بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح (رسالة ابن القيّم إلى أحد إخوانه)
الدّرس الخامس عشر
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. قال ابنُ القيِّم -رحمهُ اللهُ تعالى- في رسالتِهِ إلى أحدِ إخوانه:
فصلٌ؛ المشهدُ السَّادِسُ: مشهدُ التَّقْصِير، وَأَنّ العَبدَ لَو اجتهدَ فِي القيامِ بِالأَمرِ غَايَةَ الِاجتِهَادِ وبذلَ وسعهُ فَهُوَ مقصِّرٌ، وَحقُّ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ أعظمُ، وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَن يُقابلَ بِهِ من الطَّاعَةِ والعُبوديّةِ والخِدمةِ فَوقَ ذَلِك بكثيرٍ.
– الشيخ: والذي ينبغي له؟
– القارئ: وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَن يُقِابِلَ بِهِ، أن يُقابَل به.
– الشيخ: اقرأ "أن يُقابِل به"
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، أَن يُقَابِلَ بِهِ من الطَّاعَةِ والعُبوديّةِ والخِدمةِ فَوقَ ذَلِك بِكَثِيرٍ.
– الشيخ: ايش [ماذا]؟ والذي ينبغي له؟
– القارئ: وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَن يُقَابِل، كأنّها لو يُقابَل به
– الشيخ: لا لا، أن يقابِل به، ايش؟
– القارئ: أَن يُقَابِل بِهِ من الطَّاعَةِ والعُبوديّة
– الشيخ: اصبر… نعم من الطّاعة
– القارئ: أحسن الله إليكم، من الطَّاعَة والعبوديّة والخِدمةِ فَوقَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، وَأَنَّ عَظَمَتَهُ وجَلَالَهُ سُبْحَانَهُ يَقْتَضِي من الْعُبُودِيَّة مَا يَلِيقُ بهَا.
وَإِذا كَانَ خَدَمُ المُلُوكِ وعبيدُهُم يُعاملونَهم فِي خِدمتِهِم بالإجلالِ لَهُم والتّعظيمِ والاحترامِ والتّوقيرِ وَالحيَاءِ والمَهابةِ والخَشيةِ والنُّصحِ، بِحَيْثُ يفرِّغونَ قُلُوبَهم وجوارحَهم لَهُم، فمالكُ الْمُلُوكِ وَربُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أولى أَن يُعَامَلَ بذلك بل بأضعافِ ذَلِك.
وَإِذا شهدَ العَبْدُ من نَفسِهِ أَنّه لم يُوفّ ربَّه فِي عبوديتِه حَقَّه، وَلَا قَرِيباً من حَقِّه، عَلَمَ تَقْصِيرَهُ وَلم يَسعهُ مَعَ ذَلِك غير الاسْتِغْفَارِ والاعتذارِ من تَقْصِيره وتفريطِه وَعدمِ القيامِ بِمَا يَنْبَغِي لَهُ من حَقِّه، وَأَنَّه إِلَى أَن يغْفرَ لَهُ الْعُبُودِيَّة وَيَعْفُو عَنهُ فِيهَا أحْوجُ مِنْهُ إِلَى أَن يطلبَ مِنْهُ عَلَيْهَا ثَوابًا، وَهُوَ لو وفَّاها حَقّهَا كَمَا يَنْبَغِي لكَانَتْ مُسْتَحقَّةً عَلَيْهِ بِمُقْتَضى الْعُبُودِيَّة، فَإِنّ عملَ العَبدِ وخدمتِه لسَيِّدِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِحكمِ كَونِه عَبدُه ومملوكُه، فَلَو طَلَبَ مِنْهُ الْأُجْرَةَ على عملِهِ وخدمتِه، لَعدَّه النَّاسُ أَحمَقٌ وأخْرَقٌ.
هَذَا وَلَيْسَ هُوَ عَبدُه وَلَا مَمْلُوكُه على الْحَقِيقَة، وَهُوَ عبدُ اللهِ ومملوكُه على الْحَقِيقَة من كلِّ وَجهٍ لله سُبْحَانَهُ. فعملُه وخدمتُه مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِحكم كَونه عَبدَهُ فَإِذا أثابَه عَلَيْهِ كَانَ ذَلِك مُجَرّد فضلٍ ومِنَّةٍ وإحسانٍ إِلَيْهِ لَا يسْتَحقّهُ العَبْدُ عَلَيْهِ.
وَمن هَهُنَا يُفهَمُ معنى قَولِ النَّبِيِّ -صلّى الله عَلَيْهِ وَسلم-: (لن يَدخلَ أحدٌ مِنْكُم الْجنَّةَ بِعَمَلِهِ)، قَالُوا: وَلَا أَنْت يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: (وَلَا أَنا إِلَّا أَنْ يتغمَّدني اللهُ برحمةٍ منهُ وَفضلٍ).
