بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح (رسالة ابن القيّم إلى أحد إخوانه)
الدّرس الرّابع
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ الله ربّ العالمين، الحمدُ للهِ ربّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على المبعوث رحمةً للعالمين. قال ابنُ القيّم رحمةُ الله عليه:
وَقد أثنى اللهُ سُبْحَانَهُ على عباده الْمُؤمنِينَ الَّذين يسألونَه أَن يجعلَهَم أَئِمَّةً يُهتدى بهم فَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَات عباده: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، قَالَ ابْن عَبَّاس: يُهتدى بِنَا فِي الْخَيْر، وَقَالَ أَبُو صَالح: يُقْتَدى بهُدانا، وَقَالَ مَكْحُول: أَئِمَّةً فِي التَّقْوَى يَقْتَدِي بِنَا المتقون، وَقَالَ مُجَاهِد: اجْعَلْنَا مؤتمّين بالمتّقين مقتَدِينَ بهم، وأشكلَ هَذَا التَّفْسِير على من لم يعرفْ قَدْرَ فهمِ السّلفِ وعُمقَ علمهمْ، وَقَالَ: يجب أَن تكون الْآيَة على هَذَا القَوْل من بَاب المقلوب على تَقْدِير: وَاجعَل الْمُتَّقِينَ لنا أَئِمَّة، ومعاذ الله أَن يكون شَيْءٌ مقلوباً على وَجهه.
وَهَذَا من تَمام فهم مُجَاهِد رَحمَه الله فَإِنَّهُ لَا يكون الرجل إِمَامًا لِلْمُتقين حَتَّى يأتمَّ بالمتقين، فنبّه مُجَاهِدٌ على هَذَا الْوَجْه الَّذِي ينالونَ بِهِ هَذَا الْمَطْلُوبَ وَهُوَ اقتداؤُهُم بالسَّلف الْمُتَّقِينَ من قبلهم فيجعلهم اللهُ أَئِمَّةً لِلْمُتّقين من بعدهمْ، وَهَذَا من أحسنِ الْفَهم فِي الْقُرْآن وألطفِه، لَيْسَ من بَابِ القلب فِي شيء، فَمن ائتمَّ بِأَهل السُّنَّة قبلَه ائتمَّ بِهِ من بعده وَمن مَعَه.
ووحَّدَ سُبْحَانَهُ لفظ {إِمَامًا} وَلم يقل واجعلنا لِلْمُتقين أَئِمَّة، فَقيل: الإِمَامُ فِي الْآيَة جمُع آم نَحْو صَاحبٌ وصِحاب، وَهَذَا قَول "الْأَخْفَش" وَفِيه بُعدٌ وَلَيْسَ هُوَ من اللُّغَة الْمَشْهُورَة المستعملة الْمَعْرُوفَة حَتَّى يُفَسَّر بهَا كَلَام الله.
وَقَالَ آخَرُونَ: الإِمَام هُنَا مصدرٌ لَا اسم، يُقَالُ: أمَّ إِمَامًا نَحْو صَامَ صياماً وَقَامَ قيَاماً أَي اجْعَلْنَا ذَوي إِمَامٍ وَهَذَا أَضْعَفُ من الَّذِي قبله. وَقَالَ الفرّاءُ: إِنَّمَا قَالَ {إِمَامًا} وَلم يقل أَئِمَّةً على نَحْو قَوْله: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ وَلم يقل رَسُولَا.
– الشيخ: تمام هذا هو الوجه، نعم
– القارئ: وَهُوَ من الْوَاحِدِ المُرَادِ بِهِ الجمع لقَول الشَّاعِر:
يَا عاذلاتي لَا تُردن مَلامَتي *** إِنَّ العواذلَ لَيْسَ لي بأميرِ
– الشيخ: بأميرِ؟
– القارئ: إي نعم، أَي لَيْسَ لي بأمراء
– الشيخ: أي لَسنَ، إنّ العواذلَ؟
– القارئ: يَا عاذلاتي لَا تُرِدْنَ ملامتي ..
– الشيخ: لا تُرِدْنَ؟
– القارئ: إي نعم أحسن الله إليكم
– الشيخ: من الإرادة؟
– القارئ: إي نعم، لَا تُردنَ ملامتي… إِن العواذل لَيْسَ لي بأميرِ
– الشيخ: إنَّ العواذلَ ليس لي، لسنَ لي، إنّ العواذلَ ليس لي، إنّ العواذلَ لسنَ لي، الظّاهرُ ما يستقيمُ أنّه كذا: لسنَ لي، لسنَ وهذا نونُ النِّسوة، إنّ العواذلَ لسنَ لي، إنّ العواذلَ لسنَ لي بأميرِ، نعم.
