بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس السّابع والأربعون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين، اللهمَّ متِّعْ شيخَنا على طاعتِك واغفرْ لنا وله وللمسلمين.
– الشيخ: جزاكَ اللهُ خيرًا.
– القارئ: قال شيخُ الإسلامِ رحمنَا اللهُ وإيّاهُ ووالدِينا والمسلمين:
والجهميَّةُ النفاةُ كُلُّهُمْ مُفْتَرُونَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد
– الشيخ: الجهميَّةُ النفاةُ، كلمةُ النُّفاةُ هذه ما لها مفهومٌ، يعني ما في جهميةٌ غيرُ نُفاةٍ، الجهميةُ كلُّهم نفاةٌ، كلُّهم مُعطّلةٌ، كلُّهم ينفونَ أسماءَ اللهِ وصفاتِه [….] نعم، بعدَه، كُلُّهُمْ مُفْتَرُونَ، بعده.
– القارئ: كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إنَّمَا يَقُودُونَ قَوْلَهُمْ إلَى فِرْيَةٍ عَلَى اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِهِمْ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ هُمْ أَعْظَمُ افْتِرَاءً مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَحِلُّ فِيهِ
– الشيخ: شو [ما] يقول؟
– القارئ: كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: إنَّمَا يَقُودُونَ قَوْلَهُمْ إلَى فِرْيَةٍ عَلَى اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِهِمْ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ.
– الشيخ: إشارةٌ إلى الاتحاديّةِ، وهؤلاءِ إشارةٌ إلى القائلين بالوحدةِ، وحدةِ الوجودِ، لقيت شيئا يا محمّد؟
– طالب: نعم في الموطّأ يقولُ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: عَدَلَ إِلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
وَأَنَا نَازِلٌ تَحْتَ سَرْحَةٍ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَقَالَ: مَا أَنْزَلَكَ تَحْتَ هَذِهِ السَّرْحَةِ؟ فَقُلْتُ: أَرَدْتُ ظِلَّهَا. فَقَالَ: هَلْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: لَا مَا أَنْزَلَنِي إِلَّا ذَلِكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنًى وَنَفَحَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فَإِنَّ هُنَاكَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ السَّرَرُ بِهِ شَجَرَةٌ سارَ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا).
– الشيخ: لا أقول: سارَ ولَّا صارَ بالصاد؟
– طالب: بس عندك.
– الشيخ: اللهُ أعلمُ، لا إله إلا الله، نعم يا شيخ.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم. وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِهِمْ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ هُمْ أَعْظَمُ افْتِرَاءً مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ يَحِلُّ فِيهِ.
وَهَؤُلَاءِ يَجْهلُونَ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ.
– الشيخ: وَهَؤُلَاءِ يُجَهِّلُونَ.
– القارئ: يَجْهلونَ.
– الشيخ: لا، يُجَهِّلُونَ، يُجَهِّلُونَ، اقرأ.
– القارئ: وَهَؤُلَاءِ يُجَهِّلُونَ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ أَوْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ؛ وَهُوَ أَنَّ الْخَالِقَ اتَّحَدَ مَعَ الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ شَيْئَانِ مُتَبَايِنَانِ ثُمَّ
– الشيخ: يا سلام. يقول: وحدةُ الوجودِ غيرُ القولِ بالاتحادِ، فالقائلونَ بوحدةِ الوجودِ يُجَهِّلُونَ القائلينَ بالحلولِ وبالاتحادِ.
– القارئ: وَهُوَ أَنَّ الْخَالِقَ اتَّحَدَ مَعَ الْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ شَيْئَانِ مُتَبَايِنَانِ ثُمَّ اتَّحَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى: مِنْ اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ مَعَ النَّاسُوتِ، وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ وُجُودٌ لِغَيْرِهِ حَتَّى يَتَّحِدَ مَعَ وُجُودِهِ، وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ تَنَاقُضًا؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا ثَمَّ غَيْرٌ وَلَا سِوَى. وَتَقُولُ السَّبْعِينِيَّةُ: لَيْسَ إلَّا اللَّهُ بَدَلَ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ لَا يَرَوْنَ هَذَا. فَإِذَا كَانَ مَا ثَمَّ غَيْرٌ وَلَا سِوَى فَمَنْ الْمَحْجُوبُ وَمَنْ الْحَاجِبُ؟ وَمَنْ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْجُوبِ وَعَمَّ حُجِبَ؟ فَقَدْ أَثْبَتُوا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: قَوْمٌ مَحْجُوبُونَ وَقَوْمٌ لَيْسُوا بِمَحْجُوبِينَ وَأَمْرٌ انْكَشَفَ لِهَؤُلَاءِ وَحُجِبَ عَنْ أُولَئِكَ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ مَا ثَمَّ اثْنَانِ وَلَا وُجُودَانِ؟ كَمَا حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَالَ للتلمساني: فَعَلَى قَوْلِكُمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ؟
– الشيخ: أعوذُ باللهِ، أعوذُ باللهِ.
– القارئ: قَالَ: نَعَمْ الْجَمِيعُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ؛ لَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا: حَرَامٌ، فَقُلْنَا: حَرَامٌ عَلَيْكُمْ فَقِيلَ لَهُمْ: فَمَنْ الْمُخَاطِبُ لِلْمَحْجُوبِينَ أَهُوَ هُمْ أَمْ غَيْرُهُمْ؟ فَإِنْ كَانُوا هُمْ فَقَدْ حَرُمَ عَلَى نَفْسِهِ لما زَعَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ دُونَهُ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَهُ فَقَدْ أَثْبَتَ غيرَين وَعِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ غَيْرٌ.
وَهَؤُلَاءِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْوَاحِدُ بِالنَّوْعِ بِالْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: الْوُجُودُ وَاحِدٌ، كَمَا يُقَالُ: الْإِنْسَانِيَّةُ وَاحِدَةٌ والحيوانية وَاحِدَةٌ، أَيْ: يَعْنِي وَاحِدٌ كُلِّيٌّ، وَهَذَا الْكُلِّيُّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ، فَظَنُّوا هَذَا الْكُلِّيَّ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ، ثُمَّ ظَنُّوهُ هُوَ اللَّهُ، وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ كُلِّيٌّ مَعَ كَوْنِهِ كُلِّيًّا، وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلِّيًّا فِي الذِّهْنِ.
وَإِذَا قُدِّرَ فِي الْخَارِجِ كُلِّيٌّ فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ وَقَائِمٌ بِهَا؛ لَيْسَ هُوَ مُتَمَيِّزًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، فَحَيَوَانِيَّةُ الْحَيَوَانِ وَإِنْسَانِيَّةُ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ قُدِّرَتْ مُعَيَّنَةً أَوْ مُطْلَقَةً هِيَ صِفَةٌ لَهُ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ مُبْدِعَةً لَهُ، وَلَوْ قُدِّرَ وجُودُهَا مُجَرَّدًا عَنْ الْعِيَانِ عَلَى رَايِ مَنْ أَثْبَتَ "الْمُثُلَ الأفلاطونية" فَتَثْبُتُ الْمَاهِيَّاتُ الْكُلِّيَّةُ مُجَرَّدَةً عَنْ الْمَوْصُوفَاتِ، وَيُدَّعَى أَنَّهَا قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ مِثْلُ إنْسَانِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ وَحَيَوَانِيَّةٍ مُجَرّدَةٍ، وَهَذَا خَيَالٌ بَاطِلٌ.
وَهَذَا الَّذِي جَعَلَهُ مُجَرَّدًا هُوَ مُجَرَّدٌ فِي الذِّهْنِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ كُلِّيٌّ مُجَرَّدٌ، وَإِذَا قُدِّرَ ثُبُوتُ كُلِّيٍّ مُجَرَّدٍ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ مُسَمَّى الْوُجُودِ فَهَذَا يَتَنَاوَلُ وُجُودَ الْمُحْدَثَاتِ كُلِّهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ وُجُودَ الْقَدِيمِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مُبْدِعًا لِشَيْءِ وَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ إذْ لَيْسَ وَصْفُهُ بِذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ جَاهِلٌ مَيِّتٌ، وَالْخَالِقُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْخَالِقُ؛ فَهَذَا غَيْرُ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ الْمَخْلُوقَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ وُجُودَانِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ، وَأَحَدُهُمَا مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ فَيَكُونُ الْآخَرُ الْخَالِقُ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ، وَلَا يُمْكِنُ جَحْدُ وُجُودِ الْأَعْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ وَلَكِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ الْمُغَيَّبَاتِ كَمَا يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ فَيَظُنُّ أَنَّ مَا لَمْ يَشْهَدْهُ قَدْ عُدِمَ فِي نَفْسِهِ وَفَنِيَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَا عُدِمَ وَفَنِيَ شُهُودُهُ لَهُ وَعِلْمُهُ بِهِ وَنَظَرُهُ إلَيْهِ، فَالْمَعْدُومُ الْفَانِي صِفَةُ هَذَا الشَّخْصِ، وَإِلَّا فَالْمَوْجُودَاتُ فِي نَفْسِهَا بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْمَعْدُومِ. وَعَدَمُ الْمَشْهُودِ لَيْسَ شُهُودًا لِلْعَدَمِ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْحَالَ يَعْتَرِي كَثِيرًا مِنْ السَّالِكِينَ يَغِيبُ أَحَدُهُمْ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا فَنَاءً وَاصْطِلَامًا، وَهَذَا فَنَاءٌ عَنْ شُهُودِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لَا أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا فَنِيَتْ، وَمَنْ قَالَ: فَنِيَ مَا لَمْ يَكُنْ وَبَقِيَ مَا لَمْ يَزَلْ، فَالتَّحْقِيقُ -إذَا كَانَ صَادِقًا- أَنَّهُ فَنِيَ شُهُودُهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ، وَبَقِيَ شُهُودُهُ لَمَّا لَمْ يَزَلْ لَا أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ فَنِيَ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ بَاقٍ مَوْجُودٌ؛ وَلَكِنْ يَتَوَهَّمُونَ إذَا لَمْ يَشْهَدُوهُ أَنَّهُ قَدْ عُدِمَ فِي نَفْسِهِ. وَمِنْ هُنَا دَخَلَتْ طَائِفَةٌ فِي الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ؛ فَأَحَدُهُمْ قَدْ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَيَسْتَغْرِقَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى لَهُ مَذْكُورٌ مَشْهُودٌ لِقَلْبِهِ إلَّا اللَّهُ، وَيَفْنَى ذِكْرُهُ وَشُهُودُهُ لِمَا سِوَاهُ، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَدْ فَنِيَتْ وَأَنَّ نَفْسَهُ فَنِيَتْ، حَتَّى يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَأَنَّ الْوُجُودَ هُوَ اللَّهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ غَلَطُ أَبِي يَزِيدَ وَنَحْوِهِ حَيْثُ قَالَ: مَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ.
وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِالْفَنَاءِ عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ.
– الشيخ: إلى هنا يا أخي.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليك.