَحمَد بنُ حَنبَلٍ: صَحَّ فِيهِم الحَدِيثُ مِن عَشَرَةِ أَوجُهٍ؛ وَلِهَذَا قَد أَخرَجَهَا مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَأَفرَدَ البُخَارِيُّ قِطعَةً مِنهَا، وَهُم مَعَ هَذَا الذَّمِّ إنَّمَا قَصَدُوا اتِّبَاعَ القُرآنِ، فَكَيفَ بِمَن تَكُونُ بِدعَتُهُ مُعَارَضَةَ القُرآنِ وَالإِعرَاضَ عَنهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ..
– الشيخ: مُعارَضةَ القُرآن، نعم مُعَارَضةَ، كأن مُعَارِضَةَ، أو من كان قصدُه مُعَارَضَةَ القرآن.
– القارئ: وَهُم مَعَ ذَلِكَ يُكَفِّرُون المُسلِمِينَ كالجهمية، ثُمَّ الشِّيعَةُ لَمَّا حَدَثُوا لَم يَكُن الَّذِي ابتَدَعَ التَّشَيُّعَ قَصدُهُ الدِّينُ؛ بَل كَانَ غَرَضُهُ فَاسِدًا، وَقَد قِيلَ إنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا زِندِيقًا، فَأَصلُ بِدعَتِهِم مَبنِيَّةٌ عَلَى الكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَتَكذِيبِ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ مِن الكَذِبِ أَكثَرُ مِمَّا يُوجَدُ فِيهِم، بِخِلَافِ الخَوَارِجِ فَإِنَّهُ لَا يُعرَفُ فِيهِم مَن يَكذِبُ.
(وَالشِّيعَةُ لَا يَكَادُ يُوثَقُ بِرِوَايَةِ أَحَدٍ مِنهُم مِن شُيُوخِهِم لِكَثرَةِ الكَذِبِ فِيهِم؛ وَلِهَذَا أَعرَضَ عَنهُم أَهلُ الصَّحِيحِ فَلَا يَروِي البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ أَحَادِيثَ عَلِيٍّ إلَّا عَن أَهلِ بَيتِهِ؛ كَأَولَادِهِ مِثلِ الحَسَنِ وَالحُسَينِ وَمِثلِ مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ، وَكَاتِبِهِ عُبَيدِ اللَّهِ بنِ أَبِي رَافِعٍ، أَو أَصحَابِ ابنِ مَسعُودٍ وَغَيرِهِم؛ مِثلِ عَبَيدَةَ السلماني وَالحَارِثِ التيمي وَقَيسِ بنِ عُبَاد، وَأَمثَالِهِم؛ إذ هَؤُلَاءِ صَادِقُونَ فِيمَا يَروُونَهُ عَن عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ فَلِهَذَا أَخرَجَ أَصحَابُ الصَّحِيحِ حَدِيثَهُم. وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ "الخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ" حَدَثُوا بَعدَ مَقتَلِ عُثمَانَ رضي الله عنه، وَكَانَ المُسلِمُونَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما وَصَدرًا مِن خِلَافَةِ عُثمَانَ رضي الله عنه فِي السَّنَةِ الأُولَى مِن وِلَايَتِهِ مُتَّفِقِينَ لَا تَنَازُعَ بَينَهُم، ثُمَّ حَدَثَ فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عُثمَانَ رضي الله عنه أُمُورٌ أَوجَبَت نَوعًا مِن التَّفَرُّقِ..
– الشيخ: يقولُ: في السنَّةِ الأولى، ولّا في السّنوات الأولى؟
– القارئ: قال يا شيخ: فِي السَّنَةِ الأُولَى مِن وِلَايَتِهِ مُتَّفِقِينَ
– الشيخ: بس في السّنة الأولى! سنة؟!
– القارئ: أي نعم يا شيخ
– الشيخ: ولّا عليها تعليقٌ ولّا شي؟
– القارئ: لا يوجدُ عليها تعليقٌ
– الشيخ: كأنّها سَنَة، ما هي؟ يمكن مدّة الاتّفاقِ، ممكن أكثر، لأنّ الفتنةَ لم تحدُث إلا يعني، على الأقل في وَسِطِ خلافتِه، نعم
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليك، ثُمَّ حَدَثَ فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عُثمَانَ رضي الله عنه أُمُورٌ أَوجَبَت نَوعًا مِن التَّفَرُّقِ، وَقَامَ قَومٌ مِن أَهلِ الفِتنَةِ وَالظُّلمِ فَقَتَلُوا عُثمَانَ رضي اللهُ عنه، فَتَفَرَّقَ المُسلِمُونَ بَعدَ مَقتَلِ عُثمَانَ رضي اللهُ عنه، وَلَمَّا اقتَتَلَ المُسلِمُونَ بصفين وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحكِيمِ حَكَمَينِ خَرَجَت الخَوَارِجُ عَلَى أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَفَارَقُوهُ وَفَارَقُوا جَمَاعَةَ المُسلِمِينَ إلَى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ، فَكَفَّ عَنهُم أَمِيرُ المُؤمِنِينَ وَقَالَ: لَكُم عَلَينَا أَن لَا نَمنَعَكُم حَقَّكُم مِن الفَيءِ وَلَا نَمنَعَكُم المَسَاجِدَ، إلَى أَن استَحَلُّوا دِمَاءَ المُسلِمِينَ وَأَموَالَهُم؛ فَقَتَلُوا عَبدَ اللَّهِ بنَ خبَّاب وَأَغَارُوا عَلَى سَرحِ المُسلِمِينَ؛ فَعَلِمَ عَلِيٌّ أَنَّهُم الطَّائِفَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حَيثُ قَالَ: "يَحقِرُ أَحَدُكُم صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِم وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِم وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِم، يَقرَءُونَ القُرآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم، يَمرُقُونَ مِن الدِّينِ كَمَا يَمرُقُ السَّهمُ مِن الرَّمِيَّةِ، آيَتُهُم فِيهِم رَجُلٌ مُخْدَجُ اليَدِ عَلَيهَا بَضعَةٌ..