– القارئ: أحسن الله إليكم، أَي لَيْسَ لي بأمراء. وَهَذَا أحسنُ الْأَقْوَالِ غيرَ أَنّه يحْتَاجُ إِلَى مزِيدِ بَيَان، وَهُوَ أَن الْمُتَّقِينَ كلّهم على طَرِيقٍ وَاحِدٍ ومعبودُهُم وَاحِدٌ وَأَتْبَاعُ كتابٍ وَاحِدٍ وَنَبِيٍ وَاحِدٍ وَعبيدِ ربٍّ وَاحِدٍ، فدينُهم وَاحِدٌ ونبيُّهم وَاحِدٌ وكتابُهم وَاحِدٌ ومعبودُهم وَاحِدٌ فكأنّهم كّلهُم إِمَامٌ وَاحِدٌ لِمَن بعدَهَم، ليسو كالأئمّةِ الْمُخْتَلِفين الَّذين قد اخْتلفت طرائِقُهُم ومذاهبُهُم وعقائدُهُم، فالإئتمام إِنَّمَا هُوَ بما هم عَلَيْهِ وَهُوَ شَيءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الإِمَام فِي الْحَقِيقَة. فصلٌ
– الشيخ: إلى هنا بس [فقط].
– القارئ: أحسن الله إليكم.
– الشيخ: لا إله إلا الله، وش [ما] أولَ ما قرأت؟ اقرأ
– القارئ: قد أثنى الله تعالى، قد أثنى الله سبحانه على عباده الْمُؤمنِينَ الَّذين يسألونَه أَن يجعلَهُم أَئِمَّة يُهتدى بهم
– الشيخ: خلاص خلاص، لا إله إلا الله، هذا من أنفعِ الدُّعاءِ لأنّ هذا الدّعاءَ يتضمّنُ أن يكونَ سؤالَ اللهِ أن يجعلَ عبدَه من المتّقين، لأنّه لا يكونُ إماماً للمتّقين إلّا من كان تقيّاً.
فهذا الدّعاءُ يتضمّن: اللهمّ اجعلنا من المتّقيين، ولكن هذا فيه زيادةٌ وهو أن نكونَ متّقينَ وقدوةً يقتدي بنا من بعدُنا، يقتدي بنا المتّقون، واجعلنا للمتّقين إماماً، ولأنّه إذا كان العبدُ قدوةً كانَ له مِثْلُ أجرِ من اقتدى به في التّقوى وفي سائِرِ الأعمالِ الصّالحة، اجعلنا للمتّقين إماماً.
وهذا يتضمَّنُ أنّهم مُقتَدونَ بالمتّقين أيضاً، فمن كان قدوةً للمتّقين وإماماً فهو مُقتدٍ بمتّقينَ قبلَه، وهذا المعنى الذي أشارَ إليه مُجاهدٌ وشرحَهُ ابنُ القيّم، حتى تنتهي الإمامةُ في هذه الأمّةِ تنتهي الإمامةُ إلى إمامٍ المتّقين مطلقًا، وهو نبيّنا محمّدٌ صلّى الله عليه وسلَّم، فإمامُ المتّقين مطلقاً هو الرّسولُ صلّى الله عليه وسلّم إمامُ المتّقين.
وفي الإمامةِ سيادَةٌ، فالإمامُ فالإمامَةُ سيادةٌ ومرتَبَةٌ عاليةٌ، وهذه الإمامةُ الإمامة نفسُها تكونُ في الخيرِ والشرّ، قال اللهُ في بعض بني إسرائيل: وجعلنا منهم، وجعلنا منهم أئمة، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء:73].
وقال في الفريقِ الآخَرِ فرعونَ وقومِه: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص:42].
والإمامُ في الخير يحصلُ له أجورٌ مثلُ أجورِ من كان سبباً في هدايته، من دعا إلى هدىً كان له مثلُ أجورِ من تبعَه، والإمامُ في الشرّ يكونُ له وعليه مثلُ أوزارِ من تبعه، لأنّه المتسبّبُ، صارَ قدوةً في الشرّ، لا إله إلا الله.