الرئيسية/شروحات الكتب/الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي/(29) فصل الذنوب تحدث الفساد في الأرض – فصل الذنوب تطفئ الغيرة
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(29) فصل الذنوب تحدث الفساد في الأرض – فصل الذنوب تطفئ الغيرة

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (
الجوابُ الكافي لِمَن سألَ عن الدّواءِ الشَّافي) لابن القيّم
الدّرس: التَّاسع والعشرون

***    ***    ***    ***

 

– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلِّ اللَّهمَّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. أمَّا بعدُ؛ قالَ العلَّامةُ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ "الجوابِ الكافي لـِمن سألَ عن الدَّواءِ الشَّافي":

فصلٌ 

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهَا تُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْمِيَاهِ وَالْهَوَاءِ، وَالزُّرْوعِ، وَالثِّمَارِ، وَالْمَسَاكِنِ، قَالَ تَعَالَى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الرُّومِ:41]

قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا وَلِيَ الظَّالِمُ سَعَى بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ، فَيَهْلِكُ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، ثُمَّ قَرَأَ: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ الآيةَ [الرُّومِ:41]

ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بَحْرُكُمْ هَذَا، وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ بَحْرٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الرُّومِ:41]، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ لَكُمْ: بَحْرُكُمْ هَذَا، وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا الْبَرُّ فَأَهْلُ الْعَمُودِ، وَأَمَّا الْبَحْرُ فَأَهْلُ الْقُرَى وَالرِّيفِ.

قُلْتُ: وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَاءَ الْعَذْبَ بَحْرًا، فَقَالَ: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [فَاطِرٍ:12]

وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ بَحْرٌ حُلْوٌ وَاقِفٌ، وَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ، وَالْبَحْرُ الْمَالِحُ هُوَ السَّاكِنُ، فَسَمَّى الْقُرَى الَّتِي عَلَيْهَا الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ بِاسْمِ تِلْكَ الْمِيَاهِ.

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الرُّومِ:41] قَالَ: الذُّنُوبُ.

قُلْتُ: أَرَادَ أَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبُ الْفَسَادِ الَّذِي ظَهَرَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي ظَهَرَ هُوَ الذُّنُوبُ نَفْسُهَا فيكونُ قولُهُ: لِيُذِيقَهُمْ [الرُّومِ:41] لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالتَّعْلِيلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ: النَّقْصُ وَالشَّرُّ وَالْآلَامُ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ مَعَاصِي الْعِبَادِ، فَكُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ عُقُوبَةً، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلَّمَا أَحْدَثْتُمْ ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ سُلْطَانِهِ عُقُوبَةً. وفي نسخةٍ: "مِن سلطانِكم".

وَالظَّاهِرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْفَسَادَ الْمُرَادَ بِهِ الذُّنُوبُ وَمُوجِبَاتُهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الرُّومِ:41] فَهَذَا حَالُنَا، وَإِنَّمَا أَذَاقَنَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِنَا، وَلَوْ أَذَاقَنَا كُلَّ أَعْمَالِنَا لَمَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.

وَمِنْ تَأْثِيرِ مَعَاصِي اللَّهِ فِي الْأَرْضِ مَا يَحِلُّ بِهَا مِنَ الْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ، وَيَمْحَقُ بَرَكَتَهَا، وَقَدْ «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

– الشيخ : وإن كانَتْ هذه الحوادثُ لها أسبابٌ كما يقالُ، لها أسبابٌ طبيعيَّةٌ فهي بقدرِ اللهِ لها أسبابٌ طبيعيَّةٌ ولها أسبابٌ من قِبلِ أفعالِ العبادِ، كما يحدث من زلازل وإنْ كانَ لها أسبابٌ طبيعيَّةٌ -كما يذكرون أصحاب الكونيَّات- فهذا لا يمتنعُ أن تكونَ لها أسبابٌ من أفعال العبادِ من الكفر والمعاصي، وهكذا ما يحدثُ في الأرض من فسادِ الأحوالِ وفسادِ الطَّبائعِ وإن كانَ للنَّاس فيه تسبُّب مثل ما يذكرون الآن من أنَّ الحروبَ بالأسلحة الكيماويَّة تحدثُ في الجوِّ وفي الهواء وفي الأرضِ فسادًا وتغييرًا لطبائعِها، وما يُعبَّرُ عنه بــ "فسادِ البيئةِ وتغيُّرِ البيئةِ"، كلُّ هذا بقدر اللهِ، ولأفعالِ العبادِ أعظمُ تأثيرٍ في حدوثِ هذه الشُّرور.

