الرئيسية/شروحات الكتب/كتاب الفرقان بين الحق والباطل/(52) فصل ثم حدث في اخر عصر الصحابة القدرية “قوله من رأى منكم منكرا فليغيره”

(52) فصل ثم حدث في اخر عصر الصحابة القدرية “قوله من رأى منكم منكرا فليغيره”

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس الثّاني والخمسون

***    ***    ***    ***
 
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، اللهمَّ متِّعْ شيخَنا على طاعتِكَ واغفرْ لنا وله وللمسلمين.
– الشيخ: جزاكَ اللهُ خيرًا.
– القارئ: قال شيخُ الإسلامِ رحمنَا اللهُ تعالى وإيَّاهُ ووَالِدِينا:
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ: (مَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)، وَمَيِّتُو الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا.
– الشيخ: نسألُ اللهَ العافيةَ.
– القارئ: وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
– الشيخ: في الكتاب في تحقيق، تخريج جاءت
– القارئ: على هذه الكلمةِ يا شيخ: لا.. لكنْ على الحديثِ اللي قبل.
– الشيخ:
نعم الحديثُ اللي بعدَه.
– القارئ: اللي نهايتَه يا شيخُ: (الإيمانِ حبَّةُ خردلٍ)؟
– الشيخ: إي إي نعم، إي نعم.
– القارئ: يقولُ هذا يا شيخُ: رواهُ مسلمٌ في "بابِ بيانِ كونِ النهي عن المنكرِ من الإيمانِ" عن ابنِ مسعودٍ.
– الشيخ: طيّبْ، أحسنت.

– القارئ: وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (إنَّ الْفِتْنَةَ تُعْرَضُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا؛ فَأَيُّمَا قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، وَأَيُّمَا قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، حَتَّى تَبْقَى الْقُلُوبُ عَلَى قَلْبَيْنِ: قَلْبٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا لَا يَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، وَقَلْبٌ أَسْوَدُ مِرْبَاٌد لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ).
فَهَؤُلَاءِ الْعُبَّادُ الزُّهَّادُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ بِآرَائِهِمْ وَذَوْقِهِمْ وَوَجْدِهِمْ لَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُنْتَهَاهُمْ اتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُمْ هِيَ قَوْلَ "الجهمية الْمُجْبِرَةِ" فَرَأَوْا أَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ اشْتَرَكَتْ فِي الْمَشِيئَةِ، وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ هَذَا وَيَرْضَاهُ، وَهَذَا يُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمَعْرُوفَ وَيُبْغِضُ الْمُنْكَر؛ فَإِذَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا نُكِتَ فِي قُلُوبِهِمْ نُكَتٌ سُودٌ فَسُوِّدَ قُلُوبُهُمْ؛ فَيَكُونُ الْمَعْرُوفُ مَا يَهْوَوْنَهُ وَيُحِبُّونَهُ وَيَجِدُونَهُ وَيَذُوقُونَهُ، وَيَكُونُ الْمُنْكَرُ مَا يَهْوَوْنَ بُغْضَهُ وَتَنْفِرُ عَنْهُ قُلُوبُهُمْ؛ كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة} [المدثر:49-50]، وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي هَؤُلَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مَنْ يَنْفِرُونَ عَنْ الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ كَمَا تَنْفِرُ الْحُمُرُ الْمُسْتَنْفِرَةُ الَّتِي تَفِرُّ مِنْ الرُّمَاةِ وَمِنْ الْأَسَدِ؛ وَلِهَذَا يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ إذَا قِيلَ لَهُمْ قَالَ الْمُصْطَفَى نَفَرُوا.
وَكَانَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ بْنُ مِعْضَادٍ يَقُولُ لِمَنْ رَآهُ مِنْ هَؤُلَاءِ كاليونسية وَالْأَحْمَدِيَّةِ: يَا خَنَازِيرُ يَا أَبْنَاءَ الْخَنَازِيرِ! مَا أَرَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَكُمْ رَائِحَةً بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52]، كُلٌّ مِنْهُمْ يُرِيدُ أَنْ يُحَدِّثَهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ؛ فَيَأخُذُ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةِ الرَّسُولِ، وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ قَوْلَ "الْقَدَرِيَّةِ الجهميةِ الْمُجْبِرَةِ" أَعْظَمُ مُنَاقَضَةً لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَوْلِ النُّفاةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُظْهِرِينَ لِهَذَا فِي زَمَنِ السَّلَفِ؛ بَلْ كُلَّمَا ضَعُفَ نُورُ النُّبُوَّةِ أَظْهَرُوا حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، وَمُنْتَهَاهُمْ الشِّرْكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ؛ وَهَذَا جِمَاعُ الْكُفْرِ كَمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ وَتَصْدِيقَ الرُّسُلِ جِمَاعُ الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا صَارُوا مَعَ أَهْلِ الْكُفْرِ الْمَحْضِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ "الْقَدَرِيَّةَ الْمُجْبِرَةِ" مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا أَنَّ "النَّافِيَةَ" مِنْ جِنْسِ الْمَجُوسِ، وَأَنَّ الْمُجْبِرَةِ مَا عِنْدَهُمْ سِوَى الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالنَّافِيَةُ تَنْفِي الْقُدْرَةَ الْعَامَّةَ وَالْمَشِيئَةَ التَّامَّةَ، وَتَزْعُمُ أَنَّهَا تُثْبِتُ الْحِكْمَةَ وَالْعَدْلَ، وَفِي الْحَقِيقَةِ كِلَاهُمَا نَافٍ لِلْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ. وَأُولَئِكَ يَتَعَلَّقُونَ بِقَوْلِهِ جلَّ وعلا: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23]، وقولِه: اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18]. وَهَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ إثْبَاتًا لِقُدْرَتِهِ؛ لَا نَفْيًا لِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ؛ بَلْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ؛ فَلَا أَحَدَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَارِضَهُ إذَا شَاءَ شَيْئًا؛ بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مَا يَشَاءُ؛ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَشَاءُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