وَقَالَ أنسُ بنُ مَالكٍ رَضِي الله عَنهُ: يُخرَجُ للْعَبد يَومَ القِيَامَةِ ثَلَاثَةُ دواوين، ديوَانٌ فِيهِ حَسَنَاتُه، وديوانٌ فِيهِ سيئاتُه، وديوانُ النِّعمِ الَّتِي أنعمَ اللهُ عَلَيْهِ بهَا، فَيَقُولُ الرّبُّ تَعَالَى لنِعَمِه: "خذي حَقَّكِ من حَسَنَاتِ عَبدِي"، فَيقومُ أصغرُها فتستنفذُ حَسَنَاتِه، ثمَّ تَقولُ: وَعزَّتِك مَا استوفيتُ حَقّي بعدُ، فَإِذا أَرَادَ اللهُ أَن يرحمَ عَبدَه وَهَبَهُ نِعَمَهُ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ سيئاتِه وضاعفَ لَهُ حَسَنَاته.
وَهَذَا ثَابتٌ عَن أنسٍ -رضي الله عنه-، وَهُوَ أدلُّ شَيءٍ على كَمَالِ عِلمِ الصَّحَابَةِ برَبِّهمْ وحقوقِه عَلَيْهِم، كَمَا أَنَّهم أعلمُ الْأمّةِ بِنَبِيِّهِمْ وسنَّتِهِ وَدينِه، فَإِنَّ فِي هَذَا الأَثرِ من العلمِ والمعرفةِ مَا لَا يُدْرِكهُ إِلَّا أولو البصائر، العارفون بِاللَّهِ وأسمائِه وَصِفَاتِه وَحقِّه.
وَمن هُنَا يُفهَمُ قَولُ النَّبِيِّ -صلَّى الله عَلَيْهِ وَسلَّم- فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالإِمَامُ أَحمدُ من حَدِيث زيدِ بن ثَابتٍ وَحُذَيْفَةَ وَغَيرهمَا: (إِنَّ اللهَ لو عذَّبَ أهلَ سمواتِه وَأهلَ أرضِه لعذَّبَهَم وَهُوَ غيرُ ظَالمٍ لَهُم، وَلَو رَحِمهم لكَانَتْ رَحمتُه خيراً لَهُم من أَعمَالِهِم). فصلٌ..
– الشيخ: فصلٌ ايش؟
– القارئ: هذه آخرُ شيء في الرسالة، وملاكُ هَذَا الشَّأْنِ أَرْبَعَةُ أُمُور.
– الشيخ: بس [فقط] يكفي.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم.
– الشيخ: لا إله إلّا الله، مشهدُ التَّقصير معناه أنّ الإنسانَ مهما عَمِلَ من الأعمالِ الصَّالحةِ ينبغي ألّا يُدري على الله بعملِهِ، ولا يَرَى عملَه، ويرى أنَّه يعني قد أدَّى حقَّ اللهِ، أدَّى حقَّ الله، لا، حقُّ اللهِ عظيمٌ، حقُّ اللهِ عظيمٌ، لا يَقدرُ العبدُ أن يأتي به، حقُّ الله عظيمٌ لكن على الإنسان أنْ يَفعلَ ما يستطيعُ، فَاتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم.
فمن الجهلِ أن يعملَ، أن يَغترَّ الإنسانُ بعملِهِ وأنْ يُخالِجَ قلبَهُ أنَّه قد وفَّى حقَّ اللهِ وأطاعَهُ الطَّاعةَ اللائقةَ بالله، لأ، جاءَ أنَّ الملائكةَ وهم الّذين يُسبِّحونَ الّليلَ والنّهارَ لا يَفترون ولا يسأمون، أنَّهم يقولونَ يومَ القيامة: "ربّنا ما عبدناك حقَّ عبادتِك".
فحقُّهُ على عبادِهِ لا يستطيعُ أحدٌ أن يوَفِّيَه، فمن الجهلِ أن يُعجَبَ الإنسانُ بعملِهِ، بل عليه أنْ يشعرَ بالتّقصير، وشعورُهُ بالتَّقصير يحملُهُ على الاستغفارِ والإكثارِ من التَّوبة، يستغفرُ اللهَ ويتوبُ إليه كما كان النّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- يعدُّونَ له في المجلسِ الواحدِ أكثرَ من سبعينَ مرَّة يقول: (أستغفر الله وأتوب إليه، اللهم اغفر لي وتب عليّ، اللهم اغفر لي وتب عليّ)، أو كما جاءَ عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-.