– الشيخ: مُخدَج؟
– القارئ: أي نعم
– الشيخ: بتسكِين الخاء؟
– القارئ: نعم، مُخْدَجُ اليَدِ عَلَيهَا بَضعَةٌ عَلَيهَا شَعَرَاتٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: (يَقتُلُونَ أَهلَ الإِسلَامِ وَيَدعُونَ أَهلَ الأَوثَانِ)، فَخَطَبَ النَّاسَ وَأَخبَرَهُم بِمَا سَمِعَ مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: هُم هَؤُلَاءِ القَومُ، قَد سَفَكُوا الدَّمَ الحَرَامَ وَأَغَارُوا عَلَى سَرحِ النَّاسِ، فَقَاتَلَهُم وَوَجَدَ العَلَامَةَ بَعدَ أَن كَادَ لَا يُوجَدُ، فَسَجَدَ لِلَّهِ شُكرًا.
وَحَدَثَ فِي أَيَّامِهِ الشِّيعَةُ، لَكِن كَانُوا مُختَفِينَ بِقَولِهِم لَا يُظهِرُونَهُ لِعَلِيِّ وَشِيعَتِهِ؛ بَل كَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ:
طَائِفَةٌ تَقُولُ: إنَّهُ إلَهٌ: وَهَؤُلَاءِ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيهِم أَحرَقَهُم بِالنَّارِ وَخَدَّ لَهُم أَخَادِيدَ عِندَ بَابِ مَسجِدِ بَنِي كِندَةَ، وَقِيلَ إنَّهُ أَنشَدَ: لَمَّا رَأَيت الأَمرَ أَمرًا مُنكَرًا أَجَّجتُ نَارِي وَدَعَوتُ قُنبُرا، وَقَد رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِزَنَادِقَةِ فَحَرَّقَهُم بِالنَّارِ، وَلَو كُنت أَنَا لَم أُحَرِّقهُم؛ لِنَهيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَن يُعَذَّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلَضَرَبتُ أَعنَاقَهُم لِقَولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "مَن بَدَّلَ دِينَهُ فَاقتُلُوهُ". وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ هُوَ مَذهَبُ أَكثَرِ الفُقَهَاءِ، وَقَد رُوِيَ أَنَّهُ أَجَّلَهُم ثَلَاثًا.
وَالثَّانِيَةُ: السَّابَّةُ: وَكَانَ قَد بَلَغَهُ عَن ابن السَّودَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَسُبُّ أَبَا بَكرٍ وَعُمَرَ فَطَلَبَهُ. قِيلَ: إنَّهُ طَلَبَهُ لِيَقتُلَهُ فَهَرَبَ مِنهُ.
وَالثَّالِثَةُ: المُفَضِّلَةُ: الَّذِينَ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَبِي بَكرٍ وَعُمَرَ، فَتَوَاتَرَ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: خَيرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكرٍ ثُمَّ عُمَرُ. وَرَوَى ذَلِكَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَن مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ مَن خَيرُ النَّاسِ بَعدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكرٍ. قَالَ: ثُمَّ مَن؟ قَالَ: عُمَرُ.
وَكَانَت الشِّيعَةُ الأُولَى لَا يَتَنَازَعُونَ فِي تَفضِيلِ أَبِي بَكرٍ وَعُمَرَ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ فِي عَلِيٍّ وَعُثمَانَ؛ وَلِهَذَا قَالَ شَرِيكُ بنُ عَبدِ اللَّهِ: إنَّ أَفضَلَ النَّاسِ بَعدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكرٍ وَعُمَرُ. فَقِيلَ لَهُ تَقُولُ هَذَا وَأَنتَ مِن الشِّيعَةِ؟ فَقَالَ: كُلُّ الشِّيعَةِ كَانُوا عَلَى هَذَا، وَهُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا عَلَى أَعوَادِ مِنبَرِهِ، أَفَنُكَذِّبُهُ فِيمَا..
– الشيخ: ايش؟ يقول ايش؟
– القارئ: فَقَالَ: كُلُّ الشِّيعَةِ كَانُوا عَلَى هَذَا، وَهُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا عَلَى أَعوَادِ مِنبَرِهِ..
– الشيخ: وَهُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا، يعني علي
– القارئ: نعم يا شيخ، في الحاشية قال يقصدُ علي
وَهُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا عَلَى أَعوَادِ مِنبَرِهِ، أَفَنُكَذِّبُهُ فِيمَا قَالَ؟! وَلِهَذَا قَالَ سُفيَانُ الثَّورِيُّ: مَن فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكرٍ وَعُمَرَ فَقَد أَزرَى بِالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ، وَمَا أَرَى يَصعَدُ لَهُ إلَى اللَّهِ عَمَلٌ وَهُوَ كَذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو داود فِي سُنَنِهِ. وَكَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِالحَسَنِ بنِ صَالِحِ بنِ حيي؛ فَإِنَّ الزَّيدِيَّةَ الصَّالِحيَّةَ -وَهُم أَصلَحُ طَوَائِفِ الزَّيدِيَّةِ- يُنسَبُونَ إلَيهِ.
وَلَكِنَّ الشِّيعَةَ لَم يَكُن لَهُم فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ وَلَا دَارٌ وَلَا سَيفٌ يُقَاتِلُونَ بِهِ المُسلِمِينَ؛ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِلخَوَارِجِ؛ تَمَيَّزُوا بِالإِمَامِ وَالجَمَاعَةِ وَالدَّارِ وَسَمَّوا دَارَهُم دَارَ الهِجرَةِ وَجَعَلُوا دَارَ المُسلِمِينَ دَارَ كُفرٍ وَحَربٍ. وَكِلَا الطَّائِفَتَينِ تَطعَنُ بَل تُكَفِّرُ وُلَاةَ المُسلِمِينَ، وَجُمهُورُ الخَوَارِجِ يُكَفِّرُونَ عُثمَانَ وَعَلِيًّا وَمَن تَوَلَّاهُمَا، وَالرَّافِضَةُ يَلعَنُونَ أَبَا بَكرٍ وَعُمَرَ وَعُثمَانَ وَمَن تَوَلَّاهُم، وَلَكِنَّ الفَسَادَ الظَّاهِرَ كَانَ فِي الخَوَارِجِ مِن سَفكِ الدِّمَاءِ وَأَخذِ الأَموَالِ وَالخُرُوجِ بِالسَّيفِ؛ فَلِهَذَا جَاءَت الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِقِتَالِهِم.
وَالأَحَادِيثُ فِي ذَمِّهِم وَالأَمرِ بِقِتَالِهِم كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِندَ أَهلِ الحَدِيثِ مِثلَ أَحَادِيثِ الرُّؤيَةِ وَعَذَابِ القَبرِ وَفِتنَتِهِ وَأَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَالحَوضِ.
وَقَد رُوِيَت أَحَادِيثُ فِي ذَمِّ القَدَرِيَّةِ وَالمُرجِئَةِ رَوَى بَعضَهَا أَهلُ السُّنَنِ كَأَبِي داود وَابنِ ماجه، وَبَعضُ النَّاسِ يُثبِتُهَا وَيُقَوِّيهَا، وَمِن العُلَمَاءِ مَن طَعَنَ فِيهَا وَضَعَّفَهَا، وَلَكِنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي ذَمِّ القَدَرِيَّةِ وَنَحوِهِم هُوَ عَن الصَّحَابَةِ كَابنِ عُمَرَ وَابنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا لَفظُ الرَّافِضَة: فَهَذَا اللَّفظُ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ فِي الإِسلَامِ لَمَّا خَرَجَ زَيدُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ فِي أَوَائِلِ المِائَةِ الثَّانِيَةِ..
– الشيخ: متواصلُ الكلامِ، متواصل، رحمهُ الله، لا إله إلّا الله، الشيخُ في هذا الكلامِ يُنبِّهُ إلى بدايةِ الشَّرِّ في هذهِ الأمّةِ، وأنَّ أوَّلَ الشَّرِّ وأعظمَهُ قتلُ عثمانَ، فكانَ المسلمون قبل ذلك مُتَّفقينَ ومُجاهدينَ في سبيلِ اللهِ في عهدِ أبي بكرٍ وعمرَ، وكذلك في أوّلِ صدرِ خلافةِ عثمانَ، ثمَّ حدثت يعني من بعضِ الأشرارِ تحاملٌ على عثمانَ، ودعاوى، ولم يزالوا يُؤذُونَهُ ويسبُّونَه حتّى حاصروهُ في دارهِ، وانتهى أمرُهُ بأن قَتَلوهُ رضي الله عنه صابراً مُحتسباً تالياً لكتاب الله، فعظُمت بذلك الفتنةُ، وتفرَّقَ المسلمونَ وصاروا طائفتين، انقسموا كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلام: "تمرُقُ مارقةٌ من الدِّينِ على حين فُرقةٍ من المسلمين" بالفعل فرقة، صاروا حزبين؛ أهل العراق وأهل الشام، إلى هنا.