– الشيخ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
– القارئ: فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (لَا يَقُولَن أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ؛ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ)، وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُقَالُ: "افْعَلْ كَذَا إنْ شِئْت" لِمَنْ قَدْ يَفْعَلُهُ مُكْرَهًا؛ فَيَفْعَلُ مَا لَا يُرِيدُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا مُكْرِهَ لَهُ؛ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا يَشَاءُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وقولُه: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، وَنَحْوُ ذَلِكَ: هُوَ ِإِثْبَاتٌ لقُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ النفاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَمْ يَشَأ كُلَّ مَا كَانَ؛ بَلْ لَا يَشَاءُ إلَّا الطَّاعَةَ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ شَاءَهَا وَلَمْ تَكُنْ مِمَّنْ عَصَاهُ، وَلَيْسَ هُوَ قَادِرًا عِنْدَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ لَا مُطِيعًا وَلَا عَاصِيًا. فَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَحْتَجُّ بِهَا الْمُجْبِرَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ النفاة، كَمَا أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا النفاة الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَكَمٌ عَادِلٌ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْخَلْقَ عَبَثًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَلَا هَذِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ؛ بَلْ مَا تَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْأُخْرَى، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ وَبَعْضُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَمَارَوْنَ فِي الْقَدَرِ. هَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا؟ وَهَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا؟ فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَمْ إلَى هَذَا دُعِيتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ؟).
وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي بَعْضِ مُنَاظَرَتِهِ لِمَنْ صَارَ يَضْرِبُ الْآيَاتِ بَعْضَهَا بِبَعْضِ: إنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ هَذَا. فَمَنْ دَفَعَ نُصُوصًا يَحْتَجُّ بِهَا غَيْرُهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا؛ بَلْ آمَنَ بِمَا يَحْتَجُّ صَارَ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ.
وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ، مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ، مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَرَكُوا كُلُّهُمْ بَعْضَ النُّصُوصِ وَهُوَ مَا يَجْمَعُ تِلْكَ الْأَقْوَالَ؛ فَصَارُوا كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14]. فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ بَعْضَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ؛ إذْ لَمْ يَبْقَ هُنَا حَقٌّ جَامِعٌ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ؛ بَلْ كما قال تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53]، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْحَقِّ إلَّا مَا وَافَقُوا فِيهِ الرَّسُولَ؛ وَهُوَ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ شَرْعِهِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ، وَأَمَّا مَا ابْتَدَعُوهُ فَكُلُّهُ ضَلَالَةٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)، وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْبِدْعَةُ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِمَّا أَخَذُوا بِهِ مِنْ الشِّرْعَةِ، يَجْعَلُونَ تِلْكَ هِيَ "الْأُصُولَ الْعَقْلِيَّةَ"؛ كَالْقَدَرِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ والنفاة، فَكِلَاهُمَا يَجْعَلُ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأُصُولِ -وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْعَقْلِيَّاتِ- أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِمَّا تَلَقَّوْهُ مِنْ الشَّرْعِ؛ فَالْمُعْتَزِلَةُ يَجْعَلُونَ الْعَقْلِيَّاتِ هِيَ الْخَبَرِيَّاتِ وَالْأَمْرِيَّاتِ جَمِيعًا؛ كَالْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لَكِنْ يَقُولُونَ أَيْضًا: إنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَهَا، وَلَكِنْ لَهُمْ فِيهَا تَخْلِيطٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَكَذَلِكَ مَا ابْتَدَعُوهُ فِي الْخَبَرِيَّاتِ؛ كَإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِطَرِيقَةِ الْأَعْرَاضِ وَاسْتِلْزَامِهَا لِلْأَجْسَامِ، وَهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرَ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ "التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ".
وَجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ هُمْ أَعْظَمُ نَفْيًا مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَنْفُونَ الْأَسْمَاءَ مَعَ الصِّفَاتِ، وَهُمْ رُءُوسُ الْمُجْبِرَةِ، وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَافَقَتْهُمْ فِي الْجَبْرِ؛ لَكِنْ نَازَعُوهُمْ نِزَاعًا لَفْظِيًّا فِي إثْبَاتِ الْكَسْبِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَقْلِيَّةَ -وَهِيَ الْعِلْمُ بِمَا يَجِبُ لِلرَّبِّ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ- هِيَ أَعْظَمُ الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا، وَأَنَّهُمْ بَرَزُوا بِهَا عَلَى الصَّحَابَةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ

– الشيخ: لا إله إلا الله. معرفةُ اللهِ هي أجلُّ المعارفِ، قالوا: لأنَّ شرفَ العلمِ يتبعُ شرفَ المعلومِ. شوفْ المعلومَ ما منزلتَه فالعلمُ به كذلك، ميزانٌ صحيحٌ؛ لأنَّ حكمَ العلمِ أو فضلَ العلمِ بحسبِ فضلِ المعلومِ. فالمعلومُ في العلمِ الإلهي هو اللهُ تعالى الذي هو أفضلُ من كلِّ شيءٍ، وأشرفُ من كلِّ شيءٍ، وأعلى وأكرمُ من كلِّ شيءٍ، فالعلمُ به هو أشرفُ العلومِ على الإطلاقِ. فمعرفةُ اللهِ بأسمائِه وصفاتِه هذه أجلُّ المعارفِ، ولهذا يَتفاضلُ في الكلامِ كذلك، بحسبِ مضمونِه ومَدلُولِه.
والمعارفُ التي جاءتْ بها الرسلُ هي ثلاثٌ: تعريفُ العبادِ بربّهم، تعريفُهم بالطريقِ الموصلِ إليه؛ وهي الشرائعُ والأوامرُ والنواهي، وتعريفُهم بالمصيرِ وهو يومُ القيامةِ وما فيه من الجنةِ والنارِ، هذه المعارفُ الثلاثُ هي أصولُ العلمِ، علمِ الأنبياءِ.
 