 

– القارئ : وَقَدْ «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى دِيَارِ ثَمُودَ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ دِيَارِهِمْ، وَمِنْ شُرْبِ مِيَاهِهِمْ، وَمِنَ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ آبَارِهِمْ، حَتَّى أَمَرَ أَنْ يُعْلَفَ الْعَجِينُ الَّذِي عُجِنَ بِمِيَاهِهِمْ لِلنَّوَاضِحِ، لِتَأْثِيرِ شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمَاءِ»

– طالب: عندنا أحسنَ الله إليك: حَتَّى أَمَرَ أَنْ لا يُعْلَفَ الْعَجِينُ الَّذِي عُجِنَ

– الشيخ : هذا غلطٌ، أنْ يُعلَفَ. أن يُعلَفَ

– القارئ : ذكرَ المحقِّقُ عندي: في نسخة: أنْ لا يُعلَفَ، وذكرَ تعليقًا عليه قالَ: خطأ

– الشيخ : خطأٌ ظاهرٌ

– القارئ : وَكَذَلِكَ شُؤْمِ تَأْثِيرِ الذُّنُوبِ فِي نَقْصِ الثِّمَارِ وَمَا تُرمى بِهِ مِنَ الْآفَاتِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ قَالَ: وُجِدَتْ فِي خَزَائِنَ بَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ، حِنْطَةٌ الْحَبَّةُ بِقَدْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ، وَهِيَ فِي صُرَّةٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: هَذَا كَانَ يَنْبُتُ فِي زَمَنِ الْعَدْلِ.

وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ أَحْدَثَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ مِنَ الذُّنُوبِ.

وَأَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ الصَّحْرَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْهَدُونَ الثِّمَارَ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ الْآنَ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُهَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ مِنْ قُرْبٍ.

وَأَمَّا تَأْثِيرُ الذُّنُوبِ فِي الصُّوَرِ وَالْخَلْقِ، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ).

ولَمَّا يُطَهِّرُ اللهُ –سبحانهُ وتعالى- الْأَرْضَ مِنَ الظَّلَمَةِ وَالْخَوَنَةِ وَالْفَجَرَةِ، ويُخْرِجُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، وَيَقْتُلُ الْمَسِيحُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَيُقِيمُ الدِّينَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، تُخْرِجُ الْأَرْضُ بَرَكَاتِهَا، وَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ، حَتَّى إِنَّ الْعِصَابَةَ مِنَ النَّاسِ لَيَأْكُلُونِ الرُّمَّانَةَ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، وَيَكُونُ الْعُنْقُودُ مِنَ الْعِنَبِ وَقْرَ بَعِيرٍ، وإنَّ اللِّقْحَةَ الْوَاحِدَةَ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَهَذِهِ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمَّا طَهُرَتْ مِنَ الْمَعَاصِي ظَهَرَتْ فِيهَا آثَارُ الْبَرَكَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي مَحَقَتْهَا الذُّنُوبُ وَالْكُفْرُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ بَقِيَتْ آثَارُهَا سَارِيَةً فِي الْأَرْضِ تَطْلُبُ مَا يُشَاكِلُهَا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ آثَارُ تِلْكَ الْجَرَائِمِ الَّتِي عُذِّبَتْ بِهَا الْأُمَمُ، فَهَذِهِ الْآثَارُ فِي الْأَرْضِ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْمَعَاصِي مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْجَرَائِمِ، فَتَنَاسَبَتْ حكمةُ اللَّهِ وَحُكْمَهُ الْكَوْنِيُّ أَوَّلًا وَآخِرًا

– طالب: تَنَاسَبَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَحُكْمَهُ الْكَوْنِيُّ

– الشيخ : عندك أيش؟

– طالب: تَنَاسَبَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَحُكْمَهُ الْكَوْنِيَّ أَوَّلًا وَآخِرًا

– القارئ : مذكورة عندي: "كلمةُ اللهِ" وذكرَ أنَّها تحريفٌ

– الشيخ : فَتَنَاسَبَتْ؟

– القارئ : حكمةُ اللَّهِ وَحُكْمَهُ الْكَوْنِيَّ أَوَّلًا وَآخِرًا

– الشيخ : هذا الصَّحيح، حكمةُ اللهِ وحكمَه، أيش الخطأ؟

– القارئ : في نسخة: "كلمة اللهِ" وهذه ذكر

– الشيخ : لا، حكمة حكمة

– القارئ : المحقِّق أنَّها تحريفٌ

– الشيخ : وَحُكْمَهُ الْكَوْنِيُّ

– القارئ : فَتَنَاسَبَتْ حكمة اللَّهِ وَحُكْمَهُ الْكَوْنِيَّ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَكَانَ الْعَظِيمُ مِنَ الْعُقُوبَةِ لِلْعَظِيمِ مِنَ الْجِنَايَةِ، وَالْأَخَفُّ لِلْأَخَفِّ، وَهَكَذَا يَحْكُمُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ فِي دَارِ الْبَرْزَخِ وَدَارِ الْجَزَاءِ.

وَتَأَمَّلْ مُقَارَنَةَ الشَّيْطَانِ وَمَحِلَّهُ وَدَارَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَارَنَ الْعَبْدَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ نُزِعَتِ الْبَرَكَةُ مِنْ عُمُرِهِ وَعَمَلِهِ وَقَوْلِهِ وَرِزْقِهِ، وَلَمَّا أَثَّرَتْ طَاعَتُهُ فِي الْأَرْضِ مَا أَثَّرَتْ نُزِعَتِ الْبَرَكَةُ مِنْ كُلِّ مَحِلٍّ ظَهَرَتْ فِيهِ طَاعَتُهُ، وَكَذَلِكَ مَسَكْنُهُ لَمَّا كَانَ الْجَحِيمَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنَ الرَّوحِ وَالرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ.

فَصْلٌ: وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ:

أَنَّهَا تُطْفِئُ مِنَ الْقَلْبِ نَارَ الْغَيْرَةِ الَّتِي هِيَ لِحَيَاتِهِ وَصَلَاحِهِ كَالْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ لِحَيَاةِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، فَالْغَيْرَةُ حَرَارَتُهُ وَنَارُهُ الَّتِي تُخْرِجُ مَا فِيهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، كَمَا يُخْرِجُ الْكِيرُ خُبْثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ، وَأَشْرَفُ النَّاسِ وَأَعْلَاهُمْ هِمَّةً أَشَدُّهُمْ غَيْرَةً عَلَى نَفْسِهِ وَخَاصَّتِهِ وَعُمُومِ النَّاسِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَغْيَرَ الْخَلْقِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَشَدَّ غَيْرَةً مِنْهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي)

وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أحدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ)

وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ)

فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ الْغَيْرَةِ الَّتِي أَصْلُهَا كَرَاهَةُ الْقَبَائِحِ وَبُغْضُهَا، ومَحَبَّةُ الْعُذْرِ الَّذِي يُوجِبُ كَمَالَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ -مَعَ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ- يُحِبُّ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ عَبْدُهُ، وَيَقْبَلَ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ عَبِيدَهُ بِارْتِكَابِ مَا يَغَارُ مِنَ ارْتِكَابِهِ حَتَّى يُعْذِرَ إِلَيْهِمْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا، وَهَذَا غَايَةُ الْمَجْدِ وَالْإِحْسَانِ، وَنِهَايَةُ الْكَمَالِ.

فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يشْتَدُّ غَيْرَتُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ تَحْمِلُهُ شِدَّةُ الْغَيْرَةِ عَلَى سُرْعَةِ الْإِيقَاعِ وَالْعُقُوبَةِ مِنْ غَيْرِ إِعْذَارٍ مِنْهُ، وَمِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لِعُذْرِ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عُذْرٌ وَلَا تَدَعُهُ شِدَّةُ الْغَيْرَةِ أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَهُ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَقْبَلُ الْمَعَاذِيرَ يَحْمِلُهُ عَلَى قَبُولِهَا قِلَّةُ الْغَيْرَةِ حَتَّى يَتَوَسَّعَ فِي طُرُقِ الْمَعَاذِيرِ، وَيَرَى عُذْرًا مَا لَيْسَ بِعُذْرٍ، حَتَّى يَعْذِرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْقَدَرِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا غَيْرُ مَمْدُوحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّهَا اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يَبْغَضُهَا اللَّهُ، فَالَّتِي يَبْغَضُهَا اللَّهُ الْغَيْرَةُ في غَيْرِ رِيبَةٍ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وَإِنَّمَا الْمَمْدُوحُ اقْتِرَانُ الْغَيْرَةِ بِالْعُذْرِ، فَيَغَارُ فِي مَحِلِّ الْغَيْرَةِ، وَيَعْذُرُ فِي مَوْضِعِ الْعُذْرِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ الْمَمْدُوحُ حَقًّا.

وَلَمَّا جَمَعَ -سُبْحَانَهُ- صِفَاتِ الْكَمَالِ كُلَّهَا كَانَ أَحَقَّ بِالْمَدْحِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يَبْلُغُ أَحَدٌ أَنْ يَمْدَحَهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ، بَلْ هُوَ كَمَا مَدَحَ نَفْسَهُ وَأَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، فَالْغَيُورُ قَدْ وَافَقَ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ- فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَمَنْ وَافَقَ اللَّهَ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ قَادَتْهُ تِلْكَ الصِّفَةُ إِلَيْهِ بِزِمَامِهِ، وَأَدْخَلَتْهُ عَلَى رَبِّهِ، وَأَدْنَتْهُ مِنْهُ، وَقَرَّبَتْهُ مِنْ رَحْمَتِهِ

– الشيخ : من جنس: (اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ) أنتَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ، ورحيمٌ يحبُّ الرُّحماءَ، (إنَّما يرحمُ اللهُ مِن عبادِهِ الرُّحماءَ) فاللهُ يحبُّ من عباده أنْ يتخلَّقوا بما هو من صفاته، ومعلومٌ أنَّ هذا مجرَّدُ اشتراكٍ في اللَّفظ، وأصلُ المعنى وإلَّا فالعبدُ لا يشاركُ اللهَ في شيءٍ من صفاته والرَّبُّ لا يشاركُ العبدَ في شيءٍ من صفاته، بل للهِ من الرَّحمةِ ما يختصُّ به، وللعبدِ من الرَّحمة ما يختصُّ به، وله من العفو ما يختصُّ به وهكذا الغيرة، فللهِ الغيرةُ، غيرةٌ مختصَّةٌ به، والعبدُ الغيورُ له غيرةٌ تختصُّ به، فليس.. فهذا كلُّه لا يستلزمُ التَّشبيهَ خلافًا لمن ظنَّ ذلك. اختم، طويل؟

– القارئ : باقي صفحة.

فَالْغَيُورُ قَدْ وَافَقَ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ- فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَمَنْ وَافَقَ اللَّهَ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ قَادَتْهُ تِلْكَ الصِّفَةُ إِلَيْهِ بِزِمَامِهِ، وَأَدْخَلَتْهُ عَلَى رَبِّهِ، وَأَدْنَتْهُ مِنْهُ، وَقَرَّبَتْهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَصَيَّرَتْهُ مَحْبُوبًا له، فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- رَحِيمٌ يُحِبُّ الرُّحَمَاءَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، عَلِيمٌ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ، قَوِيٌّ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ، وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، حييٌّ حَتَّى يُحِبَّ أَهْلَ الْحَيَاءِ، جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالِ، وتْرٌ يُحِبُّ أَهْلَ الْوَتْرِ.

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي إِلَّا أَنَّهَا تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا ضِدَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَتَمْنَعُهُ مِنَ الِاتِّصَافِ بِهَا لَكَفَى بِهَا عُقُوبَةً، فَإِنَّ الْخَطْرَةَ تَنْقَلِبُ وَسْوَسَةً، وَالْوَسْوَسَةُ تَصِيرُ إِرَادَةً، وَالْإِرَادَةُ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً، ثُمَّ تَصِيرُ فِعْلًا، ثُمَّ تَصِيرُ صِفَةً لَازِمَةً وَهَيْئَةً ثَابِتَةً رَاسِخَةً، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ مِنْهُمَا كَمَا يَتَعَذَّرُ عليه الْخُرُوجُ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ كُلَّمَا اشْتَدَّتْ مُلَابَسَتُهُ الذُّنُوبَ أَخْرَجَتْ مِنْ قَلْبِهِ الْغَيْرَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعُمُومِ النَّاسِ، وَقَدْ تَضْعُفُ فِي الْقَلْبِ جِدًّا حَتَّى لَا يَسْتَقْبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَبِيحَ لَا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ دَخَلَ فِي بَابِ الْهَلَاكِ.

وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِقْبَاحِ، بَلْ يُحَسِّنُ الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ لِغَيْرِهِ، وَيُزَيِّنُهُ لَهُ، وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ، وَيَسْعَى لَهُ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الدَّيُّوثُ أَخْبَثَ خَلْقِ اللَّهِ، وَالْجَنَّةُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مُحَلِّلُ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ لِغَيْرِهِ وَمُزَيِّنُهُ لَهُ، فَانْظُرْ مَا الَّذِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ قِلَّةُ الْغَيْرَةِ!

وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ الْغَيْرَةُ، وَمَنْ لَا غَيْرَةَ لَهُ لَا دِينَ لَهُ، فَالْغَيْرَةُ تَحْمِي الْقَلْبَ فَتَحْمِي لَهُ الْجَوَارِحَ، فَتَدْفَعُ السُّوءَ وَالْفَوَاحِشَ، وَعَدَمُ الْغَيْرَةِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، فَتَمُوتُ لَهُ الْجَوَارِحُ؛ فَلَا يَبْقَى عِنْدَهَا دَفْعٌ الْبَتَّةَ.

وَمَثَلُ الْغَيْرَةِ فِي الْقَلْبِ مَثَلُ الْقُوَّةِ الَّتِي تَدْفَعُ الْمَرَضَ وَتُقَاوِمُهُ، فَإِذَا ذَهَبَتِ الْقُوَّةُ وَجَدَ الدَّاءُ الْمَحِلَّ قَابِلًا، وَلَمْ يَجِدْ دَافِعًا، فَتَمَكَّنَ، فَكَانَ الْهَلَاكُ، وَمِثْلُهَا مِثْلُ صَيَاصِيِّ الْجَامُوسِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ، فَإِذَا كُسِرَتْ طَمِعَ فِيهَا عَدُوُّهُ.

انتهى

– الشيخ : نسألُ اللهَ.. الغيرةُ يفسِّرُها الغضبُ للهِ، فالغيرةُ تتضمَّنُ الغضبَ، الإنسانُ السَّويُّ المستقيمُ، يغارُ على نفسه فلا يسمحُ لنفسه باقتحامِ القبائحِ، ويغارُ على كذلك على حرماته وعلى أهلِه وخاصَّته أن يتدنَّسوا بشيءٍ من القبائح، بل يكون كارهًا لا يقرُّ أحدًا، ولهذا الدَّيوث هو ميِّتُ الغيرةِ، وهو الَّذي يقرُّ الخنا في أهله، ميِّت الغيرةِ، يقول الشَّيخ في هذا الفصل: إنَّ من آثار المعاصي موتُ الغيرة، فيُعاقَبُ الإنسانُ بسبب ارتكابِه لبعض الذُّنوب أنْ يفقدَ الغيرةَ ولا يكونُ عندَه استقباحٌ للقبائح ولا كراهةٌ لها من نفسِه ولا من غيره، وهذا من أقبحِ الأحوال، فقدُ الغيرةِ من أقبح الصِّفات، فالغيرةُ شرفٌ وفضيلةٌ وضدُّها الرِّضا والتَّهاونُ والاستسهالُ، الاستسهالُ للذُّنوب والاستسهالُ للقبائح، نعوذُ بالله من ذلك.

 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :متفرقات