– القارئ: وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَقْلِيَّةَ -وَهِيَ الْعِلْمُ بِمَا يَجِبُ لِلرَّبِّ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ- هِيَ أَعْظَمُ الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا، وَأَنَّهُمْ بَرَزُوا بِهَا عَلَى الصَّحَابَةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُعَلِّمْهَا الصَّحَابَةَ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ وَكَلَهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأُمَّةِ، وَإِمَّا لِكَوْنِ الصَّحَابَةِ كَانُوا مَشْغُولِينَ عَنْهَا بِالْجِهَادِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ قَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَلِّغُوهُ وَلَمْ يَشْغَلْهُمْ بِالْأَدِلَّةِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ. وَهَذِهِ هِيَ "الْأُصُولُ الْعَقْلِيَّةُ" الَّتِي يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا هُمْ وَمَنْ يُوَافِقُهُمْ؛ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي، تَبَعًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَمْثَالِهِ، وَهُوَ وَأَتْبَاعُهُ يُنَاقِضُونَ عَبْدَ الْجَبَّارِ وَأَمْثَالُهُ، كَمَا نَاقَضَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَمْثَالُهُ أَبَو عَلِيٍّ وَأَبَو الْقَاسِمِ.
وَكُلُّ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الدِّينِ وَيُقَدِّمُونَهَا عَلَى الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا يُعَظِّمُهُ الْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ وَالْفُقَرَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ مِنْ الْخَوَارِقِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَيُفَضِّلُونَهَا عَلَى الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْعِبَادَاتُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الَّتِي مَعَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَتِلْكَ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِبَادَاتِ؛ حَتَّى يَقُولُوا: نِهَايَةُ الصُّوفِيِّ ابْتِدَاءُ الْفَقِيهِ، وَنِهَايَةُ الْفَقِيهِ ابْتِدَاءُ الْمُوَلَّهِ. وَكَذَلِكَ صَاحِبُ "مَنَازِلِ السَّائِرِينَ" يَذْكُرُ فِي كُلِّ بَابٍ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ: فَالْأُولَى: وَهِيَ أَهْوَنُهَا عِنْدَهُمْ تَوَافِقُ الشَّرْعَ فِي الظَّاهِرِ، وَالثَّانِيَةُ: قَدْ تُوَافِقُ الشَّرْعَ، وَقَدْ لَا تُوَافِقُ، وَالثَّالِثَةُ: فِي الْأَغْلَبِ تُخَالِفُ؛ لَا سِيَّمَا فِي "التَّوْحِيدِ" و "الْفَنَاءِ" و "الرَّجَاءِ" وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي ابْتَدَعُوهُ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَهُمْ مِمَّا وَافَقُوا فِيهِ الرُّسُلَ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُبَّادِ يُفَضِّلُ نَوَافِلَهُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَهَذَا كَثِيرٌ َاَللَّهُ أَعْلَمُ آخره. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
– الشيخ:
جزاكَ اللهُ خيرًا ونفعنَا اللهُ وإيّاكَ بما علَّمَنا، لا إله إلا الله. هذا كتابٌ نافعٌ؛ لأنهُ يتضمَّنُ يعني تحريرَ هذه المذاهبِ والموازنةَ بينَها، وما خالفتْ فيه أو وافقتْ فيه الشرعَ؛ فإنَّ طوائفَ المتكلمينَ وغيرَهم عندَهم خليطُ حقٍّ وباطلٍ، فلا بدَّ من الفرقانِ ومعرفةِ ما عند هؤلاءِ وهؤلاءِ من الحقِّ، وأهلُ السنةِ والجماعةِ يتميَّزونَ عن سائرِ الطوائفِ بأنَّ مذهبَهم حَقٌّ خالصٌ، أمَّا تلك الطوائفِ فما معهم من الحقِّ مخلوطٌ بباطلٍ لعلَّهُ أكثرُ ممّا معهم من الحقِّ، فالباطلُ الذي معهم أكثرُ لكنَّهم يعني عندَهم جوانبُ، وشيخُ الإسلامِ يُنبِّهُ عليها، وهذا من الإنصافِ في الحكمِ على الناسِ، وإِذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا [الأنعام:152]، فبعضُ هذه الطوائفِ أقربُ إلى الحقِّ من بعضٍ، وبعضُها شرٌّ من بعضٍ، ومعرفةُ الباطلِ علمٌ نافعٌ؛ لأنَّ من عَرَفَ الباطلَ حَذِرهُ وتجنَّبهُ، وأكثرُ ما يقعُ الغالطونَ بالغلطِ والباطلِ بسببِ الجهلِ، فالعلمُ نورٌ يحصلُ له، يحصلُ للعبدِ به الفُرقانُ، وهذا الكتابُ سمَّاهُ مُؤلِّفُهُ "الفرقانَ بين الحقِّ والبطلان"، نسألُ اللهَ أنْ يرزقنا وإيَّاكم معرفةَ الحقِّ واتِّبَاعِهُ، ومعرفةَ الباطلِ واجتنابِهُ، وألَّا يجعلَه مُلتَبِسًا علينا فَنَضِلَّ.
 
 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة